المقاصد
والنيات هي محل نظر الله جل وعلا , وهي من الأعمال بمثابة الروح من الجسد ,
فكيف يكون حال الجسد إذا نزعت منه الروح , وكيف يكون حال شجرة اجتثت من
فوق الأرض ما لها من قرار , وكل عبادة لم تقم على نية صالحة ومقصد شرعي
صحيح , فإنها في ميزان الله هباء تذروه الرياح , وسراب إذا طلبه صاحبه لم
يجده شيئا , من أجل ذلك عني الشرع عناية عظيمة بإصلاح مقاصد العباد ونياتهم
, وورد في ذلك الكثير من النصوص في الكتاب والسنة .
ومن الأحاديث العظيمة التي وضحت هذا المعنى الحديث الذي في الصحيحين عن
عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(
إنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امرئ ما نوى , فمن كانت هجرته إلى الله
ورسوله , فهجرته إلى الله ورسوله , ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة
ينكحها , فهجرته إلى ما هاجر إليه ).فهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور عليها الدين , ولذلك صدر به أهل العلم كتبهم , وابتدؤوا به مصنفاتهم , قال الإمام
الشافعي رحمه الله : ( هذا الحديث ثلث العلم , ويدخل في سبعين بابا من أبواب الفقه
, وما ترك لمبطل ولا مضار ولا محتال حجة إلى لقاء الله تعالى ) .
والنية هي القصد الباعث على العمل , ومقاصد العباد تختلف اختلافا عظيما بحسب ما يقوم في القلب .
فقوله صلى
الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) يعني أحد أمرين الأول : أن
وقوعها واعتبارها شرعا لا يكون إلا بالنية , فكل عمل اختياري يفعله العبد
لا بد له من نية باعثة على هذا العمل , والثاني أن صحة هذه الأعمال وفسادها
, وقبولَها وردَّها , والثواب عليها وعدمه لا يكون إلا بالنية .
فالعبادات
والأعمال الصالحة بأنواعها , من طهارة وصلاة وزكاة وصوم وحج وغيرها لا تصح
ولا تعتبر شرعا إلا بقصدها ونيتها ، بمعنى أن ينوي تلك العبادة المعينة دون
غيرها , فلا بد من النية لتمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر مثلا , ولا بد
منها لتمييز صيام الفريضة عن صيام النافلة , وهكذا .
وكما أن
النية مطلوبة لتمييز العبادات بعضها عن بعض , فهي مطلوبة أيضا لتمييز
العادة عن العبادة , فالغسل مثلاً يقع للنظافة والتبريد ، ويقع عن الحدث
الأكبر ، وعن الجمعة ، والنية هي التي تحدد ذلك , وهذا المعنى للنية هو
الذي يذكره الفقهاء في كلامهم .
وأما المعنى
الثاني , فهو تمييز المقصود بهذا العمل , هل هو الله وحده لا شريك له , أم
غيره, ففيه دعوة للعبد إلى إخلاص العمل لله في كل ما يأتي وما يذر , وفي كل
ما يقول ويفعل , فيحرص كل الحرص على تحقيق الإخلاص وتكميله ، ودفع كل ما
يضاده من رياء أوسمعة ، أوقصد الحمد والثناء من الخلق ، وهذا المعنى هو
الذي يرد ذكره كثيرا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة , ولذلك
قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : (
وإنما لكل امرئ ما نوى ) , أي أنه ليس للإنسان من عمله إلا ما نواه من خير أو شر , فمن نوى نية
حسنة تقربه إلى الله , فله من الثواب والجزاء على قدر نيته , ومن نقصت نيته
وقصده نقص ثوابه , ومن اتجهت نيته إلى غير ذلك من المقاصد الدنيئة فاته
الأجر والثواب , وحصل على ما نواه .
ثم ضرب النبي
صلى الله عليه وسلم مثالا للأعمال التي صورتها واحدة , واختلف صلاحها
وفسادها بسبب اختلاف نيات أصحابها , وهو مثال الهجرة من دار الكفر إلى دار
الإسلام , كما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام , فأخبر أن
هذه الهجرة تختلف باختلاف النيات والمقاصد منها , فمن هاجر إلى دار الإسلام
حبا لله ورسوله ورغبة في تعلم دين الإسلام , وإظهار شعائره التي يعجز عنها
في دار الشرك , فهذا هو المهاجر حقا , وهو الذي يحصل أجر الهجرة إلى الله
ورسوله , ومن هاجر لأمر من أمور الدنيا , أو لامرأة في دار الإسلام يرغب في
نكاحها , فهذا ليس بمهاجر إلى الله ورسوله على الحقيقة , وليس له من هجرته
إلا ما نواه .
وسائر
الأعمال الصالحة في هذا المعنى كالهجرة , فإن صلاحها وفسادها بحسب النية
الباعثة عليها , وحين سئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة أو حمية
أو ليُرَى مكانُه , أيُّ ذلك في سبيل الله ؟ قال :
( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) كما في الصحيحين , وقال تعالى في اختلاف النفقة بحسب النيات :
{ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة ... الآية } (البقرة 265 ) وقال :
{ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ... الآية } (النساء 38) وهكذا جميع الأعمال.
فالأعمال
إنما تتفاضل ويعظم ثوابها بحسب ما يقوم بقلب العبد من الإيمان والإخلاص ،
حتى إن صاحب النية الصادقة يكون له أجر العامل نفسه ولو لم يعمل , ولهذا
لما تخلف نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن غزوة تبوك بسبب بعض
الأعذار الشرعية التي أعاقتهم عن الخروج قال عليه الصلاة والسلام كما في
الصحيح :
( إن بالمدينة أقواماً ما سِرْتُم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر ) .
وكما تجري
النية في العبادات فكذلك تجري في المباحات , فإن قصد العبد بكسبه وأعماله
المباحة , الاستعانة بذلك على القيام بحق الله والواجبات الشرعية , واستصحب
هذه النية الصالحة في أكله وشربه , ونومه وراحته , ومكسبه ومعاشة , أُجر
على تلك النية ، ومن فاته ذلك فقد فاته خير كثير , يقول
معاذ رضي الله عنه ( إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ) , وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( إنك لن تعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا أجرت عليه ، حتى ما تجعله في فيِّ امرأتِك ) ، وأما الحرام فلا يكون قربة بحال من الأحوال حتى لو ادعى الإنسان فيه حسن النية .