تفسير السورة (البقرة)
منتديات السهام الاسلاميه
تفسير السورة   (البقرة) 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا تفسير السورة   (البقرة) 829894
ادارة المنتدي
منتديات السهام الاسلاميه

تفسير السورة   (البقرة) 103798
منتديات السهام الاسلاميه
تفسير السورة   (البقرة) 613623
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجي التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدي
سنتشرف بتسجيلك
شكرا تفسير السورة   (البقرة) 829894
ادارة المنتدي
منتديات السهام الاسلاميه

تفسير السورة   (البقرة) 103798
EnglishFrenchGermanSpainItalianDutchRussianPortugueseJapaneseKorean



أهلا وسهلا بك إلى منتديات السهام الاسلاميه.
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات، بالضغط هنا.كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.

الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلاستماع القران الكريم  تفسير القران الكريم  خطب دينيه  دخولاختصار روابطالبرامج والاسطوانات  تسجيل

أنظم لمتآبعينا بتويتر ...

آو أنظم لمعجبينا في الفيس بوك ...
!~ آخـر 10 مواضيع ~!
شارك اصدقائك شارك اصدقائك أضف لمسة من الأناقة والحداثة لمنزلك مع شيش حصيرة
شارك اصدقائك شارك اصدقائك شيش حصيرة الإيطالي: فن الجمال والأناقة في تصميم النوافذ
شارك اصدقائك شارك اصدقائك أفضل مصانع قطاعات الالومنيوم في مصر تحليل شامل للشركات الرائدة في صناعة الألومنيوم.
شارك اصدقائك شارك اصدقائك أفضل مصانع الألومنيوم حول العالم: تصنيع متطور وجودة عالية
شارك اصدقائك شارك اصدقائك تحليل السوق العالمية لمنتجات الألمنيوم: فرص وتحديات.
شارك اصدقائك شارك اصدقائك دليل خطوة بخطوة لتركيب شيش حصيرة بشكل صحيح
شارك اصدقائك شارك اصدقائك تجربة فريدة: استكشاف معارض مطابخ كيتشن وورش العمل في المصنع
شارك اصدقائك شارك اصدقائك استفد من فوائد شيش حصيرة مع دليل تركيب مبسط.
شارك اصدقائك شارك اصدقائك تحميل برنامج تشغيل الفيديو QQ Player كيوكيو بلاير للويندوز
شارك اصدقائك شارك اصدقائك تحميل برنامج صانع شهادات التقدير للكمبيوتر مجاناً - Certificate Maker
شارك اصدقائك شارك اصدقائك نصائح مهمة لصيانة وإصلاح شيش حصيرة بشكل فعال.
شارك اصدقائك شارك اصدقائك افضل معرض غرف نوم كامله في مصر 2023
الأربعاء فبراير 21, 2024 1:18 pm
الأربعاء فبراير 14, 2024 4:08 pm
الإثنين يناير 08, 2024 2:38 pm
الثلاثاء ديسمبر 26, 2023 12:57 pm
الأحد ديسمبر 17, 2023 1:03 pm
الثلاثاء أكتوبر 31, 2023 3:35 pm
الإثنين أكتوبر 16, 2023 1:30 pm
الإثنين أكتوبر 09, 2023 1:44 pm
الثلاثاء سبتمبر 12, 2023 12:14 pm
الثلاثاء سبتمبر 12, 2023 12:04 pm
الثلاثاء سبتمبر 05, 2023 12:03 pm
الأربعاء أغسطس 02, 2023 10:36 pm
إضغط علي شارك اصدقائك اوشارك اصدقائك لمشاركة اصدقائك!


تفسير السورة   (البقرة) 561574572تفسير السورة   (البقرة) 701786203
اشتراك في مجموعة السهام الاسلاميه
البريد الإلكتروني:
زيارة هذه المجموعة


أنظم لمتآبعينا بتويتر ...

آو أنظم لمعجبينا في الفيس بوك ...
منتديات السهام الاسلاميه :: القران الكريم :: تفسيرالقران

صفحات الموضوعانتقل الى الصفحة : 1, 2, 3  الصفحة التالية
شاطر

تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 3:59 pm
المشاركة رقم: #1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)


{الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)}
بيان الأقوال الواردة في الحروف المقطعة التي في أوائل السور:
اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور، فقال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر. فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر.
وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله عز وجل بها.
قلت: ومن هذا المعنى ما ذكره أبو بكر الأنباري: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا أبو بكر بن أبي طالب حدثنا أبو المنذر الواسطي عن مالك بن مغول عن سعيد بن مسروق عن الربيع بن خثيم قال: إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما أستأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون. قال أبو بكر: فهذا يوضح أن حروفا من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم، اختبارا من الله عز وجل وامتحانا، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد. حدثنا أبو يوسف بن يعقوب القاضي حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عمارة عن حريث بن ظهير عن عبد الله قال: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3].
قلت: هذا القول في المتشابه وحكمه، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في آل عمران إن شاء الله تعالى.
وقال جمع من العلماء كبير: بل يجب أن نتكلم فيها، ونلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروي عن ابن عباس وعلي أيضا: أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها.
وقال قطرب والفراء وغيرهما: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قطرب: كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا: {الم} و{المص} استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم.
وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة.
وقال جماعة: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها، كقول ابن عباس وغيره: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: الألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد.
وروى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله: {الم} قال: أنا الله أعلم، {الر} أنا الله أرى، {المص} أنا الله أفصل. فالألف تؤدي عن معنى أنا، واللام تؤدي عن اسم الله، والميم تؤدي عن معنى أعلم. واختار هذا القول الزجاج وقال: اذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى، وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها، كقوله:
فقلت لها قفي فقالت قاف ***
أراد: قالت وقفت.
وقال زهير:
بالخير خيرات وإن شرا فا *** ولا أريد الشر إلا أن تا
أراد: وإن شرا فشر. وأراد: إلا أن تشاء.
وقال آخر:
نادوهم ألا ألجموا ألا تا *** قالوا جميعا كلهم ألا فا
أراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا.
وفي الحديث: «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة» قال شقيق: هو أن يقول في أقتل: اق، كما قال عليه السلام: «كفى بالسيف شا» معناه: شافيا.
وقال زيد بن أسلم: هي أسماء للسور.
وقال الكلبي: هي أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها، وهي من أسمائه، عن ابن عباس أيضا ورد بعض العلماء هذا القول فقال: لا يصح أن يكون قسما لان القسم معقود على حروف مثل: إن وقد ولقد وما، ولم يوجد هاهنا حرف من هذه الحروف، فلا يجوز أن يكون يمينا. والجواب أن يقال: موضع القسم قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} فلو أن إنسانا حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه، لكان الكلام سديدا، وتكون {لا} جواب القسم. فثبت أن قول الكلبي وما روي عن ابن عباس سديد صحيح. فإن قيل: ما الحكمة في القسم من الله تعالى، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين: مصدق، ومكذب، فالمصدق يصدق بغير قسم، والمكذب لا يصدق مع القسم؟. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه، والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده.
وقال بعضهم: {الم} أي أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ.
وقال قتادة في قوله: {الم} قال اسم من أسماء القرآن. وروي عن محمد بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السورة ليفقه الناس. وقيل غير هذا من الأقوال، فالله أعلم. والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها. واختلف: هل لها محل من الاعراب؟ فقيل: لا، لأنها ليست أسماء متمكنة، ولا أفعالا مضارعة، وإنما هي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية. هذا مذهب الخليل وسيبويه.
ومن قال: إنها أسماء السور فموضعها عنده الرفع على أنها عنده خبر ابتداء مضمر، أي هذه {الم}، كما تقول: هذه سورة البقرة. أو تكون رفعا على الابتداء والخبر ذلك، كما تقول: زيد ذلك الرجل.
وقال ابن كيسان النحوي: {الم} في موضع نصب، كما تقول: اقرأ {الم} أو عليك {الم}.
وقيل: في موضع خفض بالقسم، لقول ابن عباس: إنها أقسام أقسم الله بها.
قوله تعالى: {ذلِكَ الْكِتابُ} قيل: المعنى هذا الكتاب. و{ذلِكَ} قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب، كما قال تعالى في الاخبار عن نفسه جل وعز: {ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، ومنه قول خفاف بن ندبة:
أقول له والرمح يأطر متنه *** تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
أي أنا هذا. ف {ذلِكَ} إشارة إلى القرآن، موضوع موضع هذا، تلخيصه: الم هذا الكتاب لا ريب فيه. وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما، ومنه قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ}... {تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} أي هذه، لكنها لما أنقضت صارت كأنها بعدت فقيل تلك.
وفي البخاري: وقال معمر: {ذلِكَ الْكِتابُ} هذا القرآن. {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} بيان ودلالة، كقوله: {ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} هذا حكم الله.
قلت: وقد جاء هذا بمعنى ذلك، ومنه قوله عليه السلام في حديث أم حرام: «يركبون ثبج هذا البحر» أي ذلك البحر، والله أعلم.
وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب. واختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة، فقيل: {ذلِكَ الْكِتابُ} أي الكتاب الذي كتبت على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق لا رَيْبَ فِيهِ، أي لا مبدل له.
وقيل: ذلِكَ الْكِتابُ، أي الذي كتبت على نفسي في الأزل: «أن رحمتي سبقت غضبي».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أن رحمتي تغلب غضبي» في رواية: «سبقت».
وقيل:
إن الله تعالى قد كان وعد نبيه عليه السلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لابتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان» الحديث.
وقيل: الإشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة.
وقيل: إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} لم يزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستشرفا لإنجاز هذا الوعد من ربه عز وجل، فلما أنزل عليه بالمدينة: {الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1- 2] كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة.
وقيل: إن {ذلِكَ} إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل. و{الم} اسم للقرآن، والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل، يعني أن التوراة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما.
وقيل: إن {ذلِكَ الْكِتابُ} إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما، والمعنى: الم ذانك الكتابان أو مثل ذلك الكتابين، أي هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين، فعبر ب {ذلِكَ} عن الاثنين بشاهد من القرآن، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ} [البقرة: 68] أي عوان بين تينك: الفارض والبكر، وسيأتي.
وقيل: إن {ذلِكَ} إشارة إلى اللوح المحفوظ.
وقال الكسائي: {ذلِكَ} إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد.
وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابا، فالإشارة إلى ذلك الوعد. قال المبرد: المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا.
وقيل: إلى حروف المعجم في قول من قال: {الم} الحروف التي تحديتكم بالنظم منها. والكتاب مصدر من كتب يكتب إذا جمع، ومنه قيل: كتيبة، لاجتماعها. وتكتبت الخيل صارت كتائب. وكتبت البغلة: إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة أو سير، قال:
لا تأمنن فزاريا حللت به *** على قلوصك واكتبها بأسيار
والكتبة بضم الكاف: الخرزة، والجمع كتب. والكتب: الخرز. قال ذو الرمة:
وفراء غرفية أثأى خوارزها *** مشلشل ضيعته بينها الكتب
والكتاب: هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة، وسمي كتابا وإن كان مكتوبا، كما قال الشاعر:
تؤمل رجعة مني وفيها *** كتاب مثل ما لصق الغراء
والكتاب: الفرض والحكم والقدر، قال الجعدي:
يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني *** عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا
قوله تعالى: {لا رَيْبَ} نفي عام، ولذلك نصب الريب به.
وفي الريب ثلاثة معان: أحدها الشك، قال عبد الله بن الزبعري:
ليس في الحق يا أميمة ريب *** إنما الريب ما يقول الجهول
وثانيها التهمة، قال جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتني *** فقلت كلانا يا بثين مريب
وثالثها: الحاجة، قال:
قضينا من تهامة كل ريب *** وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
فكتاب الله تعالى لا شك فيه ولا ارتياب، والمعنى: أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله، وصفه من صفاته، غير مخلوق ولا محدث، وإن وقع ريب للكفار.
وقيل: هو خبر ومعناه النهي، أي لا ترتابوا، وتم الكلام كأنه قال ذلك الكتاب حقا. وتقول: رابني هذا الامر إذا أدخل عليك شكا وخوفا. وأراب: صار ذا ريبة، فهو مريب. ورابني أمره. وريب الدهر: صروفه.
الكلام على هداية القرآن:
وفيه ست مسائل:
قوله تعالى: {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فِيهِ} الهاء في: {فِيهِ} في موضع خفض بفي، وفيه خمسة أوجه، أجودها: فيه هدى ويليه فيه هدى بضم الهاء بغير واو وهي قراءة الزهري وسلام أبي المنذر. ويليه فيهي هدى بإثبات الياء وهي قراءة ابن كثير. ويجوز فيهو هدى بالواو. ويجوز فيه هدى مدغما وارتفع {هُدىً} على الابتداء والخبر {فِيهِ}. والهدى في كلام العرب معناه الرشد والبيان، أي فيه كشف لأهل المعرفة ورشد وزيادة بيان وهدى.
الثانية: الهدى هديان: هدى دلالة، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} [الرعد: 7]. وقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] فالهدى على هذا يجئ بمعنى خلق الايمان في القلب، ومنه قوله تعالى: {أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] وقوله: {وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [فاطر: 8] والهدى: الاهتداء، ومعناه راجع إلى معنى الإرشاد كيفما تصرفت. قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ} [محمد: 54] ومنه قوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] معناه فاسلكوهم إليها.
الثالثة: الهدى لفظ مؤنث قال الفراء: بعض بني أسد تؤنث الهدى فتقول: هذه هدى حسنة.
وقال اللحياني: هو مذكر، ولم يعرب لأنه مقصور والألف لا تتحرك، ويتعدى بحرف وبغير حرف وقد مضى في الفاتحة، تقول: هديته الطريق وإلى الطريق والدار وإلى الدار، أي عرفته. الأولى لغة أهل الحجاز، والثانية حكاها الأخفش.
وفي التنزيل: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} و{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا} [الأعراف: 43] وقيل: إن الهدى اسم من أسماء النهار، لأن الناس يهتدون فيه لمعايشهم وجميع مأربهم، ومنه قول ابن مقبل:
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة *** يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا
الرابعة: قوله تعالى: {لِلْمُتَّقِينَ} خص الله تعالى المتقين بهدايته وإن كان هدى للخلق أجمعين تشريفا لهم، لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه. وروي عن أبى روق أنه قال: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} أي كرامة لهم، يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم. واصل {لِلْمُتَّقِينَ}: للموتقيين بياءين مخففتين، حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء وأدغمت التاء في التاء فصار للمتقين.
الخامسة: التقوى يقال أصلها في اللغة قلة الكلام، حكاه ابن فارس.
قلت: ومنه الحديث: «التقي ملجم والمتقي فوق المؤمن والطائع» وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى، مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزا بينك وبينه، كما قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولته واتقتنا باليد
وقال آخر:
فألقت قناعا دونه الشمس واتقت *** بأحسن موصولين كف ومعصم
وخرج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث سعيد بن زربي أبي عبيدة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال قال يوما لابن أخيه: يا بن أخي ترى الناس ما أكثرهم؟ قال: نعم، قال: لا خير فيهم إلا تائب أو تقي ثم قال: يا بن أخي ترى الناس ما أكثرهم؟ قلت: بلى، قال: لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم.
وقال أبو يزيد البسطامي: المتقي من إذا قال قال لله، ومن إذا عمل عمل لله.
وقال أبو سليمان الداراني: المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات.
وقيل: المتقي الذي اتقى الشرك وبرئ من النفاق. قال ابن عطية: وهذا فاسد، لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق. وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبيا عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، قال فما عملت فيه؟ قال: تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى. وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فنظمه:
خل الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر *** ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة *** إن الجبال من الحصى
السادسة: التقوى فيها جماع الخير كله، وهي وصية الله في الأولين والآخرين، وهي خير ما يستفيده الإنسان، كما قال أبو الدرداء وقد قيل له: إن أصحابك يقولون الشعر وأنت ما حفظ عنك شي، فقال:
يريد المرء أن يؤتى مناه *** ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي *** وتقوى الله أفضل ما استفادا
وروى ابن ماجه في سننه عن أبى أمامة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله». والأصل في التقوى: وقوى على وزن فعلى فقلبت الواو تاء من وقيته أقيه أي منعته، ورجل تقي أي خائف، أصله وقي، وكذلك تقاة كانت في الأصل وقاه، كما قالوا: تجاه وتراث، والأصل وجاه ووراث.

{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}
فيها ست وعشرون مسألة:
الأولى: قوله: {الَّذِينَ} في موضع خفض نعت {لِلْمُتَّقِينَ}، ويجوز الرفع على القطع أي هم الذين، ويجوز النصب على المدح. {يُؤْمِنُونَ} يصدقون. والايمان في اللغة: التصديق، وفي التنزيل: {وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا} أي بمصدق، ويتعدى بالباء واللام، كما قال: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}... {فَما آمَنَ لِمُوسى}.
وروى حجاج بن حجاج الأحول ويلقب بزق العسل قال سمعت قتادة يقول: يا بن آدم، إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط فإن نفسك مائلة إلى السآمة والفترة والملة، ولكن المؤمن هو المتحامل، والمؤمن هو المتقوي، والمؤمن هو المتشدد، وإن المؤمنين هم العجاجون إلى الله الليل والنهار، والله ما يزال المؤمن يقول: ربنا ربنا في السر والعلانية حتى استجاب لهم في السر والعلانية.
الثانية: قوله تعالى: {بِالْغَيْبِ} الغيب في كلام العرب كل ما غاب عنك، وهو من ذوات الياء، يقال منه: غابت الشمس تغيب، والغيبة معروفة. وأغابت المرأة فهي مغيبة إذا غاب عنها زوجها، ووقعنا في غيبة وغيابة، أي هبطه من الأرض، والغيابة: الأجمة، وهي جماع الشجر يغاب فيها، ويسمى المطمئن من الأرض: الغيب، لأنه غاب عن البصر.
الثالثة: واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه. وضعفه ابن العربي.
وقال آخرون: القضاء والقدر.
وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب.
وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها.
قلت: وهذا هو الايمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام حين قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأخبرني عن الايمان. قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره». قال: صدقت. وذكر الحديث.
وقال عبد الله بن مسعود: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3].
قلت: وفي التنزيل: {وَما كُنَّا غائِبِينَ} وقال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ}. فهو سبحانه غائب عن الأبصار، غير مرئي في هذه الدار، غير غائب بالنظر والاستدلال، فهم يؤمنون أن لهم ربا قادرا يجازي على الأعمال، فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس، لعلمهم باطلاعه عليهم، وعلى هذا تتفق الآي ولا تتعارض، والحمد لله.
وقيل: {بِالْغَيْبِ} أي بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين، وهذا قول حسن.
وقال الشاعر:
وبالغيب آمنا وقد كان قومنا *** يصلون للأوثان قبل محمد
الرابعة: قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} معطوف جملة على جملة. وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها، على ما يأتي بيانه. يقال: قام الشيء أي دام وثبت، وليس من القيام على الرجل، وإنما هو من قولك: قام الحق أي ظهر وثبت، قال الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق ***
وقال آخر:
وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا *** حتى تقيم الخيل سوق طعان
وقيل: {يُقِيمُونَ} يديمون، وأقامه أي أدامه، وإلى هذا المعنى أشار عمر بقوله: من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
الخامسة: إقامة الصلاة معروفة، وهي سنة عند الجمهور، وأنه لا إعادة على تاركها. وعند الأوزاعي وعطاء ومجاهد وابن أبي ليلى هي واجبة وعلى من تركها الإعادة، وبه قال أهل الظاهر، وروى عن مالك، واختاره ابن العربي قال: لأن في حديث الأعرابي: «وأقم» فأمره بالإقامة كما أمره بالتكبير والاستقبال والوضوء. قال: فأما أنتم الآن وقد وقفتم على الحديث فقد تعين عليكم أن تقولوا بإحدى روايتي مالك الموافقة للحديث وهي أن الإقامة فرض. قال ابن عبد البر قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وتحريمها التكبير» دليل على أنه لم يدخل في الصلاة من لم يحرم، فما كان قبل الإحرام فحكمه ألا تعاد منه الصلاة إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع كالطهارة والقبلة والوقت ونحو ذلك.
وقال بعض علمائنا: من تركها عمدا أعاد الصلاة، وليس ذلك لوجوبها إذ لو كان ذلك لاستوى سهوها وعمدها، وإنما ذلك للاستخفاف بالسنن، والله أعلم.
السادسة: واختلف العلماء فيمن سمع الإقامة هل يسرع أولا؟ فذهب الأكثر إلى أنه لا يسرع وإن خاف فوت الركعة لقوله عليه السلام: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا». رواه أبو هريرة أخرجه مسلم. وعنه أيضا قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا ثوب بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم ولكن ليمشي وعليه السكينة والوقار صل ما أدركت واقض ما سبقك». وهذا نص. ومن جهة المعنى أنه إذا أسرع انبهر فشوش عليه دخوله في الصلاة وقراءتها وخشوعها. وذهب جماعة من السلف منهم ابن عمر وابن مسعود على اختلاف عنه أنه إذا خاف فواتها أسرع.
وقال إسحاق: يسرع إذا خاف فوات الركعة، وروي عن مالك نحوه، وقال: لا بأس لمن كان على فرس أن يحرك الفرس، وتأوله بعضهم على الفرق بين الماشي والراكب، لأن الراكب لا يكاد أن ينبهر كما ينبهر الماشي.
قلت: واستعمال سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل حال أولى، فيمشي كما جاء الحديث وعليه السكينة والوقار، لأنه في صلاة ومحال أن يكون خبره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خلاف ما أخبره، فكما أن الداخل في الصلاة يلزم الوقار والسكون كذلك الماشي، حتى يحصل له التشبه به فيحصل له ثوابه. ومما يدل على صحة هذا ما ذكرناه من السنة، وما خرجه الدارمي في مسنده قال: حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن كعب بن عجرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا توضأت فعمدت إلى المسجد فلا تشبكن بين أصابعك فإنك في صلاة». فمنع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث وهو صحيح مما هو أقل من الإسراع وجعله كالمصلي، وهذه السنن تبين معنى قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} وأنه ليس المراد به الاشتداد على الاقدام، وإنما عني العمل والفعل، هكذا فسره مالك. وهو الصواب في ذلك والله أعلم.
السابعة: واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام: «وما فاتكم فأتموا» وقوله: «واقض ما سبقك» هل هما بمعنى واحد أو لا؟ فقيل: هما بمعنى واحد وأن القضاء قد يطلق ويراد به التمام، قال الله تعالى: {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} وقال: {فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ}.
وقيل: معناهما مختلف وهو الصحيح، ويترتب على هذا الخلاف خلاف فيما يدركه الداخل هل هو أول صلاته أو أخرها؟ فذهب إلى الأول جماعة من أصحاب مالك منهم ابن القاسم ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة، فيكون بانيا في الافعال قاضيا في الأقوال. قال ابن عبد البر: وهو المشهور من المذهب.
وقال ابن خويز منداد: وهو الذي عليه أصحابنا، وهو قول الأوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل والطبري وداود بن علي.
وروى أشهب وهو الذي ذكره ابن عبد الحكم عن مالك، ورواه عيسى عن ابن القاسم عن مالك، أن ما أدرك فهو آخر صلاته، وأنه يكون قاضيا في الافعال والأقوال، وهو قول الكوفيين. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: وهو مشهور مذهب مالك. قال ابن عبد البر: من جعل ما أدرك أول صلاته فأظنهم راعوا الإحرام، لأنه لا يكون إلا في أول الصلاة، والتشهد والتسليم لا يكون إلا في أخرها، فمن هاهنا قالوا: إن ما أدرك فهو أول صلاته، مع ما ورد في ذلك من السنة من قوله: «فأتموا» والتمام هو الآخر. واحتج الآخرون بقوله: «فاقضوا» والذي يقضيه هو الفائت، إلا أن رواية من روى: «فَأَتِمُّوا» أكثر، وليس يستقيم على قول من قال: إن ما أدرك أول صلاته ويطرد، إلا ما قاله عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون والمزني وإسحاق وداود من أنه يقرأ مع الامام بالحمد وسورة إن أدرك ذلك معه، وإذا قام للقضاء قرأ بالحمد وحدها، فهؤلاء أطرد على أصلهم قولهم وفعلهم، رضي الله عنهم.
الثامنة: الإقامة تمنع من ابتداء صلاة نافلة، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» خرجه مسلم وغيره، فأما إذا شرع في نافلة فلا يقطعها، لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ} وخاصة إذا صلى ركعة منها.
وقيل: يقطعها لعموم الحديث في ذلك. والله أعلم.
التاسعة: واختلف العلماء فيمن دخل المسجد ولم يكن ركع ركعتي الفجر ثم أقيمت الصلاة، فقال مالك: يدخل مع الامام ولا يركعهما، وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف فوات ركعة فليركع خارج المسجد، ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد التي تصلي فيها الجمعة اللاصقة بالمسجد، وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى فليدخل وليصل معه، ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب، ولان يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلي وأفضل من تركهما وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن خشي أن تفوته الركعتان ولا يدرك الامام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه، وإن رجا أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد، ثم يدخل مع الامام وكذلك قال الأوزاعي، إلا أنه يجوز ركوعهما في المسجد ما لم يخف فوت الركعة الأخيرة.
وقال الثوري: إن خشي فوت ركعة دخل معهم ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد.
وقال الحسن بن حي ويقال ابن حيان: إذا أخذ المقيم في الإقامة فلا تطوع إلا ركعتي الفجر.
وقال الشافعي: من دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة دخل مع الامام ولم يركعهما لا خارج المسجد ولا في المسجد. وكذلك قال الطبري وبه قال أحمد بن حنبل وحكي عن مالك، وهو الصحيح في ذلك، لقوله عليه السلام. «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة». وركعتا الفجر إما سنة، وإما فضيلة، وإما رغيبة، والحجة عند التنازع حجة السنة. ومن حجة قول مالك المشهور وأبي حنيفة ما روي عن ابن عمر أنه جاء والامام يصلي صلاة الصبح فصلاهما في حجرة حفصة، ثم إنه صلى مع الامام. ومن حجة الثوري والأوزاعي ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه دخل المسجد. وقد أقيمت الصلاة فصلى إلى أسطوانة في المسجد ركعتي الفجر، ثم دخل الصلاة بمحضر من حذيفة وأبي موسى رضي الله عنهما. قالوا: وإذا جاز أن يشتغل بالنافلة عن المكتوبة خارج المسجد جاز له ذلك في المسجد.
روى مسلم عن عبد الله بن مالك ابن بحينة قال: أقيمت صلاة الصبح فرأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا يصلي والمؤذن يقيم، فقال: «اتصلي الصبح أربعا؟» وهذا إنكار منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرجل لصلاته ركعتي الفجر في المسجد والامام يصلي، ويمكن أن يستدل به أيضا على أن ركعتي الفجر إن وقعت في تلك الحال صحت، لأنه عليه السلام لم يقطع عليه صلاته مع تمكنه من ذلك، والله أعلم.
العاشرة: الصلاة أصلها في اللغة الدعاء، مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا، ومنه قوله عليه السلام: «إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل أي فليدع».
وقال بعض العلماء: إن المراد الصلاة المعروفة، فيصلي ركعتين وينصرف، والأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر. ولما ولدت أسماء عبد الله بن الزبير أرسلته إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت أسماء: ثم مسحه وصلي عليه، أي دعا له.
وقال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي ادع لهم.
وقال الأعشى:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا *** يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي *** نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
وقال الأعشى أيضا:
وقابلها الريح في دنها *** وصلى على دنها وارتسم
ارتسم الرجل: كبر ودعا، قاله في الصحاح.
وقال قوم: هي مأخوذة من الصلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لأنه يأتي في الحلبة ورأسه عند صلوي السابق، فاشتقت الصلاة منه، إما لأنها جاءت ثانية للايمان فشبهت بالمصلي من الخيل، وإما لان الراكع تثنى صلواه. والصلاة: مغرز الذنب من الفرس، والاثنان صلوان. والمصلي: تالي السابق، لأن رأسه عند صلاه.
وقال علي رضي الله عنه: سبق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلي أبو بكر وثلث عمر.
وقيل: هي مأخوذة من اللزوم، ومنه صلي بالنار إذا لزمها، ومنه: {تَصْلى ناراً حامِيَةً} [الغاشية: 4].
وقال الحارث بن عباد:
لم أكن من جناتها علم اللَّـ *** ـه وإني بحرها اليوم صال
أي ملازم لحرها، وكان المعنى على هذا ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به.
وقيل: هي مأخوذة من صليت العود بالنار إذا قومته ولينته بالصلاء. والصلاء: صلاء النار بكسر الصاد ممدود، فإن فتحت الصاد قصرت، فقلت صلا النار، فكأن المصلي يقوم نفسه بالمعاناة فيها ويلين ويخشع، قال الخارزنجي:
فلا تعجل بأمرك واستدمه *** فما صلى عصاك كمستديم
والصلاة: الدعاء والصلاة: الرحمة، ومنه: «اللهم صل على محمد» الحديث. والصلاة: العبادة، ومنه قوله تعالى: {وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ} [الأنفال: 35] الآية، أي عبادتهم. والصلاة: النافلة، ومنه قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه: 132]. والصلاة التسبيح، ومنه قوله تعالى: {فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] أي من المصلين. ومنه سبحة الضحى. وقد قيل في تأويل: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] نصلي. والصلاة: القراءة، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء: 110] فهي لفظ مشترك. والصلاة: بيت يصلي فيه، قاله ابن فارس. وقد قيل: إن الصلاة اسم علم وضع لهذه العبادة، فإن الله تعالى لم يخل زمانا من شرع، ولم يخل شرع من صلاة، حكاه أبو نصر القشيري.
قلت: فعلى هذا القول لا اشتقاق لها، وعلى قول الجمهور وهي:
الحادية عشرة: اختلف الأصوليون هل هي مبقاة على أصلها اللغوي الوضعي الابتدائي، وكذلك الايمان والزكاة والصيام والحج، والشرع إنما تصرف بالشروط والأحكام، أو هل تلك الزيادة من الشرع تصيرها موضوعة كالوضع الابتدائي من قبل الشرع. هنا اختلافهم والأول أصح، لأن الشريعة ثبتت بالعربية، والقرآن نزل بها بلسان عربي مبين، ولكن للعرب تحكم في الأسماء، كالدابة وضعت لكل ما يدب، ثم خصصها العرف بالبهائم فكذلك لعرف الشرع تحكم في الأسماء، والله أعلم.
الثانية عشرة: واختلف في المراد بالصلاة هنا، فقيل: الفرائض.
وقيل: الفرائض والنوافل معا، وهو الصحيح، لأن اللفظ عام والمتقي يأتي بهما.
الثالثة عشرة: الصلاة سبب للرزق، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه: 132] الآية، على ما يأتي بيانه في طه إن شاء الله تعالى. وشفاء من وجع البطن وغيره، روى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: هجر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهجرت فصليت ثم جلست، فالتفت إلي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إشكمت درده قلت: نعم يا رسول الله، قال: قم فصل فإن في الصلاة شفاء». في رواية: «إشكمت درد» يعني تشتكي بطنك بالفارسية، وكان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
الرابعة عشرة: الصلاة لا تصح إلا بشروط وفروض، فمن شروطها: الطهارة، وسيأتي بيان أحكامها في سورة النساء والمائدة. وستر العورة، يأتي في الأعراف القول فيها إن شاء الله تعالى. وأما فروضها: فاستقبال القبلة، والنية، وتكبيرة الإحرام والقيام لها، وقراءة أم القرآن والقيام لها، والركوع والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من الركوع والاعتدال فيه، والسجود والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من السجود، والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه، والسجود الثاني والطمأنينة فيه. والأصل في هذه الجملة حديث أبي هريرة في الرجل الذي علمه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة لما أخل بها، فقال له: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» خرجه مسلم. ومثله حديث رفاعة بن رافع، أخرجه الدارقطني وغيره. قال علماؤنا: فبين قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أركان الصلاة، وسكت عن الإقامة ورفع اليدين وعن حد القراءة وعن تكبير الانتقالات، وعن التسبيح في الركوع والسجود، وعن الجلسة الوسطى، وعن التشهد وعن الجلسة الأخيرة وعن السلام. أما الإقامة وتعيين الفاتحة فقد مضى الكلام فيهما. وأما رفع اليدين فليس بواجب عند جماعة العلماء وعامة الفقهاء، لحديث أبي هريرة وحديث رفاعة بن رافع.
وقال داود وبعض أصحابه بوجوب ذلك عند تكبيرة الإحرام.
وقال بعض أصحابه: الرفع عند الإحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع واجب، وإن من لم يرفع يديه فصلاته باطلة، وهو قول الحميدي، ورواية عن الأوزاعي. واحتجوا بقوله عليه السلام: «صلوا كما رأيتموني أصلي» أخرجه البخاري. قالوا: فوجب علينا أن نفعل كما رأيناه يفعل، لأنه المبلغ عن الله مراده. وأما التكبير ما عدا تكبيرة الإحرام فمسنون عند الجمهور للحديث المذكور. وكان ابن قاسم صاحب مالك يقول: من أسقط من التكبيرة في الصلاة ثلاث تكبيرات فما فوقها سجد للسهو قبل السلام، وإن لم يسجد بطلت صلاته، وإن نسي تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد أيضا للسهو، فإن لم يفعل في شيء عليه، وروي عنه أن التكبيرة الواحدة لا سهو على من سها فيها. وهذا يدل على أن عظم التكبير وجملته عنده فرض، وأن اليسير منه متجاوز عنه.
وقال أصبغ بن الفرج وعبد الله بن عبد الحكم: ليس على من لم يكبر في الصلاة من أولها إلى آخرها شيء إذا كبر تكبيرة الإحرام، فإن تركه ساهيا سجد للسهو، فإن لم يسجد فلا شيء عليه، ولا ينبغي لاحد أن يترك التكبير عامدا، لأنه سنة من سنن الصلاة، فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه وصلاته ماضية.
قلت: هذا هو الصحيح، وهو الذي عليه جماعة فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين وجماعة أهل الحديث والمالكيين غير من ذهب مذهب ابن القاسم. وقد ترجم البخاري رحمه الله (باب إتمام التكبير في الركوع والسجود) وساق حديث مطرف بن عبد الله قال: صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: لقد ذكرني هذا صلاة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو قال: لقد صلى بنا صلاة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وحديث عكرمة قال: رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فأخبرت ابن عباس فقال: أو ليس تلك صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أم لك! فدلك البخاري رحمه الله بهذا الباب على أن التكبير لم يكن معمولا به عندهم. روى أبو إسحاق السبيعي عن يزيد بن أبي مريم عن أبي موسى الأشعري قال: صلى بنا علي يوم الجمل صلاة اذكرنا بها صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يكبر في كل خفض ورفع، وقيام وقعود، قال أبو موسى: فإما نسيناها وإما تركناها عمدا.
قلت: أتراهم أعادوا الصلاة! فكيف يقال من ترك التكبير بطلت صلاته! ولو كان ذلك لم يكن فرق بين السنة والفرض، والشيء إذا لم يجب أفراده لم يجب جميعه، وبالله التوفيق.
الخامسة عشرة: وأما التسبيح في الركوع والسجود فغير واجب عند الجمهور للحديث المذكور، وأوجبه إسحاق بن راهويه، وأن من تركه أعاد الصلاة، لقوله عليه السلام: «أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم».
السادسة عشرة: وأما الجلوس والتشهد فاختلف العلماء في ذلك، فقال مالك وأصحابه: الجلوس الأول والتشهد له سنتان. وأوجب جماعة من العلماء الجلوس الأول وقالوا: هو مخصوص من بين سائر الفروض بأن ينوب عنه السجود كالعرايا من المزابنة، والقراض من الإجارات، وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الامام راكعا. واحتجوا بأنه لو كان سنة ما كان العامد لتركه تبطل صلاته كما لا تبطل بترك سنن الصلاة. احتج من لم يوجبه بأن قال: لو كان من فرائض الصلاة لرجع الساهي عنه إليه حتى يأتي به، كما لو ترك سجدة أو ركعة، ويراعى فيه ما يراعى في الركوع والسجود من الولاء والرتبة، ثم يسجد لسهوه كما يصنع من ترك ركعة أو سجدة وأتى بهما.
وفي حديث عبد الله بن بحينة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام من ركعتين ونسي أن يتشهد فسبح الناس خلفه كيما يجلس فثبت قائما فقاموا، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو قبل التسليم، فلو كان الجلوس فرضا لم يسقطه النسيان والسهو، لأن الفرائض في الصلاة يستوي في تركها السهو والعمد إلا في المؤتم. واختلفوا في حكم الجلوس الأخير في الصلاة وما الغرض من ذلك. وهي:
السابعة عشرة على خمسة أقوال:
أحدها: أن الجلوس فرض والتشهيد فرض والسلام فرض. وممن قال ذلك الشافعي وأحمد بن حنبل في رواية، وحكاه أبو مصعب في مختصره عن مالك وأهل المدينة، وبه قال داود. قال الشافعي: من ترك التشهد الأول والصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا إعادة عليه وعليه سجدتا السهو لتركه. وإذا ترك التشهد الأخير ساهيا أو عامدا أعاد. واحتجوا بأن بيان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة فرض، لأن أصل فرضها مجمل يفتقر إلى البيان إلا ما خرج بدليل وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صلوا كما رأيتموني أصلي». القول الثاني: أن الجلوس والتشهد والسلام ليس بواجب، وإنما ذلك كله سنة مسنونة، هذا قول بعض البصريين، وإليه ذهب إبراهيم بن علية، وصرح بقياس الجلسة الأخيرة على الأولى، فخالف الجمهور وشذ، إلا أنه يرى الإعادة على من ترك شيئا من ذلك كله. ومن حجتهم حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا رفع الامام رأسه من آخر سجدة في صلاته ثم أحدث فقد تمت صلاته» وهو حديث لا يصح على ما قاله أبو عمر، وقد بيناه في كتاب المقتبس. وهذا اللفظ إنما يسقط السلام لا الجلوس.
القول الثالث: إن الجلوس مقدار التشهد فرض، وليس التشهد ولا السلام بواجب فرضا. قاله أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين. واحتجوا بحديث ابن المبارك عن الإفريقي عبد الرحمن بن زياد وهو ضعيف، وفيه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا جلس أحدكم في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته». قال ابن العربي: وكان شيخنا فخر الإسلام ينشدنا في الدرس:
ويرى الخروج من الصلاة بضرطة *** أين الضراط من السلام عليكم
قال ابن العربي: وسلك بعض علمائنا من هذه المسألة فرعين ضعيفين، أما أحدهما: فروى عبد الملك عن عبد الملك أن من سلم من ركعتين متلاعبا، فخرج البيان أنه إن كان على أربع أنه يجزئه، وهذا مذهب أهل العراق بعينه. وأما الثاني: فوقع في الكتب المنبوذة أن الامام إذا أحدث بعد التشهد متعمدا وقيل السلام أنه يجزئ من خلفه، وهذا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه في الفتوى، وإن عمرت به المجالس للذكرى. القول الرابع: إن الجلوس فرض والسلام فرض، وليس التشهد بواجب. وممن قال هذا مالك بن أنس وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية. واحتجوا بأن قالوا: ليس شيء من الذكر يجب إلا تكبيرة الإحرام وقراءة أم القرآن. القول الخامس: أن التشهد والجلوس واجبان، وليس السلام بواجب، قاله جماعة منهم إسحاق بن راهويه، واحتج إسحاق بحديث ابن مسعود حين علمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد وقال له: «إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك وقضيت ما عليك». قال الدارقطني: قوله: «إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك» أدرجه بعضهم عن زهير في الحديث، ووصله بكلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفصله شبابة عن زهير وجعله من كلام ابن مسعود، وقوله أشبه بالصواب من قول من أدرجه في حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وشبابة ثقة. وقد تابعه غسان بن الربيع على ذلك، جعل آخر الحديث من كلام ابن مسعود ولم يرفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثامنة عشرة: واختلف العلماء في السلام، فقيل: واجب، وقيل: ليس بواجب. والصحيح وجوبه لحديث عائشة وحديث علي الصحيح خرجه أبو داود والترمذي ورواه سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم» وهذا الحديث أصل في إيجاب التكبير والتسليم، وأنه لا يجزئ عنهما غيرهما كما لا يجزئ عن الطهارة غيرها باتفاق. قال عبد الرحمن بن مهدي: لو افتتح رجل صلاته بسبعين اسما من أسماء الله عز وجل ولم يكبر تكبيرة الإحرام لم يجزه، وإن أحدث قبل أن يسلم لم يجزه، وهذا تصحيح من عبد الرحمن بن مهدي لحديث علي، وهو إمام في علم الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه. وحسبك به! وقد اختلف العلماء في وجوب التكبير عند الافتتاح وهي:
التاسعة عشرة: فقال ابن شهاب الزهري وسعيد بن المسيب والأوزاعي وعبد الرحمن وطائفة: تكبيرة الإحرام ليست بواجبة. وقد روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول، والصحيح من مذهبه إيجاب تكبيرة الإحرام وأنها فرض وركن من أركان الصلاة، وهو الصواب وعليه الجمهور، وكل من خالف ذلك فمحجوج بالسنة.
الموفية عشرين: واختلف العلماء في اللفظ الذي يدخل به في الصلاة، فقال مالك وأصحابه وجمهور العلماء: لا يجزئ إلا التكبير، لا يجزئ منه تهليل ولا تسبيح ولا تعظيم ولا تحميد. هذا قول الحجازيين وأكثر العراقيين، ولا يجزئ عند مالك إلا الله أكبر لا غير ذلك. وكذلك قال الشافعي وزاد: ويجزئ الله الأكبر والله الكبير والحجة لمالك حديث عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}. وحديث علي: وتحريمها التكبير. وحديث الاعرابي: فكبر.
وفي سنن ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وعلي بن محمد الطنافسي قالا: حدثنا أبو أسامة قال حدثني عبد الحميد بن جعفر قال حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال سمعت أبا حميد الساعدي يقول: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة ورفع يديه وقال: الله أكبر. وهذا نص صريح وحديث صحيح في تعيين لفظ التكبير، قال الشاعر:
رأيت الله أكبر كل شيء *** محاولة وأعظمه جنودا
ثم إنه يتضمن القدم، وليس يتضمنه كبير ولا عظيم، فكان أبلغ في المعنى، والله أعلم.
وقال أبو حنيفة: إن افتتح بلا إله إلا الله يجزيه، وإن قال: اللهم اغفر لي لم يجزه، وبه قال محمد بن الحسن.
وقال أبو يوسف: لا يجزئه إذا كان يحسن التكبير. وكان الحكم بن عتيبة يقول: إذا ذكر الله مكان التكبير أجزأه. قال ابن المنذر: ولا أعلمهم يختلفون أن من أحسن القراءة فهلل وكبر ولم يقرأ أن صلاته فاسدة، فمن كان هذا مذهبه فاللازم له أن يقول لا يجزيه مكان التكبير غيره، كما لا يجزئ مكان القراءة غيرها.
وقال أبو حنيفة: يجزئه التكبير بالفارسية وإن كان يحسن العربية. قال ابن المنذر: لا يجزيه لأنه خلاف ما عليه جماعات المسلمين، وخلاف ما علم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته، ولا نعلم أحدا وافقه على ما قال. والله أعلم.
الحادية والعشرون: واتفقت الامة على وجوب النية عند تكبيرة الإحرام إلا شيئا روي عن بعض أصحابنا يأتي الكلام عليه في آية الطهارة، وحقيقتها قصد التقرب إلى الآمر بفعل ما أمر به على الوجه المطلوب منه. قال ابن العربي: والأصل في كل نية أن يكون عقدها مع التلبس بالفعل المنوي بها، أو قبل ذلك بشرط استصحابها، فإن تقدمت النية وطرأت غفلة فوقع التلبس بالعبادة في تلك الحالة لم يعتد بها، كما لا يعتد بالنية إذا وقعت بعد التلبس بالفعل، وقد رخص في تقديمها في الصوم لعظم الحرج في اقترانها بأوله. قال ابن العربي: وقال لنا أبو الحسن القروي بثغر عسقلان: سمعت إمام الحرمين يقول: يحضر الإنسان عند التلبس بالصلاة النية، ويجرد النظر في الصانع وحدوث العالم والنبوات حتى ينتهي نظره إلى نية الصلاة، قال: ولا يحتاج ذلك إلى زمان طويل، وإنما يكون ذلك في أوحى لحظة، لأن تعليم الجمل يفتقر إلى الزمان الطويل، وتذكارها يكون في لحظة، ومن تمام النية أن تكون مستصحبة على الصلاة كلها، إلا أن ذلك لما كان أمرا يتعذر عليه سمح الشرع في عزوب النية في أثنائها. سمعت شيخنا أبا بكر الفهري بال


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 4:01 pm
المشاركة رقم: #2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)


بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: روى ابن جريج عن مجاهد قال: نزلت أربع آيات من سورة البقرة في المؤمنين، واثنتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين.
وروى أسباط عن السدي في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ} قال: هم المنافقون.
وقال علماء الصوفية: الناس اسم جنس، واسم الجنس لا يخاطب به الأولياء.
الثانية: واختلف النحاة في لفظ الناس، فقيل: هو اسم من أسماء الجموع، جمع إنسان وإنسانه، على غير اللفظ، وتصغيره نويس. فالناس من النوس وهو الحركة، يقال: ناس ينوس أي تحرك، ومنه حديث أم زرع: «أناس من حلي أذني».
وقيل: أصله من نسي، فأصل ناس نسي قلب فصار نيس تحركت الياء فانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، ثم دخلت الألف واللام فقيل: الناس. قال ابن عباس: نسي آدم عهد الله فسمي إنسانا.
وقال عليه السلام: «نسي آدم فنسيت ذريته».
وفي التنزيل: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115] وسيأتي. وعلى هذا فالهمزة زائدة، قال الشاعر:
لا تنسين تلك العهود فإنما *** سميت إنسانا لأنك ناسي
وقال آخر:
فإن نسيت عهودا منك سالفة *** فاغفر فأول ناس أول الناس
وقيل: سمي إنسانا لأنسه بحواء.
وقيل: لأنسه بربه، فالهمزة أصلية، قال الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لأنسه *** ولا القلب إلا أنه يتقلب
الثالثة: لما ذكر الله جل وتعالى المؤمنين أولا، وبدأ بهم لشرفهم وفضلهم، ذكر الكافرين في مقابلتهم، إذ الكفر والايمان طرفان. ثم ذكر المنافقين بعدهم وألحقهم بالكافرين قبلهم، لنفي الايمان عنهم بقوله الحق: {وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}. ففي هذا رد على الكرامية حيث قالوا: إن الايمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب، واحتجوا بقوله تعالى: {فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا} [المائدة: 85]. ولم يقل: بما قالوا وأضمروا، وبقوله عليه السلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم». وهذا منهم قصور وجمود، وترك نظر لما نطق به القرآن والسنة من العمل مع القول والاعتقاد، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الايمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان». أخرجه ابن ماجه في سننه. فما ذهب إليه محمد بن كرام السجستاني وأصحابه هو النفاق وعين الشقاق، ونعوذ بالله من الخذلان وسوء الاعتقاد.
الرابعة: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: المؤمن ضربان: مؤمن يحبه الله ويواليه، ومؤمن لا يحبه الله ولا يواليه، بل يبغضه ويعاديه، فكل من علم الله أنه يوافي بالايمان، فالله محب له، موال له، راضي عنه. وكل من علم الله أنه يوافي بالكفر، فالله مبغض له، ساخط عليه، معاد له، لا لأجل إيمانه، ولكن لكفره وضلاله الذي يوافي به. والكافر ضربان: كافر يعاقب لا محالة، وكافر لا يعاقب. فالذي يعاقب هو الذي يوافي بالكفر، فالله ساخط عليه معاد له. والذي لا يعاقب هو الموافي بالايمان، فالله غير ساخط على هذا ولا مبغض له، بل محب له موال، لا لكفره لكن لإيمانه الموافي به. فلا يجوز أن يطلق القول وهي: الخامسة بأن المؤمن يستحق الثواب، والكافر يستحق العقاب، بل يجب تقييده بالموافاة، ولأجل هذا قلنا: إن الله راضي عن عمر في الوقت الذي كان يعبد الأصنام، ومزيد لثوابه ودخوله الجنة، لا لعبادته الصنم، لكن لإيمانه الموافي به. وإن الله تعالى ساخط على إبليس في حال عبادته، لكفره الموافي به. وخالفت القدرية في هذا وقالت: إن الله لم يكن ساخطا على إبليس وقت عبادته، ولا راضيا عن عمر وقت عبادته للصنم. وهذا فاسد، لما ثبت أن الله سبحانه عالم بما يوافي به إبليس لعنه الله، وبما يوافي به عمر رضي الله عنه فيما لم يزل، فثبت أنه كان ساخطا على إبليس محبا لعمر. ويدل عليه إجماع الامة على أن الله سبحانه وتعالى غير محب لمن علم أنه من أهل النار، بل هو ساخط عليه، وأنه محب لمن علم أنه من أهل الجنة، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإنما الأعمال بالخواتيم» ولهذا قال علماء الصوفية: ليس الايمان ما يتزين به العبد قولا وفعلا، لكن الايمان جرى السعادة في سوابق الأزل، وأما ظهوره على الهياكل فربما يكون عاريا، وربما يكون حقيقة.
قلت: هذا كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها». فإن قيل وهي:
السادسة: فقد خرج الامام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد المصري من حديث محمد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة، وهو محمد بن أبي قيس، عن سليمان بن موسى وهو الأشدق، عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس أخبرنا أبو رزين العقيلي قال قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأشربن أنا وأنت يا أبا رزين من لبن لم يتغير طعمه قال قلت: كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أما مررت بأرض لك مجدبة ثم مررت بها مخصبة ثم مررت بها مجدبة ثم مررت بها مخصبة قلت: بلى. قال: كذلك النشور قال قلت: كيف لي أن أعلم أني مؤمن؟ قال: ليس أحد من هذه الامة قال ابن أبي قيس: أو قال من أمتي عمل حسنة وعلم أنها حسنة وأن الله جازيه بها خيرا أو عمل سيئة وعلم أنها سيئة وأن الله جازيه بها شرا أو يغفرها إلا مؤمن».
قلت: وهذا الحديث وإن كان سنده ليس بالقوي فإن معناه صحيح وليس بمعارض لحديث ابن مسعود، فإن ذلك موقوف على الخاتمة، كما قال عليه السلام: «وإنما الأعمال بالخواتيم». وهذا إنما يدل على أنه مؤمن في الحال، والله أعلم.
السابعة: قال علماء اللغة: إنما سمي المنافق منافقا لإظهاره غير ما يضمر، تشبيها باليربوع، له جحر يقال له: النافقاء، وآخر يقال له: القاصعاء. وذلك أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض أرق التراب، فإذا رابه ريب دفع ذلك التراب برأسه فخرج، فظاهر جحره تراب، وباطنه حفر. وكذلك المنافق ظاهره إيمان، وباطنه كفر، وقد تقدم هذا المعنى.

{يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)}
قال علماؤنا: معنى: {يُخادِعُونَ اللَّهَ} أي يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم.
وقيل: قال ذلك لعملهم عمل المخادع.
وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يخادعون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن الحسن وغيره. وجعل خداعهم لرسوله خداعا له، لأنه دعاهم برسالته، وكذلك إذا خادعوا المؤمنين فقد خادعوا الله. ومخادعتهم: ما أظهروه من الايمان خلاف ما أبطنوه من الكفر، ليحقنوا دماءهم وأموالهم، ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا، قاله جماعة من المتأولين.
وقال أهل اللغة: أصل المخدع في كلام العرب الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الاعرابي. وأنشد:
أبيض اللون لذيذ طعمه *** طيب الريق إذا الريق خدع
قلت: ف {يُخادِعُونَ اللَّهَ} على هذا، أي يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله تعالى بالرياء. وكذا جاء مفسرا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما يأتي.
وفي التنزيل: {يُراؤُنَ النَّاسَ} [النساء: 142] وقيل: أصله الإخفاء، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء، حكاه ابن فارس وغيره. وتقول العرب: انخدع الضب في جحره.
قوله تعالى: {وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} نفي وإيجاب، أي ما تحل عاقبة الخدع إلا بهم. ومن كلامهم: من خدع من لا يخدع فإنما يخدع نفسه. وهذا صحيح، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه. ودل هذا على أن المنافقين لم يعرفوا الله إذ لو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع، وقد تقدم من قوله عليه السلام أنه قال: «لا تخادع الله فإنه من يخادع الله يخدعه الله ونفسه يخدع لو يشعر قالوا: يا رسول الله، وكيف يخادع الله؟ قال: تعمل بما أمرك الله به وتطلب به غيره». وسيأتي بيان الخدع من الله تعالى كيف هو عند قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: {يخادعون} في الموضعين، ليتجانس اللفظان. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: {يَخْدَعُونَ} الثاني. والمصدر خدع بكسر الخاء وخديعة، حكى ذلك أبو زيد. وقرأ مورق العجلي: {يخدعون الله} بضم الياء وفتح الخاء وتشديد الدال على التكثير. وقرأ أبو طالوت عبد السلام بن شداد والجارود بضم الياء وإسكان الخاء وفتح الدال، على معنى وما يخدعون إلا عن أنفسهم، فحذف حرف الجر، كما قال تعالى: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] أي من قومه.
قوله تعالى: {وَما يَشْعُرُونَ} أي يفطنون أن وبال خدعهم راجع عليهم، فيظنون أنهم قد نجوا بخدعهم وفازوا، وإنما ذلك في الدنيا، وفي الآخرة يقال لهم: {ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} [الحديد: 13] على ما يأتي. قال أهل اللغة: شعرت بالشيء أي فطنت له، ومنه الشاعر لفطنته، لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره من غريب المعاني. ومنه قولهم: ليت شعري، أي ليتني علمت.

{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)}
قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ابتداء وخبر. والمرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائدهم. وذلك إما أن يكون شكا ونفاقا، وإما جحدا وتكذيبا. والمعنى: قلوبهم مرضى لخلوها عن العصمة والتوفيق والرعاية والتأييد. قال ابن فارس اللغوي: المرض كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في امر. والقراء مجمعون على فتح الراء من {مَرَضٌ} إلا ما روى الأصمعي عن أبي عمرو أنه سكن الراء.
قوله تعالى: {فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} قيل: هو دعاء عليهم. ويكون معنى الكلام: زادهم الله شكا ونفاقا جزاء على كفرهم وضعفا عن الانتصار وعجزا عن القدرة، كما قال الشاعر:
يا مرسل الريح جنوبا وصبا *** إذ غضبت زيد فزدها غضبا
أي لا تهدها على الانتصار فيما غضبت منه. وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز الدعاء على المنافقين والطرد لهم، لأنهم شر خلق الله.
وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم، أي فزادهم الله مرضا إلى مرضهم، كما قال في آية أخرى: {فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125].
وقال أرباب المعاني: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي بسكونهم إلى الدنيا وحبهم لها وغفلتهم عن الآخرة وإعراضهم عنها. وقوله: {فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} أي وكلهم إلى أنفسهم، وجمع عليهم هموم الدنيا فلم يتفرغوا من ذلك إلى اهتمام بالدين. {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} بما يفنى عما يبقى.
وقال الجنيد: علل القلوب من اتباع الهوى، كما أن علل الجوارح من مرض البدن.
قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}... {أَلِيمٌ} في كلام العرب معناه مؤلم أي موجع، مثل السميع بمعنى المسمع، قال ذو الرمة يصف إبلا:
ونرفع من صدور شمردلات *** يصك وجوهها وهج أليم
وآلم إذا أوجع. والإيلام: الايجاع. والألم: الوجع، وقد ألم يألم ألما. والتألم: التوجع. ويجمع أليم على الماء مثل كريم وكرماء، وآلام مثل أشراف.
قوله تعالى: {بِما كانُوا يَكْذِبُونَ} ما مصدرية، أي بتكذيبهم الرسل وردهم على الله عز وجل وتكذيبهم بآياته، قاله أبو حاتم. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف، ومعناه بكذبهم وقولهم آمنا وليسوا بمؤمنين. مسألة: واختلف العلماء في إمساك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل المنافقين مع علمه بنفاقهم على أربعة أقوال:
القول الأول: قال بعض العلماء: إنما لم يقتلهم لأنه لم يعلم حالهم أحد سواه. وقد اتفق العلماء على بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإنما اختلفوا في سائر الأحكام. قال ابن العربي: وهذا منتقض، فقد قتل بالمجذر بن زياد الحارث بن سويد بن الصامت، لأن المجذر قتل أباه سويدا يوم بعاث، فأسلم الحارث وأغفله يوم أحد فقتله، فأخبر به جبريل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقتله به، لأن قتله كان غيلة، وقتل الغيلة حد من حدود الله.
قلت: وهذه غفلة من هذا الامام، لأنه إن ثبت الإجماع المذكور فليس بمنتقض بما ذكر، لأن الإجماع لا ينعقد ولا يثبت إلا بعد موت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانقطاع الوحي، وعلى هذا فتكون تلك قضية في عين بوحي، فلا يحتج بها أو منسوخة بالإجماع. والله أعلم.
القول الثاني: قال أصحاب الشافعي: إنما لم يقتلهم لان الزنديق وهو الذي يسر الكفر ويظهر الايمان يستتاب ولا يقتل. قال ابن العربي: وهذا وهم، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستتبهم ولا نقل ذلك أحد، ولا يقول أحد إن استتابة الزنديق واجبة وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معرضا عنهم مع علمه بهم. فهذا المتأخر من أصحاب الشافعي الذي قال: إن استتابة الزنديق جائزة قال قولا لم يصح لاحد.
القول الثالث: إنما لم يقتلهم مصلحة لتأليف القلوب عليه لئلا تنفر عنه، وقد أشار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذا المعنى بقوله لعمر: «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي» أخرجه البخاري ومسلم. وقد كان يعطي للمؤلفة قلوبهم مع علمه بسوء اعتقادهم تألفا، وهذا هو قول علمائنا وغيرهم. قال ابن عطية. وهي طريقة أصحاب مالك رحمه الله في كف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المنافقين، نص على هذا محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون، واحتج بقوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 60] إلى قوله: {وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 61]. قال قتادة: معناه إذا هم أعلنوا النفاق. قال مالك رحمه الله: النفاق في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الزندقة فينا اليوم، فيقتل الزنديق إذا شهد عليه بها دون استتابة، وهو أحد قولي الشافعي. قال مالك: وإنما كف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المنافقين ليبين لامته أن الحاكم لا يحكم بعلمه، إذ لم يشهد على المنافقين. قال القاضي إسماعيل: لم يشهد على عبد الله بن أبي إلا زيد بن أرقم وحده، ولا على الجلاس بن سويد إلا عمير بن سعد ربيبه، ولو شهد على أحد منهم رجلان بكفره ونفاقه لقتل.
وقال الشافعي رحمه الله محتجا للقول الآخر: السنة فيمن شهد عليه بالزندقة فجحد وأعلن بالايمان وتبرأ من كل دين سوى الإسلام أن ذلك يمنع من إراقة دمه. وبه قال أصحاب الرأي وأحمد والطبري وغيرهم. قال الشافعي وأصحابه. وإنما منع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم، لأن ما يظهرونه يجب ما قبله.
وقال الطبري: جعل الله تعالى الأحكام بين عباده على الظاهر، وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه، فليس لاحد أن يحكم بخلاف ما ظهر، لأنه حكم بالظنون، ولو كان ذلك لاحد كان أولى الناس به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا، ووكل سرائرهم إلى الله. وقد كذب الله ظاهرهم في قوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ} [المنافقون: 1] قال ابن عطية: ينفصل المالكيون عما لزموه من هذه الآية بأنها لم تعين أشخاصهم فيها وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموص عليه بالنفاق، وبقي لكل واحد منهم أن يقول: لم أرد بها وما أنا إلا مؤمن، ولو عين أحد لما جب كذبه شيئا.
قلت: هذا الانفصال فيه نظر، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعلمهم أو كثيرا منهم بأسمائهم وأعيانهم بإعلام الله تعالى إياه، وكان حذيفة يعلم ذلك بإخبار النبي عليه السلام إياه حتى كان عمر رضي الله عنه يقول له: يا حذيفة هل أنا منهم؟ فيقول له: لا. القول الرابع: وهو أن الله تعالى كان قد حفظ أصحاب نبيه عليه السلام بكونه ثبتهم أن يفسدهم المنافقون أو يفسدوا دينهم فلم يكن في تبقيتهم ضرر، وليس كذلك اليوم، لأنا لا نأمن من الزنادقة أن يفسدوا عامتنا وجهالنا.



{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)}
{إذا} في موضع نصب على الظرف والعامل فيها {قالُوا}، وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر. قال الجوهري: {إِذا} اسم يدل على زمان مستقبل، ولم تستعمل إلا مضافة إلى جملة، تقول: أجيئك إذا أحمر البسر، وإذا قدم فلان. والذي يدل على أنها اسم وقوعها موقع قولك: آتيك يوم يقدم فلان، فهي ظرف وفيها معنى المجازاة. وجزاء الشرط ثلاثة: الفعل والفاء وإذا، فالفعل قولك: إن تأتني آتك. والفاء: إن تأتني فأنا أحسن إليك. وإذا كقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36]. ومما جاء من المجازاة بإذا في الشعر قول قيس بن الخطيم:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها *** خطانا إلى أعدائنا فنضارب
فعطف فنضارب بالجزم على كان لأنه مجزوم، ولو لم يكن مجزوما لقال: فنضارب، بالنصب. وقد تزاد على إذا ما تأكيدا، فيجزم بها أيضا، ومنه قول الفرزدق:
فقام أبو ليلى إليه ابن ظالم *** وكان إذا ما يسلل السيف يضرب
قال سيبويه: والجيد ما قال كعب بن زهير:
وإذا ما تشاء تبعث منها *** مغرب الشمس ناشطا مذعورا
يعني أن الجيد ألا يجزم بإذا، كما لم يجزم في هذا البيت. وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة: خرجت فإذا زيد، ظرف مكان، لأنها تضمنت جثة. وهذا مردود، لأن المعنى خرجت فإذا حضور زيد، فإنما تضمنت المصدر كما يقتضيه سائر ظروف الزمان، ومنه قولهم: اليوم خمر وغدا أمر فمعناه وجود خمر ووقوع أمر. قوله: {قيل} من القول وأصله قول، نقلت كسرة الواو إلى القاف فانقلبت الواو ياء. ويجوز: {قيل لهم} بإدغام اللام في اللام وجاز الجمع بين ساكنين، لأن الياء حرف مد ولين. قال الأخفش: ويجوز {قيل} بضم القاف والياء.
وقال الكسائي: وبجوز إشمام القاف الضم ليدل على أنه لما لم يسم فاعله، وهي لغة قيس وكذلك جئ وغيض وحيل وسيق وسيء وسيئت. وكذلك روى هشام عن ابن عباس، ورويس عن يعقوب. وأشم منها نافع سيئ وسيئت خاصة. وزاد ابن ذكوان: حيل وسيق، وكسر الباقون في الجميع. فأما هذيل وبنو دبير من أسد وبني فقعس فيقولون: قول بواو ساكنة. قوله: {لا تُفْسِدُوا} {لا} نهى. والفساد ضد الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها. فسد الشيء يفسد فسادا وفسودا وهو فاسد وفسيد. والمعنى في الآية: لا تفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله، وتفريق الناس عن الايمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن.
وقيل: كانت الأرض قبل أن يبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها الفساد، ويفعل فيها بالمعاصي، فلما بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتفع الفساد وصلحت الأرض. فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، كما قال في آية أخرى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} [الأعراف: 56]. قوله: {فِي الْأَرْضِ} الأرض مؤنثة، وهي اسم جنس، وكان حق الواحدة منها أن يقال أرضة، ولكنهم لم يقولوا. والجمع أرضات، لأنهم قد يجمعون المؤنث الذي ليست فيه هاء التأنيث بالتاء كقولهم: عرسات. ثم قالوا أرضون فجمعوا بالواو والنون، والمؤنث لا يجمع بالواو والنون إلا أن يكون منقوصا كثبة وظبة، ولكنهم جعلوا الواو والنون عوضا من حذفهم الألف والتاء وتركوا فتحة الراء على حالها، وربما سكنت. وقد تجمع على أروض. وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون: أرض وآراض، كما قالوا: أهل وآهال. والأراضي أيضا على غير قياس، كأنهم جمعوا أرضا. وكل ما سفل فهو أرض. وأرض أريضة، أي زكية بينة الاراضة. وقد أرضت بالضم، أي زكت. قال أبو عمرو: نزلنا أرضا أريضة، أي معجبة للعين، ويقال: لا أرض لك، كما يقال: لا أم لك. والأرض: أسفل قوائم الدابة، قال حميد يصف فرسا:
ولم يقلب أرضها البيطار *** ولا لحبليه بها حبار
أي أثر والأرض: النفضة والرعدة. روى حماد بن سلمة عن قتادة عن عبد الله بن الحارث قال: زلزلت الأرض بالبصرة، فقال ابن عباس: والله ما أدري! أزلزلت الأرض أم بي أرض؟ أي أم بي رعدة، وقال ذو الرمة يصف صائدا:
إذا توجس ركزا من سنابكها *** أو كان صاحب أرض أو به الموم
والأرض: الزكام. وقد آرضه الله إيراضا، أي أزكمه فهو مأروض. وفسيل مستأرض، وودية مستأرضة بكسر الراء وهو أن يكون له عرق في الأرض، فأما إذا نبت على جذع النخل فهو الراكب. والاراض بالكسر: بساط ضخم من صوف أو وبر. ورجل أريض، أي متواضع خليق للخير. قال الأصمعي يقال: هو آرضهم أن يفعل ذلك، أي أخلقهم. وشئ عريض أريض إتباع له، وبعضهم يفرده ويقول: جدي أريض أي سمين. قوله: {نَحْنُ} أصل {نَحْنُ} نحن قلبت حركة الحاء على النون وأسكنت الحاء، قاله هشام بن معاوية النحوي.
وقال الزجاج: {نَحْنُ} لجماعة، ومن علامة الجماعة الواو، والضمة من جنس الواو، فلما اضطروا إلى حركة {نَحْنُ} لالتقاء الساكنين حركوها بما يكون للجماعة. قال: لهذا ضموا واو الجمع في قوله عز وجل: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ} [البقرة: 16] وقال محمد بن يزيد: {نَحْنُ} مثل قبل وبعد، لأنها متعلقة بالأخبار عن اثنين وأكثر، ف أنا للواحد نحن للتثنية والجمع، وقد يخبر به المتكلم عن نفسه في قوله: نحن قمنا، قال الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32]. والمؤنث في هذا إذا كانت متكلمة بمنزلة المذكر، تقول المرأة: قمت وذهبت، وقمنا وذهبنا، وأنا فعلت ذاك، ونحن فعلنا. هذا كلام العرب فأعلم.
قوله تعالى: {مُصْلِحُونَ} اسم فاعل من أصلح. والصلاح: ضد الفساد. وصلح الشيء بضم اللام وفتحها لغتان، قال ابن السكيت. والصلوح بضم الصاد مصدر صلح بضم اللام، قال الشاعر:
فكيف بإطراقي إذا ما شتمتني *** وما بعد شتم الوالدين صلوح
وصلاح من أسماء مكة. والصلح بكسر الصاد: نهر. وإنما قالوا ذلك على ظنهم، لأن إفسادهم عندهم إصلاح، أي أن ممالاتنا للكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. قال ابن عباس وغيره.

{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)}
قوله عز وجل: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} ردا عليهم وتكذيبا لقولهم. قال أرباب المعاني: من أظهر الدعوى كذب، ألا ترى أن الله عز وجل يقول: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} وهذا صحيح. وكسرت إن لأنها مبتدأة، قال النحاس.
وقال علي بن سليمان. يجوز فتحها، كما أجاز سيبويه: حقا أنك منطلق، بمعنى ألا. و{هم} يجوز أن يكون مبتدأ و{المفسدون} خبره والمبتدأ وخبره خبر إن. ويجوز أن تكون {هم} توكيدا للهاء والميم في: {إنهم}. ويجوز أن تكون فاصلة والكوفيون يقولون عمادا و{المفسدون} خبر إن، والتقدير ألا إنهم المفسدون، كما تقدم في قوله: {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان: 5].
قوله تعالى: {وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ} قال ابن كيسان يقال: ما على من لم يعلم أنه مفسد من الذم، إنما يذم إذا علم أنه مفسد ثم أفسد على علم، قال: ففيه جوابان: أحدهما أنهم كانوا يعملون الفساد سرا ويظهرون الصلاح وهم لا يشعرون أن أمرهم يظهر عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والوجه الآخر: أن يكون فسادهم عندهم صلاحا وهم لا يشعرون أن ذلك فساد، وقد عصوا الله ورسوله في تركهم تبيين الحق واتباعه. {وَلكِنْ} حرف تأكيد واستدراك ولا بد فيه من نفي وإثبات، إن كان قبله نفي كان بعده إيجاب، وإن كان قبله إيجاب كان بعده نفي. ولا يجوز الاقتصار بعده على اسم واحد إذا تقدم الإيجاب، ولكنك تذكر جملة مضادة لما قبلها كما في هذه الآية، وقولك: جاءني زيد لكن عمرو لم يجئ، ولا يجوز جاءني زيد لكن عمرو ثم تسكت، لأنهم قد استغنوا ببل في مثل هذا الموضع عن لكن، وإنما يجوز ذلك إذا تقدم النفي كقولك: ما جاءني زيد لكن عمرو.

{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)}
قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ} يعني المنافقين في قول مقاتل وغيره. {آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ} أي صدقوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرعه، كما صدق المهاجرون والمحققون من أهل يثرب. وألف {آمِنُوا} ألف قطع، لأنك تقول: يؤمن، والكاف في موضع نصب، لأنها نعت لمصدر محذوف، أي إيمانا كإيمان الناس.
قوله تعالى: {قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ} يعني أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن ابن عباس. وعنه أيضا: مؤمنو أهل الكتاب. وهذا القول من المنافقين إنما كانوا يقولونه في خفاء واستهزاء فأطلع الله نبيه والمؤمنين على ذلك، وقرر أن السفه ورقة الحلوم وفساد البصائر إنما هي في حيزهم وصفه لهم، وأخبر أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون للرين الذي على قلوبهم.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود، أي وإذا قيل لهم يعني اليهود آمنوا كما آمن الناس: عبد الله بن سلام وأصحابه، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء يعني الجهال والخرقاء. واصل السفه في كلام العرب: الخفة والرقة، يقال: ثوب سفيه إذا كان ردئ النسج خفيفه، أو كان باليا رقيقا. وتسفهت الريح الشجر: مالت به، قال ذو الرمة:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت *** أعاليها مر الرياح النواسم
وتسفهت الشيء: استحقرته. والسفه: ضد الحلم. ويقال: إن السفه أن يكثر الرجل شرب الماء فلا يروى. ويجوز في همزتي السفهاء أربعة أوجه، أجودها أن تحقق الأولى وتقلب الثانية واوا خالصة، وهي قراءة أهل المدينة والمعروف من قراءة أبي عمرو. وإن شئت خففتهما جميعا فجعلت الأولى بين الهمزة والواو وجعلت الثانية واوا خالصة. وإن شئت خففت الأولى وحققت الثانية. وإن شئت حققتهما جميعا.
قوله تعالى: {وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ} مثل: {وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ}، وقد تقدم. والعلم معرفة المعلوم على ما هو به، تقول: علمت الشيء أعلمه علما عرفته، وعالمت الرجل فعلمته أعلمه بالضم في المستقبل. غلبته بالعلم.
يتبع...


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 4:02 pm
المشاركة رقم: #3
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)}
قوله تعالى: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا} أنزلت هذه الآية في ذكر المنافقين. أصل لقوا: لقيوا، نقلت الضمة إلى القاف وحذفت الياء لالتقاء الساكنين. وقرأ محمد بن السميقع اليماني: {لاقوا الذين آمنوا}. والأصل لاقيوا، تحركت الياء وقبلها فتحة انقلبت ألفا، اجتمع ساكنان الألف والواو فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ثم حركت الواو بالضم. وإن فيل: لم ضمت الواو في لاقوا في الإدراج وحذفت من لقوا؟ فالجواب: أن قبل الواو التي في لقوا ضمة فلو حركت الواو بالضم لثقل على اللسان النطق بها فحذفت لثقلها، وحركت في لاقوا لان قبلها فتحة.
قوله تعالى: {وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} إن قيل: لم وصلت {خلوا} ب {إلى} وعرفها أن توصل بالباء؟ قيل له: {خلوا} هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا، ومنه قول الفرزدق:
كيف تراني قالبا مجني *** أضرب أمري ظهره لبطن
قد قتل الله زيادا عني لما أنزله منزلة صرف.
وقال قوم: {إلى} بمعنى مع، وفيه ضعف.
وقال قوم: {إلى} بمعنى الباء، وهذا يأباه الخليل وسيبويه.
وقيل: المعنى وإذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم، ف {إلى} على بابها. والشياطين جمع شيطان على التكسير، وقد تقدم القول في اشتقاقه ومعناه في الاستعاذة. واختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا، فقال ابن عباس والسدي: هم رؤساء الكفر.
وقال الكلبي: هم شياطين الجن.
وقال جمع من المفسرين: هم الكهان. ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الايمان والخير يعم جميع من ذكر. والله أعلم.
قوله تعالى: {إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} أي مكذبون بما ندعى إليه.
وقيل: ساخرون. والهزء: السخرية واللعب، يقال: هزئ به واستهزأ، قال الراجز:
قد هزئت مني أم طيسله *** قالت أراه معدما لا مال له
وقيل: أصل الاستهزاء: الانتقام، كما قال الآخر:
قد استهزءوا منهم بألفي مدجج *** سراتهم وسط الصحاصح جثم

{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}
قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي ينتقم منهم ويعاقبهم، ويسخر بهم ويجازيهم على استهزائهم، فسمى العقوبة باسم الذنب. هذا قول الجمهور من العلماء، والعرب تستعمل ذلك كثيرا في كلامهم، من ذلك قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فسمى انتصاره جهلا، والجهل لا يفتخر به ذو عقل، وإنما قال ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما. وكانت العرب إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له في معناه، وعلى ذلك جاء القرآن والسنة.
وقال الله عز وجل: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} [الشورى: 40]. وقال: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون اعتداء، لأنه حق وجب، ومثله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]. و{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15- 16]. و{إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وليس منه سبحانه مكر ولا هزء ولا كيد، إنما هو جزاء لمكرهم واستهزائهم وجزاء كيدهم، وكذلك {يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ} [النساء: 142]. {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79].
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله لا يمل حتى تملوا ولا يسأم حتى تسأموا». قيل: حتى بمعنى الواو أي وتملوا. وقيل المعنى وأنتم تملون.
وقيل: المعنى لا يقطع عنكم ثواب أعمالكم حتى تقطعوا العمل.
وقال قوم: إن الله تعالى يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هزء وخدع ومكر، حسب ما روى: «إن النار تجمد كما تجمد الإهالة فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم».
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا} هم منافقو أهل الكتاب، فذكرهم وذكر استهزاءهم، وأنهم إذا خلوا إلى شياطينهم يعني رؤساءهم في الكفر على ما تقدم قالوا: إنا معكم على دينكم {إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} بأصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} في الآخرة، يفتح لهم باب جهنم من الجنة، ثم يقال لهم: تعالوا، فيقبلون يسبحون في النار، والمؤمنون على الأرائك وهي السرر في الحجال ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى الباب سد عنهم، فيضحك المؤمنون منهم، فذلك قول الله عز وجل: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} أي في الآخرة، ويضحك المؤمنون منهم حين غلقت دونهم الأبواب، فذلك قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 34- 35] إلى أهل النار {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36].
وقال قوم: الخداع من الله والاستهزاء هو استدراجهم بدرور النعم الدنيوية عليهم، فالله سبحانه وتعالى يظهر لهم من الإحسان في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم، ويستر عنهم من عذاب الآخرة، فيظنون أنه راض عنهم، وهو تعالى قد حتم عذابهم، فهذا على تأمل البشر كأنه استهزاء ومكر وخداع، ودل على هذا التأويل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج». ثم نزع بهذه الآية: {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [الأنعام: 44- 45].
وقال بعض العلماء في قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة.
قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ} أي يطيل لهم المدة ويمهلهم ويملي لهم، كما قال: {إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً} [آل عمران: 178] وأصله الزيادة. قال يونس بن حبيب: يقال مد لهم في الشر، وأمد في الخير، قال الله تعالى: {وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء: 6]. وقال: {وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: 22].
وحكى عن الأخفش: مددت له إذا تركته، وأمددته إذا أعطيته. وعن الفراء واللحياني: مددت، فيما كانت زيادته من مثله، يقال: مد النهر النهر، وفي التنزيل: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27]. وأمددت، فيما كانت زيادته من غيره، كقولك: أمددت الجيش بمدد، ومنه: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} [آل عمران: 125]. وأمد الجرح، لأن المدة من غيره، أي صارت فيه مدة.
قوله تعالى: {فِي طُغْيانِهِمْ} كفرهم وضلالهم. واصل الطغيان مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ} [الحاقة: 11] أي ارتفع وعلا وتجاوز المقدار الذي قدرته الخزان. وقوله في فرعون: {إِنَّهُ طَغى} [طه: 24] أي أسرف في الدعوى حيث قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} [النازعات: 24]. والمعنى في الآية: يمدهم بطول العمر حتى يزيدوا في الطغيان فيزيدهم في عذابهم.
قوله تعالى: {يَعْمَهُونَ} يعمون.
وقال مجاهد: أي يترددون متحيرين في الكفر.
وحكى أهل اللغة: عمه الرجل يعمه عموها وعمها فهو عمه وعامه إذا حار، ويقال رجل عامه وعمه: حائر متردد، وجمعه عمه. وذهبت إبله العمهى إذا لم يدر أين ذهبت. والعمى في العين، والعمه في القلب وفي التنزيل: {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

{أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى} قال سيبويه: ضمت الواو في: {اشْتَرَوُا} فرقا بينها وبين الواو الأصلية، نحو: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} [الجن: 16].
وقال ابن كيسان: الضمة في الواو أخف من غيرها لأنها من جنسها.
وقال الزجاج: حركت بالضم كما فعل في نحن. وقرأ ابن أبي إسحاق ويحيى بن يعمر بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين.
وروى أبو زيد الأنصاري عن قعنب أبي السمال العدوي أنه قرأ بفتح الواو لخفة الفتحة وإن كان ما قبلها مفتوحا. وأجاز الكسائي همز الواو وضمها كأدؤر. واشتروا: من الشراء. والشراء هنا مستعار. والمعنى استحبوا الكفر على الايمان، كما قال: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} [فصلت: 17] فعبر عنه بالشراء، لأن الشراء إنما يكون فيما يحبه مشتريه. فأما أن يكون معنى شراء المعاوضة فلا، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعون إيمانهم.
وقال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. ومعناه استبدلوا واختاروا الكفر على الايمان. وإنما أخرجه بلفظ الشراء توسعا، لأن الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال، والعرب تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئا بشيء. قال أبو ذؤيب:
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم *** فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
وأصل الضلالة: الحيرة. ويسمى النسيان ضلالة لما فيه من الحيرة، قال عز وجل: {فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] أي الناسين. ويسمى الهلاك ضلالة، كما قال عز وجل: {وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: 10].
قوله تعالى: {فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ} أسند تعالى الربح إلى التجارة على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، وقولهم: ليل قائم، ونهار صائم، والمعنى: ربحت وخسرت في بيعك، وقمت في ليلك وصمت في نهارك، أي فما ربحوا في تجارتهم.
وقال الشاعر:
نهارك هائم وليلك نائم *** كذلك في الدنيا تعيش البهائم
ابن كيسان: ويجوز تجارة وتجائر، وضلالة وضلائل.
قوله تعالى: {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} في اشترائهم الضلالة.
وقيل: في سابق علم الله. والاهتداء ضد الضلال، وقد تقدم.



{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)}
قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً} فمثلهم رفع بالابتداء والخبر في الكاف، فهي اسم، كما هي في قول الأعشى:
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط *** كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وقول امرئ القيس:
ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا *** تصوب فيه العين طورا وترتقي
أراد مثل الطعن، وبمثل ابن الماء. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا، تقديره مثلهم مستقر كمثل، فالكاف على هذا حرف. والمثل والمثل والمثيل واحد ومعناه الشبيه. والمتماثلان: المتشابهان، هكذا قال أهل اللغة. قوله: {الَّذِي} يقع للواحد والجمع. قال ابن الشجري هبة الله بن علي: ومن العرب من يأتي بالجمع بلفظ الواحد، كما قال:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أم خالد
وقيل في قول الله تعالى: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]: إنه بهذه اللغة، وكذلك قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي} قيل: المعنى كمثل الذين استوقدوا، ولذلك قال: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}، فحمل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع. فأما قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا} [التوبة: 69] فإن الذي هاهنا وصف لمصدر محذوف تقديره وخضتم كالخوض الذي خاضوا.
وقيل: إنما وحد {الَّذِي} و{اسْتَوْقَدَ} لان المستوقد كان واحدا من جماعة تولى الإيقاد لهم، فلما ذهب الضوء رجع عليهم جميعا فقال: {بِنُورِهِمْ}. واستوقد بمعنى أوقد، مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين والتاء زائدتان، قاله الأخفش، ومنه قول الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي يجبه. واختلف النحاة في جواب لما، وفي عود الضمير من {نورهم}، فقيل: جواب لما محذوف وهو طفئت، والضمير في: {نورهم} على هذا للمنافقين، والاخبار بهذا عن حال تكون في الآخرة، كما قال تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ} [الحديد: 13].
وقيل: جوابه {ذهب}، والضمير في: {نورهم} عائد على {الذي}، وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده. والمعنى المراد بالآية ضرب مثل للمنافقين، وذلك أن ما يظهرونه من الايمان الذي تثبت لهم به أحكام المسلمين من المناكح والتوارث والغنائم والأمن على أنفسهم وأولادهم وأموالهم بمثابة من أوقد نارا في ليلة مظلمة فاستضاء بها وراي ما ينبغي أن يتقيه وأمن منه، فإذا طفئت عنه أو ذهبت وصل إليه الأذى وبقي متحيرا، فكذلك المنافقون لما آمنوا اغتروا بكلمة الإسلام، ثم يصيرون بعد الموت إلى العذاب الأليم كما أخبر التنزيل: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] ويذهب نورهم، ولهذا يقولون: {انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13].
وقيل: إن إقبال المنافقين إلى المسلمين وكلامهم معهم كالنار، وانصرافهم عن مودتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها. وقيل غير هذا. قوله: {نارا} النار مؤنثة وهي من النور وهو أيضا الإشراق. وهي من الواو، لأنك تقول في التصغير: نويرة، وفي الجمع نور وأنوار ونيران، انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها. وضاءت وأضاءت لغتان، يقال: ضاء القمر يضوء ضوءا وأضاء يضئ، يكون لازما ومتعديا. وقرأ محمد بن السميقع: ضاءت بغير ألف، والعامة بالألف، قال الشاعر:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم *** دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
{ما حَوْلَهُ} {ما} زائدة مؤكدة.
وقيل: مفعولة بأضاءت. و{حوله} ظرف مكان، والهاء في موضع خفض بإضافته إليها. و{ذَهَبَ} وأذهب لغتان من الذهاب، وهو زوال الشيء. {وَتَرَكَهُمْ} أي أبقاهم. {فِي ظُلُماتٍ} جمع ظلمة. وقرأ الأعمش: {ظلمات} بإسكان اللام على الأصل. ومن قرأها بالضم فللفرق بين الاسم والنعت. وقرأ أشهب العقيلي: {ظلمات} بفتح اللام. قال البصريون: أبدل من الضمة فتحة لأنها أخف.
وقال الكسائي: {ظلمات} جمع الجمع، جمع ظلم. {لا يبصرون} فعل مستقبل في موضع الحال، كأنه قال: غير مبصرين، فلا يجوز الوقف على هذا على {ظلمات}.

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)}
قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}.. {صُمٌّ} أي هم صم، فهو خبر ابتداء مضمر.
وفي قراءة عبد الله بن مسعود وحفصة: صما بكما عميا، فيجوز النصب على الذم، كما قال تعالى: {مَلْعونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا} [الأحزاب: 61]، وكما قال: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4]، وكما قال الشاعر:
سقوني الخمر ثم تكنفوني *** عداة الله من كذب وزور
فنصب عداة الله على الذم. فالوقف على {يُبْصِرُونَ} على هذا المذهب صواب حسن. ويجوز أن ينصب صما ب {تَرَكَهُمْ}، كأنه قال: وتركهم صما بكما عميا، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على {يُبْصِرُونَ}. والصمم في كلام العرب: الانسداد، يقال: قناة صماء إذا لم تكن مجوفة. وصممت القارورة إذا سددتها. فالاصم: من انسدت خروق مسامعه. والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس.
وقيل: الأخرس والأبكم واحد. ويقال: رجل أبكم وبكيم، أي أخرس بين الخرس والبكم، قال:
فليت لساني كان نصفين منهما *** بكيم ونصف عند مجرى الكواكب
والعمى: ذهاب البصر، وقد عمي فهو أعمى، وقوم عمي، وأعماه الله. وتعامى الرجل: أرى ذلك من نفسه. وعمي عليه الامر إذا التبس، ومنه قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ} [القصص: 66]. وليس الغرض مما ذكرناه نفي الإدراكات عن حواسهم جملة، وإنما الغرض نفيها من جهة ما، تقول: فلان أصم عن الخنا. ولقد أحسن الشاعر حيث قال:
أصم عما ساءه سميع ***
وقال آخر:
وعوراء الكلام صممت عنها *** ولو أني أشاء بها سميع
وقال الدارمي:
أعمى إذا ما جارتي خرجت *** حتى يواري جارتي الجدر
وقال بعضهم في وصاته لرجل يكثر الدخول على الملوك:
أدخل إذا ما دخلت أعمى *** وأخرج إذا ما خرجت أخرس
وقال قتادة: {صُمٌّ} عن استماع الحق، {بُكْمٌ} عن التكلم به، {عُمْيٌ} عن الأبصار له.
قلت: وهذا المعنى هو المراد في وصف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولاة آخر الزمان في حديث جبريل: «وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها». والله أعلم.
قوله تعالى: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي إلى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم. يقال: رجع بنفسه رجوعا، ورجعه غيره، وهذيل تقول: أرجعه غيره. وقوله تعالى: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ} [سبأ: 31] أي يتلاومون فيما بينهم، حسب ما بينه التنزيل في سورة سبأ.

{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)}
قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ} قال الطبري: {أَوْ} بمعنى الواو، وقاله الفراء. وأنشد:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر *** لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقال آخر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا *** كما أتى ربه موسى على قدر
أي وكانت.
وقيل: {أَوْ} للتخيير أي مثلوهم بهذا أو بهذا، لا على الاقتصار على أحد الأمرين، والمعنى أو كأصحاب صيب. والصيب: المطر. واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل، قال علقمة:
فلا تعدلي بيني وبين مغمر *** سقتك روايا المزن حيث تصوب
وأصله: صيوب، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعلوا في ميت وسيد وهين ولين.
وقال بعض الكوفيين: أصله صويب على مثال فعيل. قال النحاس: لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه، كما لا يجوز إدغام طويل. وجمع صيب صيايب. والتقدير في العربية: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا أو كمثل صيب.
قوله تعالى: {مِنَ السَّماءِ} السماء تذكر وتؤنث، وتجمع على أسمية وسموات وسمي، على فعول، قال العجاج:
تلفه الرياح والسمي ***
والسماء: كل ما علاك فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت: سماء. والسماء: المطر، سمي به لنزوله من السماء. قال حسان بن ثابت:
ديار من بني الحسحاس قفر *** تعفيها الروامس والسماء
وقال آخر:
إذا سقط السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا
ويسمى الطين والكلأ أيضا سماء، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. يريدون الكلا والطين. ويقال لظهر الفرس أيضا سماء لعلوه، قال:
وأحمر كالديباج أما سماؤه *** فريا وأما أرضه فمحول
والسماء: ما علا. والأرض: ما سفل، على ما تقدم.
قوله تعالى: {فِيهِ ظُلُماتٌ} ابتداء وخبر {وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} معطوف عليه. وقال: ظلمات بالجمع إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن، وهو الغيم، ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت. وقد مضى ما فيه من اللغات فلا معنى للإعادة، وكذا كل ما تقدم إن شاء الله تعالى.
واختلف العلماء في الرعد، ففي الترمذي عن ابن عباس قال: سألت اليهود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الرعد ما هو؟ قال: «ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله». فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله» قالوا: صدقت. الحديث بطوله. وعلى هذا التفسير أكثر العلماء. فالرعد: اسم الصوت المسموع، وقاله علي رضي الله عنه، وهو المعلوم في لغة العرب، وقد قال لبيد في جاهليته:
فجعني الرعد والصواعق بال *** فارس يوم الكريهة النجد
وروي عن ابن عباس أنه قال: الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت. واختلفوا في البرق، فروي عن علي وابن مسعود وابن عباس رضوان الله عليهم: البرق مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب.
قلت: وهو الظاهر من حديث الترمذي. وعن ابن عباس أيضا هو سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب. وعنه أيضا البرق ملك يتراءى. وقالت الفلاسفة: الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب. والبرق ما ينقدح من اصطكاكها. وهذا مردود لا يصح به نقل، والله أعلم. ويقال: أصل الرعد من الحركة، ومنه الرعديد للجبان. وارتعد: اضطرب، ومنه الحديث: «فجئ بهما ترعد فرائصهما» الحديث. أخرجه أبو داود. والبرق أصله من البريق والضوء، ومنه البراق: دابة ركبها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسرى به وركبها الأنبياء عليهم السلام قبله. ورعدت السماء من الرعد، وبرقت من البرق. ورعدت المرأة وبرقت: تحسنت وتزينت. ورعد الرجل وبرق: تهدد وأوعد، قال ابن أحمر:
يا جل ما بعدت عليك بلادنا *** وطلابنا فأبرق بأرضك وأرعد
وأرعد القوم وأبرقوا: أصابهم رعد وبرق.
وحكى أبو عبيدة وأبو عمرو: أرعدت السماء وأبرقت، وأرعد الرجل وأبرق إذا تهدد وأوعد، وأنكره الأصمعي. واحتج عليه بقول الكميت:
أبرق وأرعد يا يزي *** د فما وعيدك لي بضائر
فقال: ليس الكميت بحجة.
فائدة:
روى ابن عباس قال: كنا مع عمر بن الخطاب في سفرة بين المدينة والشام ومعنا كعب الأحبار، قال: فأصابتنا ريح وأصابنا رعد ومطر شديد وبرد، وفرق الناس. قال فقال لي كعب: إنه من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، عوفي مما يكون في ذلك السحاب والبرد والصواعق. قال: فقلتها أنا وكعب، فلما أصبحنا واجتمع الناس قلت لعمر: يا أمير المؤمنين، كأنا كنا في غير ما كان فيه الناس. قال: وما ذاك؟ قال: فحدثته حديث كعب. قال: سبحان الله! أفلا قلتم لنا فنقول كما قلتم! في رواية فإذا بردة قد أصابت أنف عمر فأثرت به.
وستأتي هذه الرواية في سورة الرعد إن شاء الله. ذكر الروايتين أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في روايات الصحابة عن التابعين رحمة الله عليهم أجمعين. وعن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك».
قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ} جعلهم أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فيؤمنوا به وبمحمد عليه السلام، وذلك عندهم كفر والكفر موت.
وفي واحد الأصابع خمس لغات: إصبع بكسر الهمزة وفتح الباء، وإصبع بفتح الهمزة وكسر الباء، ويقال بفتحهما جميعا، وضمهما جميعا، وبكسرهما جميعا، وهي مؤنثة. وكذلك الاذن وتخفف وتثقل وتصغر، فيقال: أذينة. ولو سميت بها رجلا ثم صغرته قلت: أذين، فلم تؤنث لزوال التأنيث عنه بالنقل إلى المذكر. فأما قولهم: أذينة في الاسم العلم فإنما سمي به مصغرا، والجمع آذان. وتقول: أذنته إذا ضربت أذنه. ورجل أذن: إذا كان يسمع كلام كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع. وأذاني: عظيم الأذنين. ونعجة أذناء، وكبش آذن. وأذنت النعل وغيرها تأذينا: إذا جعلت لها أذنا. وأذنت الصبي: عركت أذنه.
قوله تعالى: {مِنَ الصَّواعِقِ} أي من أجل الصواعق. والصواعق جمع صاعقة. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: إذا اشتد غضب الرعد الذي هو الملك طار النار من فيه وهي الصواعق. وكذا قال الخليل، قال: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه.
وقال أبو زيد: الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد.
وحكى الخليل عن قوم: الساعقة بالسين.
وقال أبو بكر النقاش: يقال صاعقة وصعقة وصاعقة بمعنى واحد. وقرأ الحسن: من {الصواقع} بتقديم القاف، ومنه قول أبي النجم:
يحكون بالمصقولة القواطع *** تشقق البرق عن الصواقع
قال النحاس: وهي لغة تميم وبعض بني ربيعة. ويقال: صعقتهم السماء إذا ألقت عليهم الصاعقة. والصاعقة أيضا صيحة العذاب، قال الله عز وجل: {فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ} [فصلت: 17] ويقال: صعق الرجل صعقة وتصعاقا، أي غشي عليه، وفي قوله تعالى: {وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً} [الأعراف: 143] فأصعقه غيره. قال ابن مقبل:
ترى النعرات الزرق تحت لبانه *** أحاد ومثنى أصعقتها صواهله
وقوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68] أي مات. وشبه الله تعالى في هذه الآية أحوال المنافقين بما في الصيب من الظلمات والرعد والبرق والصواعق. فالظلمات مثل لما يعتقدونه من الكفر، والرعد والبرق مثل لما يخوفون به.
وقيل: مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الاشكال عليهم، والعمى هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا أن تبهرهم هو البرق. والصواعق، مثل لما في القرآن من الدعاء إلى القتال في العاجل والوعيد في الآجل.
وقيل: الصواعق تكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة وغيرهما. قول: {حَذَرَ الْموْتِ} حذر وحذار بمعنى، وقرى بهما. قال سيبويه: هو منصوب، لأنه موقوع له أي مفعول من أجله، وحقيقته أنه مصدر، وأنشد سيبويه:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره *** وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
وقال الفراء: هو منصوب على التمييز والموت: ضد الحياة. وقد مات يموت، ويمات أيضا، قال الراجز:
بنيتي سيدة البنات *** عيشي ولا يؤمن أن تماتي
فهو ميت وميت، وقوم موتى وأموات وميتون وميتون. والموات بالضم: الموت. والموات بالفتح: ما لا روح فيه. والموات أيضا: الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد. والموتان بالتحريك: خلاف الحيوان، يقال: اشتر الموتان، ولا تشتر الحيوان، أي اشتر الأرضين والدور، ولا تشتر الرقيق والدواب. والموتان بالضم: موت يقع في الماشية، يقال: وقع في المال موتان. وأماته الله وموته، شدد للمبالغة. وقال:
فعروة مات موتا مستريحا *** فها أنا ذا أموت كل يوم
وأماتت الناقة إذا مات ولدها، فهي مميت ومميتة. قال أبو عبيد: وكذلك المرأة، وجمعها مماويت. قال ابن السكيت: أمات فلان إذا مات له ابن أو بنون. والمتماوت من صفة الناسك المرائي وموت مائت، كقولك: ليل لائل، يؤخذ من لفظه ما يؤكد به. والمستميت للأمر: المسترسل له، قال رؤبة:
وزبد البحر له كتيت *** والليل فوق الماء مستميت
المستميت أيضا: المستقتل الذي لا يبالي في الحرب من الموت، وفي الحديث: «أرى القوم مستميتين» وهم الذين يقاتلون على الموت. والموتة بالضم: جنس من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد إليه كمال عقله كالنائم والسكران. ومؤتة بضم الميم وهمز الواو: اسم أرض قتل بها جعفر بن أبي طالب عليه السلام.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} ابتداء وخبر، أي لا يفوتونه. يقال: أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة، قال الشاعر:
أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا *** بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم
ومنه قول تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42]. وأصله محيط، نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت. فالله سبحانه محيط بجميع المخلوقات، أي هي في قبضته وتحت قهره، كما قال: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} [الزمر: 67].
وقيل: {مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} أي عالم بهم. دليله: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: 12].
وقيل: مهلكهم وجامعهم. دليله قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] أي إلا أن تهلكوا جميعا. وخص الكافرين بالذكر لتقدم ذكرهم في الآية. والله أعلم.
يتبع...


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 4:04 pm
المشاركة رقم: #4
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}
قوله تعالى: {يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ}... {يَكادُ} معناه يقارب، يقال: كاد يفعل كذا إذا قارب ولم يفعل. ويجوز في غير القرآن: يكاد أن يفعل، كما قال رؤبة:
قد كاد من طول البلى أن يمصحا ***
مشتق من المصح وهو الدرس. والأجود أن تكون بغير أن، لأنها لمقاربة الحال، وأن تصرف الكلام إلى الاستقبال، وهذا متناف، قال الله عز وجل: {يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ} [النور: 43]. ومن كلام العرب: كاد النعام يطير، وكاد العروس يكون أميرا، لقربهما من تلك الحال. وكاد فعل متصرف على فعل يفعل. وقد جاء خبره بالاسم وهو قليل، قال: وما كدت آئبا. ويجري مجرى كاد كرب وجعل وقارب وطفق، في كون خبرها بغير أن، قال الله عز وجل: {وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22] لأنها كلها بمعنى الحال والمقاربة، والحال لا يكون معها أن، فأعلم.
قوله تعالى: {يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ} الخطف: الأخذ بسرعة، ومنه سمي الطير خطافا لسرعته. فمن جعل القرآن مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم. ومن جعله مثلا للبيان الذي في القرآن فالمعنى أنهم جاءهم من البيان ما بهرهم. ويخطف ويخطف لغتان قرئ بهما. وقد خطفه بالكسر يخطفه خطفا، وهي اللغة الجيدة، واللغة الأخرى حكاها الأخفش: خطف يخطف. الجوهري: وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف. وقد قرأ بها يونس في قوله تعالى: {يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ} وقال النحاس: في: {يَخْطَفُ} سبعة أوجه، القراءة الفصيحة: يَخْطَفُ. وقرأ علي بن الحسين ويحيى بن وثاب: يخطف بكسر الطاء، قال سعيد الأخفش: هي لغة. وقرأ الحسن وقتادة وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي بفتح الياء وكسر الخاء والطاء. وروي عن الحسن أيضا أنه قرأ بفتح الخاء. قال الفراء: وقرأ بعض أهل المدينة بإسكان الخاء وتشديد الطاء. قال الكسائي والأخفش والفراء: يجوز {يخطف} بكسر الياء والخاء والطاء. فهذه ستة أوجه موافقة للخط.
والسابعة حكاها عبد الوارث قال: رأيت في مصحف أبي بن كعب {يتخطف}، وزعم سيبويه والكسائي أن من قرأ {يخطف} بكسر الخاء والطاء فالأصل عنده يختطف، ثم أدغم التاء في الطاء فالتقى ساكنان فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين. قال سيبويه: ومن فتح الخاء ألقى حركة التاء عليها.
وقال الكسائي: ومن كسر الياء فلان الألف في اختطف مكسورة. فأما ما حكاه الفراء عن أهل المدينة من إسكان الخاء والإدغام فلا يعرف ولا يجوز، لأنه جمع بين ساكنين. قال النحاس وغيره.
قلت: وروي عن الحسن أيضا وأبي رجاء {يخطف}. قال ابن مجاهد: وأظنه غلطا، واستدل على ذلك بأن {خَطِفَ الْخَطْفَةَ} لم يقرأه أحد بالفتح. {أَبْصارَهُمْ} جمع بصر، وهي حاسة الرؤية. والمعنى: تكاد حجج القرآن وبراهينه الساطعة تبهرهم. ومن جعل {البرق} مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم.
قوله تعالى: {كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ}... {كُلَّما} منصوب لأنه ظرف. وإذا كان {كُلَّما} بمعنى إذا فهي موصولة والعامل فيه {مَشَوْا} وهو جوابه، ولا يعمل فيه {أَضاءَ}، لأنه في صلة ما. والمفعول في قول المبرد محذوف، التقدير عنده: كلما أضاء لهم البرق الطريق.
وقيل: يجوز أن يكون فعل وأفعل بمعنى، كسكت وأسكت، فيكون أضاء وضاء سواء فلا يحتاج إلى تقدير حذف مفعول. قال الفراء: يقال ضاء وأضاء، وقد تقدم. والمعنى أنهم كلما سمعوا القرآن وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو يكلفونه {قامُوا} أي ثبتوا على نفاقهم، عن ابن عباس.
وقيل: المعنى كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت النعم قالوا: دين محمد دين مبارك، وإذا نزلت بهم مصيبة وأصابتهم شدة سخطوا وثبتوا في نفاقهم، عن ابن مسعود وقتادة. قال النحاس: وهذا قول حسن، ويدل على صحته: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ} [الحج: 11].
وقال علماء الصوفية: هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم تصح له أحوال الإرادة بدءا، فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوي إلى أحوال الأكابر، كأن تضيء عليه أحوال الإرادة لو صححها بملازمة آدابها، فلما مزجها بالدعاوي أذهب الله عنه تلك الأنوار وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها. وروي عن ابن عباس أن المراد اليهود، لما نصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببدر طمعوا وقالوا: هذا والله النبي الذي بشرنا به موسى لا ترد له راية، فلما نكب بأحد ارتدوا وشكوا، وهذا ضعيف. والآية في المنافقين، وهذا أصح عن ابن عباس، والمعنى يتناول الجميع.
قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ}... {لَوْ} حرف تمن وفيه معنى الجزاء، وجوابه اللام. والمعنى: ولو شاء الله لاطلع المؤمنين عليهم فذهب منهم عز الإسلام بالاستيلاء عليهم وقتلهم وإخراجهم من بينهم. وخص السمع والبصر لتقدم ذكرهما في الآية أولا، أو لأنهما أشرف ما في الإنسان. وقرى {بأسماعهم} على الجمع، وقد تقدم الكلام في هذا.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} عموم، ومعناه عند المتكلمين فيما يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه. وأجمعت الامة على تسمية الله تعالى بالقدير، فهو سبحانه قدير قادر مقتدر. والقدير أبلغ في الوصف من القادر، قاله الزجاجي.
وقال الهروي: والقدير والقادر بمعنى واحد، يقال: قدرت على الشيء أقدر قدرا وقدرا ومقدرة ومقدرة وقدرانا، أي قدرة. والاقتدار على الشيء: القدرة عليه. فالله عز وجل قادر مقتدر قدير على كل ممكن يقبل الوجود والعدم. فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الله تعالى قادر، له قدرة بها فعل ويفعل ما يشاء على وفق علمه واختياره. ويجب عليه أيضا أن يعلم أن للعبد قدرة يكتسب بها ما أقدره الله تعالى عليه على مجرى العادة، وأنه غير مستبد بقدرته. وإنما خص هنا تعالى صفته التي هي القدرة بالذكر دون غيرها، لأنه تقدم ذكر فعل مضمنة الوعيد والإخافة، فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك. والله أعلم. فهذه عشرون آية على عدد الكوفيين، أربع آيات في وصف المؤمنين، ثم تليها آيتان في ذكر الكافرين، وبقيتها في المنافقين. وقد تقدمت الرواية فيها عن ابن جريج، وقاله مجاهد أيضا.

{يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}
قوله سبحانه وتعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} قال علقمة ومجاهد: كل آية أولها {يا أَيُّهَا النَّاسُ} فإنما نزلت بمكة، وكل آية أولها {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فإنما نزلت بالمدينة.
قلت: وهذا يرده أن هذه السورة والنساء مدنيتان وفيهما يا أَيُّهَا النَّاسُ. وأما قولهما في: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النساء: 19] فصحيح.
وقال عروة بن الزبير: ما كان من حد أو فريضة فإنه نزل بالمدينة، وما كان من ذكر الأمم والعذاب فإنه نزل بمكة. وهذا واضح. و{يا} في قوله: {يا أَيُّهَا} حرف نداء أي منادى مفرد مبني على الضم، لأنه منادي في اللفظ، وها للتنبيه. {الناس} مرفوع صفة لاي عند جماعة النحويين، ما عدا المازني فإنه أجاز النصب قياسا على جوازه في: يا هذا الرجل.
وقيل: ضمت أي كما ضم المقصود المفرد، وجاءوا ب ها عوضا عن ياء أخرى، وإنما لم يأتوا بياء لئلا ينقطع الكلام فجاءوا ب ها حتى يبقى الكلام متصلا. قال سيبويه: كأنك كررت يا مرتين وصار الاسم بينهما، كما قالوا: ها هو ذا. وقيل لما تعذر عليهم الجمع بين حرفي تعريف أتوا في الصورة بمنادي مجرد عن حرف تعريف، وأجروا عليه المعرف باللام المقصود بالنداء، والتزموا رفعه، لأنه المقصود بالنداء، فجعلوا إعرابه بالحركة التي كان يستحقها لو باشرها النداء تنبيها على أنه المنادي، فاعلمه. واختلف من المراد بالناس هنا على قولين:
أحدهما: الكفار الذين لم يعبدوه، يدل عليه قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة: 23].
الثاني: أنه عام في جميع الناس، فيكون خطابه للمؤمنين باستدامة العبادة، وللكافرين بابتدائها. وهذا حسن.
قوله تعالى: {اعْبُدُوا} أمر بالعبادة له. والعبادة هنا عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه. واصل العبادة الخضوع والتذلل، يقال: طريق معبده إذا كانت موطوءة بالاقدام.
قال طرفة:
وظيفا وظيفا فوق مور معبد ***
والعبادة: الطاعة. والتعبد: التنسك. وعبدت فلانا: اتخذته عبدا.
قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} خص تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها، فذكر ذلك حجة عليهم وتقريعا لهم.
وقيل: ليذكرهم بذلك نعمته عليهم.
وفي أصل الخلق وجهان:
أحدهما: التقدير، يقال: خلقت الأديم للسقاء إذا قدرته قبل القطع، قال الشاعر:
ولانت تفري ما خلقت وبع *** ض القوم يخلق ثم لا يفري
وقال الحجاج: ما خلقت إلا فريت، ولا وعدت إلا وفيت.
الثاني: الإنشاء والاختراع والإبداع، قال الله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [العنكبوت: 17].
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فيقال إذا ثبت عندهم خلقهم ثبت عندهم خلق غيرهم، فالجواب: أنه إنما يجري الكلام على التنبيه والتذكير ليكون أبلغ في العظة، فذكرهم من قبلهم ليعلموا أن الذي أمات من قبلهم وهو خلقهم يميتهم، وليفكروا فيمن مضى قبلهم كيف كانوا، وعلى أي الأمور مضوا من إهلاك من أهلك، وليعلموا أنهم يبتلون كما ابتلوا. والله أعلم.
قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لعل متصلة باعبدوا لا بخلقكم، لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي. وهذا وما كان مثله فيما ورد في كلام الله تعالى من قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ...}، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ...}، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ...}، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} فيه ثلاث تأويلات.
الأول: أن لعل على بابها من الترجي والتوقع، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر، فكأنه قيل لهم: افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع أن تعقلوا وأن تذكروا وأن تتقوا. هذا قول سيبويه ورؤساء اللسان قال سيبويه في قوله عز وجل: {اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} [طه: 43- 44] قال معناه: اذهبا على طمعكما ورجائكما أن يتذكر أو يخشى. واختار هذا القول أبو المعالي.
الثاني: أن العرب استعملت لعل مجردة من الشك بمعنى لام كي. فالمعنى لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا، وعلى ذلك يدل قول الشاعر:
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا *** نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم *** كلمع سراب في الملا متألق
المعنى: كفوا الحروب لنكف، ولو كانت لعل هنا شكا لم يوثقوا لهم كل موثق، وهذا القول عن قطرب والطبري.
الثالث: أن تكون لعل بمعنى التعرض للشيء، كأنه قيل: افعلوا ذلك متعرضين لان تعقلوا، أو لان تذكروا أو لان تتقوا. والمعنى في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم الله به وقاية بينكم وبين النار. وهذا من قول العرب: اتقاه بحقه إذا استقبله به، فكأنه جعل دفعه حقه إليه وقاية له من المطالبة، ومنه قول علي رضي الله عنه: كنا إذا احمر البأس اتقينا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي جعلناه وقاية لنا من العدو.
وقال عنترة:
ولقد كررت المهر يدمى نحره *** حتى اتّقتني الخيل بابني حذيم

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}
قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ} معناه هنا صير لتعديه إلى مفعولين: ويأتي بمعنى خلق، ومنه قوله تعالى: {ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ} [المائدة: 103] وقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] ويأتي بمعنى سمى، ومنه قوله تعالى: {حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} [الزخرف: 1- 3]. وقوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً} [الزخرف: 15]. {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً} [الزخرف: 19] أي سموهم. ويأتي بمعنى أخذ، كما قال الشاعر:
وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة *** لضغمهما ها يقرع العظم نابها
وقد تأتي زائدة، كما قال الآخر:
وقد جعلت أرى الاثنين أربعة *** والواحد اثنين لمّا هدني الكبر
وقد قيل في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ}: إنها زائدة. وجعل واجتعل بمعنى واحد، قال الشاعر:
ناط أمر الضعاف واجتعل اللي *** ل كحبل العادية الممدود فراشا
أي وطاء يفترشونها ويستقرون عليها. وما ليس بفراش كالجبال والأوعار والبحار فهي من مصالح ما يفترش منها، لأن الجبال كالأوتاد كما قال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً. وَالْجِبالَ أَوْتاداً} [النبأ: 6- 7]. والبحار تركب إلى سائر منافعها كما قال: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164].
الثانية: قال أصحاب الشافعي: لو حلف رجل ألا يبيت على فراش أو لا يستسرج بسراج فبات على الأرض وجلس في الشمس لم يحنث، لأن اللفظ لا يرجع إليهما عرفا.
وأما المالكية فبنوه على أصلهم في الايمان أنها محمولة على النية أو السبب أو البساط الذي جرت عليه اليمين، فإن عدم ذلك فالعرف.
الثالثة: قوله تعالى: {وَالسَّماءَ بِناءً} السماء للأرض كالسقف للبيت، ولهذا قال وقوله الحق {وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] وكل ما علا فأظل قيل له سماء، وقد تقدم القول فيه والوقف على {بِناءً} أحسن منه على {تَتَّقُونَ}، لأن قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً} نعت للرب. ويقال: بنى فلان بيتا، وبنى على أهله بناء فيهما أي زفها. والعامة تقول: بنى بأهله، وهو خطأ، وكان الأصل فيه أن الداخل بأهله كان يضرب عليها قبة ليلة دخوله بها، فقيل لكل داخل بأهله: بان. وبنى مقصورا شدد للكثرة، وابتنى دارا وبنى بمعنى، ومنه بنيان الحائط، وأصله وضع لبنة على أخرى حتى تثبت. وأصل الماء موه، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها فقلت ماه، فالتقى حرفان خفيان فأبدلت من الهاء همزة، لأنها أجلد، وهي بالألف أشبه، فقلت: ماء، الألف الأولى عين الفعل، وبعدها الهمزة التي هي بدل من الهاء، وبعد الهمزة ألف بدل من التنوين. قال أبو الحسن: لا يجوز أن يكتب إلا بألفين عند البصريين، وإن شئت بثلاث، فإذا جمعوا أو صغروا ردوا إلى الأصل فقالوا: مويه وأمواه ومياه، مثل جمال وأجمال.
الرابعة: قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ} الثمرات جمع ثمرة. ويقال: ثمر مثل شجر. ويقال ثمر مثل خشب. ويقال: ثمر مثل بدن. وثمار مثل إكام جمع ثمر. وسيأتي لهذا مزيد بيان في الأنعام إن شاء الله. وثمار السياط: عقد أطرافها. والمعنى في الآية أخرجنا لكم ألوانا من الثمرات، وأنواعا من النبات. {رِزْقاً} طعاما لكم، وعلفا لدوابكم، وقد بين هذا قوله تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا. وَحَدائِقَ غُلْباً. وَفاكِهَةً وَأَبًّا. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ} [عبس: 25- 32] وقد مضى الكلام في الرزق مستوفى والحمد لله.
فإن قيل: كيف أطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك؟ قيل له: لأنها معدة لان تملك ويصح بها الانتفاع، فهي رزق.
الخامسة: قلت ودلت هذه الآية على أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق، ولهذا قال عليه السلام مشيرا إلى هذا المعنى: «والله لان يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه». أخرجه مسلم. ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الاشغال من الصنائع وغيرها، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا فقد أخذ بطرف من جعل لله ندا.
وقال علماء الصوفية: أعلم الله عز وجل في هذه الآية سبيل الفقر، وهو أن تجعل الأرض وطاء والسماء غطاء، والماء طيبا والكلأ طعاما، ولا تعبد أحدا في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا، فإن الله عز وجل قد أتاح لك ما لأبد لك منه، من غير منة فيه لاحد عليك.
وقال نوف البكالي: رأيت علي بن أبي طالب خرج فنظر إلى النجوم فقال: يا نوف، أراقد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق يا أمير المؤمنين، قال: طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والقرآن والدعاء دثارا وشعارا، فرفضوا الدنيا على منهاج المسيح عليه السلام... وذكر باقي الخبر، وسيأتي تمامه في هذه السورة عند قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة: 186] إن شاء الله تعالى.
السادسة: قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا} نهى. {لِلَّهِ أَنْداداً} أي أكفاء وأمثالا ونظراء، واحدها ند، وكذلك قرأ محمد بن السميقع {جُنْداً}، قال الشاعر:
نحمد الله ولا ند له *** عنده الخير وما شاء فعل
وقال حسان:
أتهجوه ولست له بند *** فشركما لخيركما الفداء
ويقال: ند ونديد ونديده على المبالغة، قال لبيد:
ليكلا يكون السندري نديدتي *** وأجعل أقواما عموما عماعما
وقال أبو عبيدة {أَنْداداً} أضدادا. النحاس: {أَنْداداً} مفعول أول، و{لِلَّهِ} في موضع الثاني. الجوهري: والند بفتح النون: التل المرتفع في السماء. والند من الطيب ليس بعربي. وند البعير يند ندا وندادا وندودا: نفر وذهب على وجهه، ومنه قرأ بعضهم {يَوْمَ التَّنادِ}. وندد به أي شهره وسمع به.
السابعة: قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ابتداء وخبر، والجملة في موضع الحال، والخطاب للكافرين والمنافقين، عن ابن عباس. فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك من الختم والطبع والصمم والعمى. فالجواب من وجهين:
أحدهما: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يريد العلم الخاص بأن الله تعالى خلق الخلق وأنزل الماء وأنبت الرزق، فيعلمون أنه المنعم عليهم دون الأنداد.
الثاني: أن يكون المعنى وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم، والله أعلم.
وفي هذا دليل على الامر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد.
وقال ابن فورك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين، فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد.


{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)}
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} أي في شك. {مِمَّا نَزَّلْنا} يعني القرآن، والمراد المشركون الذين تحدوا، فإنهم لما سمعوا القرآن قالوا: ما يشبه هذا كلام الله، وإنا لفي شك منه، فنزلت الآية. ووجه اتصالها بما قبلها أن الله سبحانه لما ذكر في الآية الأولى الدلالة على وحدانيته وقدرته ذكر بعدها الدلالة على نبوة نبيه، وأن ما جاء به ليس مفترى من عنده. قوله: {عَلى عَبْدِنا} يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل، فسمى المملوك من جنس ما يفعله عبدا لتذلله لمولاه، قال طرفة:
إلى أن تحامتني العشيرة كلها *** وأفردت إفراد البعير المعبد
أي المذلل. قال بعضهم: لما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمي بها أشرف الخطط، سمى نبيه عبدا، وأنشدوا:
يا قوم قلبي عند زهراء *** يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها *** فإنه أشرف أسمائي
{فَأْتُوا بِسُورَةٍ} الفاء جواب الشرط، ائتوا مقصور لأنه من باب المجيء، قاله ابن كيسان. وهو أمر معناه التعجيز، لأنه تعالى علم عجزهم عنه. والسورة واحدة السور. وقد تقدم الكلام فيها وفي إعجاز القرآن، فلا معنى للإعادة. و{من} في قوله: {مِنْ مِثْلِهِ} زائدة، كما قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} والضمير في: {مِثْلِهِ} عائد على القرآن عند الجمهور من العلماء، كقتادة ومجاهد وغيرهما.
وقيل: يعود على التوراة والإنجيل. فالمعنى فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه.
وقيل: يعود على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. المعنى: من بشر أمي مثله لا يكتب ولا يقرأ. فمن على هذين التأويلين للتبعيض والوقف على {مِثْلِهِ} ليس بتام، لأن {وَادْعُوا} نسق عليه.
قوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ} معناه أعوانكم ونصراءكم. الفراء: آلهتكم.
وقال ابن كيسان: فإن قيل كيف ذكر الشهداء هاهنا، وإنما يكون الشهداء ليشهدوا أمرا، أو ليخبروا بأمر شهدوه، وإنما قيل لهم: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}؟ فالجواب: أن المعنى استعينوا بمن وجدتموه من علمائكم، وأحضروهم ليشاهدوا ما تأتون به، فيكون الرد على الجميع أوكد في الحجة عليهم.
قلت: هذا هو معنى قول مجاهد. قال مجاهد: معنى: {وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ} أي ادعوا ناسا يشهدون لكم، أي يشهدون أنكم عارضتموه. النحاس: {شُهَداءَكُمْ} نصب بالفعل جمع شهيد، يقال: شاهد وشهيد، مثل قادر وقدير. وقوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي من غيره، ودون نقيض فوق، وهو تقصير عن الغاية، ويكون ظرفا. والدون: الحقير الخسيس، قال:
إذا ما علا المرء رام العلاء *** ويقنع بالدون من كان دونا
ولا يشتق منه فعل، وبعضهم يقول منه: دان يدون دونا. ويقال: هذا دون ذاك، أي أقرب منه. ويقال في الإغراء بالشيء: دونكه. قالت تميم للحجاج: أقبرنا صالحا وكان قد صلبه فقال: دونكموه.
قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة، لقولهم في آية أخرى: {لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا} [الأنفال: 31] والصدق: خلاف الكذب، وقد صدق في الحديث. والصدق: الصلب من الرماح. ويقال: صدقوهم القتال. والصديق: الملازم للصدق. ويقال: رجل صدق، كما يقال: نعم الرجل. والصداقة مشتقة من الصدق في النصح والود.

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)}
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} يعني فيما مضى {وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي تطيقوا ذلك فيما يأتي. والوقف على هذا على {صادِقِينَ} تام.
وقال جماعة من المفسرين: معنى الآية وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا، فإن لم تفعلوا فاتقوا النار. فعلى هذا التفسير لا يتم الوقف على {صادِقِينَ}.
فإن قيل: كيف دخلت إن على لم ولا يدخل عامل على عامل؟ فالجواب أن إن هاهنا غير عاملة في اللفظ فدخلت على لم كما تدخل على الماضي، لأنها لا تعمل في لم كما لا تعمل في الماضي، فمعنى إن لم تفعلوا إن تركتم الفعل.
قوله تعالى: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} نصب بلن، ومن العرب من يجزم بها، ذكره أبو عبيدة، ومنه بيت النابغة:
فلن أعرض أبيت اللعن بالصفد ***
وفي حديث ابن عمر حين ذهب به إلى النار في منامه: فقيل لي: «لن ترع». هذا على تلك اللغة.
وفي قوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} إثارة لهممهم، وتحريك لنفوسهم، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها.
وقال ابن كيسان: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} توقيفا لهم على أنه الحق، وأنهم ليسوا صادقين فيما زعموا من أنه كذب، وأنه مفترى وأنه سحر وأنه شعر، وأنه أساطير الأولين، وهم يدعون العلم ولا يأتون بسورة من مثله. وقوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ} جواب {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} أي اتقوا النار بتصديق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطاعة الله تعالى. وقد تقدم معنى التقوى فلا معنى لإعادتها. ويقال: إن لغة تميم وأسد فتقوا النار.
وحكى سيبويه: تقى يتقي، مثل قضى يقضي. {النَّارَ} مفعولة. {الَّتِي} من نعتها. وفيها ثلاث لغات: التي والت بكسر التاء والت بإسكانها. وهي اسم مبهم للمؤنث وهي معرفة، ولا يجوز نزع الألف واللام منها للتنكير، ولا تتم إلا بصلة.
وفي تثنيتها ثلاث لغات أيضا: اللتان واللتا بحذف النون واللتان بتشديد النون.
وفي جمعها خمس لغات:
اللاتي، وهي لغة القرآن. واللات بكسر التاء بلا ياء. واللواتي. واللوات بلا ياء، وأنشد أبو عبيدة:
من اللواتي واللتي واللاتي *** زعمن أن قد كبرت لداتي
واللوا بإسقاط التاء، هذا ما حكاه الجوهري. وزاد ابن الشجري: اللائي بالهمز وإثبات الياء. واللاء بكسر الهمزة وحذف الياء. واللا بحذف الهمزة فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي: اللواتي وفي اللائي: اللوائي. قال الجوهري: وتصغير التي اللتيا بالفتح والتشديد، قال الراجز:
بعد اللتيا واللتيا والتي *** إذا علتها أنفس تردت
وبعض الشعراء أدخل على {التي} حرف النداء، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا: يا الله، وحده. فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها، وقال:
من أجلك يا التي تيمت قلبي *** وأنت بخيلة بالود عني
ويقال: وقع فلان في اللتيا والتي، وهما اسمان من أسماء الداهية. والوقود بالفتح: الحطب. وبالضم: التوقد. و{النَّاسُ} عموم، ومعناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء أنه يكون حطبا لها، أجارنا الله منها. {وَالْحِجارَةُ} هي حجارة الكبريت الأسود عن ابن مسعود والفراء وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب: سرعة الاتقاد، نتن الرائحة، كثرة الدخان، شدة الالتصاق بالأبدان، قوة حرها إذا حميت. وليس في قوله تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ} دليل على أن ليس فيها غير الناس والحجارة، بدليل ما ذكره في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها.
وقيل: المراد بالحجارة الأصنام، لقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] أي حطب جهنم. وعليه فتكون الحجارة والناس وقودا للنار، وذكر ذلك تعظيما للنار أنها تحرق الحجارة مع إحراقها للناس.
وعلى التأويل الأول يكونون معذبين بالنار والحجارة. وقد جاء الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «كل مؤذ في النار».
وفي تأويله وجهان:
أحدهما- أن كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار.
الثاني- أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرها في النار معد لعقوبة أهل النار. وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة. والله أعلم. روى مسلم عن العباس بن عبد المطلب قال قلت: يا رسول الله، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك؟ قال: «نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح- في رواية- ولولا أنا لكان فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ»... {وَقُودُهَا} مبتدأ. {النَّاسُ} خبره. {وَالْحِجارَةُ} عطف عليهم. وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف: {وقودها} بضم الواو. وقرأ عبيد بن عمير: {وقيدها الناس}. قال الكسائي والأخفش: الوقود بفتح الواو: الحطب، وبالضم: الفعل، يقال: وقدت النار تقد وقودا بالضم ووقدا وقدة ووقيدا ووقدا ووقدانا، أي توقدت. وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضا. والاتقاد مثل التوقد، والموضع موقد، مثل مجلس، والنار موقدة. والوقده: شدة الحر، وهي عشرة أيام أو نصف شهر. قال النحاس: يجب على هذا ألا يقرأ إلا {وَقُودُهَا} بفتح الواو لان المعنى حطبها، إلا أن الأخفش قال: وحكى أن بعض العرب يجعل الوقود والوقود بمعنى الحطب والمصدر. قال النحاس: وذهب إلى أن الأول أكثر، قال: كما أن الوضوء الماء، والوضوء المصدر.
قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} ظاهره أن غير الكافرين لا يدخلها وليس كذلك، بدليل ما ذكره في غير موضع من الوعيد للمذنبين وبالأحاديث الثابتة في الشفاعة، على ما يأتي. وفيه دليل على ما يقوله أهل الحق من أن النار موجودة مخلوقة، خلافا للمبتدعة في قولهم: إنها لم تخلق حتى الآن. وهو القول الذي سقط فيه القاضي منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي. روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تدرون ما هذا؟» قال قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوى في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها».
وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احتجت النار والجنة فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله عز وجل لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها». وأخرجه مسلم بمعناه. يقال: احتجت بمعنى تحتج، للحديث المتقدم حديث ابن مسعود، ولان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أراهما في صلاة الكسوف، ورأهما أيضا في إسرائه ودخل الجنة، فلا معنى لما خالف ذلك. وبالله التوفيق. و{أُعِدَّتْ} يجوز أن يكون حالا للنار على معنى معدة، وأضمرت معه قد، كما قال: {أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] فمعناه قد حصرت صدورهم، فمع {حَصِرَتْ} قد مضمرة لان الماضي لا يكون حالا إلا مع قد، فعلى هذا لا يتم الوقف على {الْحِجارَةُ}. ويجوز أن يكون كلاما منقطعا عما قبله، كما قال: {وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ} [فصلت: 23].
وقال السجستاني: {أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} من صلة {الَّتِي} كما قال في آل عمران: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} [آل عمران: 131]. ابن الأنباري: وهذا غلط، لأن التي في سورة البقرة قد وصلت بقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ} فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية، وفي آل عمران ليس لها صله غير {أُعِدَّتْ}.

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25)}
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: لما ذكر الله عز وجل جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أيضا. والتبشير الاخبار بما يظهر أثره على البشرة- وهي ظاهر الجلد- لتغيرها بأول خبر يرد عليك، ثم الغالب أن يستعمل في السرور مقيدا بالخير المبشر به، وغير مقيد أيضا. ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيدا منصوصا على الشر المبشر به، قال الله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق: 24]. ويقال: بشرته وبشرته- مخفف ومشدد- بشارة بكسر الباء فأبشر واستبشر. وبشر يبشر إذا فرح. ووجه بشير إذا كان حسنا بين البشارة بفتح الباء. والبشرى: ما يعطاه المبشر. وتباشير الشيء: أوله.
الثانية: أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال: من بشرني من عبيدي بكذا فهو حر، فبشره واحد من عبيده فأكثر فإن أولهم يكون حرا دون الثاني. واختلفوا إذا قال: من أخبرني من عبيدي بكذا فهو حر فهل يكون الثاني مثل الأول، فقال أصحاب الشافعي: نعم، لأن كل واحد منهم مخبر.
وقال علماؤنا: لا، لأن المكلف إنما قصد خبرا يكون بشارة، وذلك يختص بالأول، وهذا معلوم عرفا فوجب صرف القول إليه. وفرق محمد بن الحسن بين قوله: أخبرني، أو حدثني، فقال: إذا قال الرجل أي غلام لي أخبرني بكذا، أو أعلمني بكذا وكذا فهو حر- ولا نية له- فأخبره غلام له بذلك بكتاب أو كلام أو رسول فإن الغلام يعتق، لأن هذا خبر. وإن أخبره بعد ذلك غلام له عتق، لأنه قال: أي غلام أخبرني فهو حر. ولو أخبروه كلهم عتقوا، وإن كان عنى- حين حلف- بالخبر كلام مشافهة لم يعتق واحد منهم إلا أن يخبره بكلام مشافهة بذلك الخبر. قال: وإذا قال أي غلام لي حدثني، فهذا على المشافهة، لا يعتق واحد منهم.
الثالثة: قوله تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} رد على من يقول: إن الايمان بمجرده يقتضي الطاعات، لأنه لو كان ذلك ما أعادها، فالجنة تنال بالايمان والعمل الصالح.
وقيل: الجنة تنال بالايمان، والدرجات تستحق بالأعمال الصالحات. والله أعلم.
{أَنَّ لَهُمْ} في موضع نصب ب {بشر} والمعنى وبشر الذين آمنوا بأن لهم، أو لان لهم، فلما سقط الخافض عمل الفعل.
وقال الكسائي وجماعة من البصريين: {أن} في موضع خفض بإضمار الباء. {جَنَّاتٍ} في موضع نصب اسم أن، وأن وما عملت فيه في موضع المفعول الثاني. والجنات: البساتين، وإنما سميت جنات لأنها تجن من فيها أي تستره بشجرها، ومنه: المجن والجنين والجنة. {تَجْرِي} في موضع النعت لجنات وهو مرفوع، لأنه فعل مستقبل فحذفت الضمة من الياء لثقلها معها. {مِنْ تَحْتِهَا} أي من تحت أشجارها، ولم يجر لها ذكر، لأن الجنات دالة عليها. {الْأَنْهارُ} أي ماء الأنهار، فنسب الجري إلى الأنهار توسعا، وإنما يجري الماء وحده فحذف اختصارا، كما قال تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أي أهلها.
وقال الشاعر:
نبئت أن النار بعدك أوقدت *** واستبّ بعدك يا كليب المجلس
أراد: أهل المجلس، فحذف. والنهر: مأخوذ من أنهرت، أي وسعت، ومنه قول قيس بن الخطيم:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها *** يرى قائم من دونها ما وراءها
أي وسعتها، يصف طعنة. ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه». معناه: ما وسع الذبح حتى يجري الدم كالنهر. وجمع النهر: نهر وأنهار. ونهر نهر: كثير الماء، قال أبو ذؤيب:
أقامت به فابتنت خيمة *** على قصب وفرات نهر
وروي: أن أنهار الجنة ليست في أخاديد، إنما تجري على سطح الجنة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها. والوقف على {الْأَنْهارُ} حسن وليس بتام، لأن قوله: {كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ} من وصف الجنات. {رِزْقاً} مصدره، وقد تقدم القول في الرزق. ومعنى: {مِنْ قَبْلُ} يعني في الدنيا، وفيه وجهان:
أحدهما- أنهم قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا.
والثاني- هذا الذي رزقنا الدنيا، لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك وقيل: {مِنْ قَبْلُ} يعني في الجنة لأنهم يرزقون ثم يرزقون، فإذا أتوا بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها، ثم أتوا منها في آخر النهار قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، يعني أطعمنا في أول النهار، لأن لونه يشبه ذلك، فإذا أكلوا منها وجدوا لها طعما غير طعم الأول. {وَأُتُوا} فعلوا من أتيت. وقرأه الجماعة بضم الهمزة والتاء. وقرأ هارون الأعور {وَأُتُوا} بفتح الهمزة والتاء. فالضمير في القراءة الأولى لأهل الجنة، وفي الثانية للخدام. {بِهِ مُتَشابِهاً} حال من الضمير في: {به}، أي يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في الطعم. قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم.
وقال عكرمة: يشبه ثمر الدنيا ويباينه في جل الصفات. ابن عباس: هذا على وجه التعجب، وليس في الدنيا شيء مما في الجنة سوى الأسماء، فكأنهم تعجبوا لما رأوه من حسن الثمرة وعظم خلقها.
وقال قتادة: خيارا لا رذل فيه، كقوله تعالى: {كِتاباً مُتَشابِهاً} [الزمر: 23] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه، لأن فيها خيارا وغير خيار. {وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ} ابتداء وخبر. وأزواج: جمع زوج. والمرأة: زوج الرجل. والرجل زوج المرأة. قال الأصمعي: ولا تكاد العرب تقول زوجة.
وحكى الفراء أنه يقال: زوجة، وأنشد الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي *** كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقال عمار بن ياسر في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم. ذكره البخاري، واختاره الكسائي. {مُطَهَّرَةٌ} نعت للأزواج. ومطهرة في اللغة أجمع من طاهرة وأبلغ، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبصاق وسائر أقذار الآدميات. ذكر عبد الرازق قال أخبرني الثوري عن ابن أبى نجيح عن مجاهد: {مُطَهَّرَةٌ} قال: لا يبلن ولا يتغوطن ولا يلدن ولا يحضن ولا يمنين ولا يبصقن. وقد أتينا على هذا كله في وصف أهل الجنة وصفه الجنة ونعيمها من كتاب التذكرة. والحمد لله. {وَهُمْ فِيها خالِدُونَ}... {لَهُمْ} مبتدأ. {خالِدُونَ} خبره، والظرف ملغى. ويجوز في غير القرآن نصب خالدين على الحال. والخلود: البقاء ومنه جنة الخلد. وقد تستعمل مجازا فيما يطول، ومنه قولهم في الدعاء: خلد الله ملكه أي طوله. قال زهير:
ألا لا أرى على الحوادث باقيا *** ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا
وأما الذي في الآية فهو أبدي حقيقة.
يتبع..


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 4:09 pm
المشاركة رقم: #5
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)




{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26)}
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين: يعني {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً} [البقرة: 17] وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ} [البقرة: 19] قالوا: الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال، فأنزل الله هذه الآية.
وفي رواية عطاء عن ابن عباس قال: لما ذكر الله آلهة المشركين فقال: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73] وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، قالوا: أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أي شيء يصنع؟ فأنزل الله الآية.
وقال الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله الآية. و{يَسْتَحْيِي} أصله يستحيي، عينه ولامه حرفا علة، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت. واسم الفاعل في هذا: مستحي، والجمع مستحيون ومستحيين. وقرأ ابن محيصن {يستحي} بكسر الحاء وياء واحدة ساكنة، وروى عن ابن كثير، وهي لغة تميم وبكر بن وائل، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت، فحذفت إحداهما للالتقاء، واسم الفاعل مستح، والجمع مستحون ومستحين. قاله الجوهري. واختلف المتأولون في معنى: {يَسْتَحْيِي} في هذه الآية فقيل: لا يخشى، ورجحه الطبري، وفي التنزيل: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ} [الأحزاب: 37] بمعنى تستحي.
وقال غيره: لا يترك.
وقيل: لا يمتنع. واصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح، وهذا محال على الله تعالى.
وفي صحيح مسلم: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق. المعنى لا يأمر بالحياء فيه، ولا يمتنع من ذكره.
قوله تعالى: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما}... {يَضْرِبَ} معناه يبين، و{أن} مع الفعل في موضع نصب بتقدير حذف من. {مَثَلًا} منصوب ب يَضْرِبَ... {بَعُوضَةً} في نصبها أربعة أوجه:
الأول- تكون {ما} زائدة، وب {عُوضَةً} بدلا من {مَثَلًا}.
الثاني- تكون {ما} نكرة في موضع نصب على البدل من قوله: {مَثَلًا}. و{بَعُوضَةً} نعت لما، فوصفت {ما} بالجنس المنكر لإبهامها لأنها بمعنى قليل، قاله الفراء والزجاج وثعلب.
الثالث- نصبت على تقدير إسقاط الجار، المعنى أن يضرب مثلا ما بين بعوضة، فحذفت بين وأعربت بعوضة بإعرابها، والفاء بمعنى إلى، أي إلى ما فوقها. وهذا قول الكسائي والفراء أيضا، وأنشد أبو العباس:
يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم *** ولا حبال محب واصل تصل
أراد ما بين قرن، فلما أسقط بين نصب.
الرابع- أن يكون {يَضْرِبَ} بمعنى يجعل، فتكون {بَعُوضَةً} المفعول الثاني. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج {بَعُوضَةً} بالرفع، وهي لغة تميم. قال أبو الفتح: ووجه ذلك أن {ما} اسم بمنزلة الذي، و{بَعُوضَةً} رفع على إضمار المبتدأ، التقدير: لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ. ومثله قراءة بعضهم: {تماما على الذي أحسن} أي على الذي هو أحسن.
وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، أي هو قائل. قال النحاس: والحذف في ما أقبح منه في الذي، لان الذي إنما له وجه واحد والاسم معه أطول. ويقال: إن معنى ضربت له مثلا، مثلت له مثلا. وهذه الأبنية على ضرب واحد، وعلى مثال واحد ونوع واحد والضرب النوع. والبعوضة: فعولة من بعض إذا قطع اللحم، يقال: بضع وبعض بمعنى، وقد بعضته تبعيضا، أي جزأته فتبعض. والبعوض: البق، الواحدة بعوضة، سميت بذلك لصغرها. قاله الجوهري وغيره.
قوله تعالى: {فَما فَوْقَها} قد تقدم أن الفاء بمعنى إلى، ومن جعل {ما} الأولى صلة زائدة ف- ما الثانية عطف عليها.
وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما: معنى: {فَما فَوْقَها}- والله أعلم- ما دونها، أي إنها فوقها في الصغر. قال الكسائي: وهذا كقولك في الكلام: أتراه قصيرا؟ فيقول القائل: أو فوق ذلك، أي هو أقصر مما ترى.
وقال قتادة وابن جريج: المعنى في الكبر. والضمير في أَنَّهُ عائد على المثل أي أن المثل حق.
والحق خلاف الباطل. والحق: واحد الحقوق. والحقة بفتح الحاء أخص منه، يقال: هذه حقتي، أي حقي.
قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} لغة بني تميم وبني عامر في: {أما} أيما، يبدلون من إحدى الميمين ياء كراهية التضعيف، وعلى هذا ينشد بيت عمر بن أبي ربيعة: رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأيما بالعشي فيخصر قوله تعالى: {فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا} اختلف النحويون في: {ماذا}، فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله، فيكون في موضع نصب بـ {أَرادَ}. قال ابن كيسان: وهو الجيد.
وقيل: ما اسم تام في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي وهو خبر الابتداء، ويكون التقدير: ما الذي أراده الله بهذا مثلا، ومعنى كلامهم هذا: الإنكار بلفظ الاستفهام. و{مَثَلًا} منصوب على القطع، التقدير: أراد مثلا، قاله ثعلب.
وقال ابن كيسان: هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال.
قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} قيل: هو من قول الكافرين، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى.
وقيل: بل هو خبر من الله عز وجل، وهو أشبه، لأنهم يقرون بالهدى أنه من عنده، فالمعنى: قل يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا، أي يوفق ويخذل، وعليه فيكون فيه رد على من تقدم ذكرهم من المعتزلة وغيرهم في قولهم: إن الله لا يخلق الضلال ولا الهدى. قالوا: ومعنى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} التسمية هنا، أي يسميه ضالا، كما يقال: فسقت فلانا، يعني سميته فاسقا، لأن الله تعالى لا يضل أحدا. هذا طريقهم في الإضلال، وهو خلاف أقاويل المفسرين، وهو غير محتمل في اللغة، لأنه يقال: ضلله إذا سماه ضالا، ولا يقال: أضله إذا سماه ضالا، ولكن معناه ما ذكره المفسرون أهل التأويل من الحق أنه يخذل به كثيرا من الناس مجازاة لكفرهم. ولا خلاف أن قوله: {وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ} أنه من قول الله تعالى. و{الْفاسِقِينَ} نصب بوقوع الفعل عليهم، والتقدير: وما يضل به أحدا إلا الفاسقين الذين سبق في علمه أنه لا يهديهم. ولا يجوز أن تنصبهم على الاستثناء لان الاستثناء لا يكون إلا بعد تمام الكلام.
وقال نوف البكالي: قال عزير فيما يناجي ربه عز وجل: إلهي تخلق خلقا فتضل من تشاء وتهدي من تشاء. قال فقيل: يا عزير أعرض عن هذا! لتعرضن عن هذا أو لامحونك من النبوة، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. والضلال أصله الهلاك، يقال منه: ضل الماء في اللبن إذا استهلك، ومنه قوله تعالى: {أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: 10] وقد تقدم في الفاتحة. والفسق أصله في كلام العرب الخروج عن الشيء، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، والفأرة من جحرها. والفويسقة: الفأرة، وفي الحديث: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا». روته عائشة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخرجه مسلم.
وفي رواية: «العقرب» مكان: «الحية». فأطلق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها اسم الفسق لاذيتها، على ما يأتي بيانه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وفسق الرجل يفسق ويفسق أيضا- عن الأخفش- فسقا وفسوقا، أي فجر. فأما قوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} فمعناه خرج. وزعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق. قال: وهذا عجب، وهو كلام عربي حكاه عنه ابن فارس والجوهري.
قلت: قد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الزاهر له لما تكلم على معنى الفسق قول الشاعر:
يذهبن في نجد وغورا غائرا *** فواسقا عن قصدها جوائرا
والفسيق: الدائم الفسق. ويقال في النداء: يا فسق ويا خبث، يريد: يا أيها الفاسق، ويا أيها الخبيث. والفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان.

{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {الَّذِينَ} الذين في موضع نصب على النعت للفاسقين، وإن شئت جعلته في موضع رفع على أنه خبر ابتدا محذوف، أي هم الذين. وقد تقدم.
الثانية: قوله تعالى: {يَنْقُضُونَ} النقض: إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد. والنقاضة. ما نقض من حبل الشعر. والمناقضة في القول: أن تتكلم بما تناقض معناه. والنقيضة في الشعر: ما ينقض به. والنقض: المنقوض. واختلف الناس في تعيين هذا العهد، فقيل: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره.
وقيل: هو وصية الله تعالى إلى خلقه، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله، ونقضهم ذلك ترك العمل به.
وقيل: بل نصب الادلة على وحدانيته بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد، ونقضهم ترك النظر في ذلك.
وقيل: هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يكتموا أمره. فالآية على هذا في أهل الكتاب. قال أبو إسحاق الزجاج: عهده عز وجل ما أخذه على النبيين ومن اتبعهم ألا يكفروا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ودليل ذلك: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] إلى قوله تعالى: {وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] أي عهدي.
قلت: وظاهر ما قبل وما بعد يدل على أنها في الكفار. فهذه خمسة أقوال، والقول الثاني يجمعها.
الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ} الميثاق: العهد المؤكد باليمين، مفعال من الوثاقة والمعاهدة، وهي الشدة في العقد والربط ونحوه. والجمع المواثيق على الأصل، لأن أصل ميثاق موثاق، صارت الواو ياء لانكسار ما قبلها- والمياثق والمياثيق أيضا، وأنشد ابن الاعرابي:
حمى لا يحل الدهر إلا بإذننا *** ولا نسأل الأقوام عهد المياثق
والموثق: الميثاق. والمواثقة: المعاهدة، ومنه قوله تعالى: {وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ}.
الرابعة: قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ} القطع معروف، والمصدر- في الرحم- القطيعة، يقال: قطع رحمه قطيعة فهو رجل قطع وقطعة، مثال همزة. وقطعت الحبل قطعا. وقطعت النهر قطوعا. وقطعت الطير قطوعا وقطاعا وقطاعا إذا خرجت من بلد إلى بلد. وأصاب الناس قطعة: إذا قلت مياههم. ورجل به قطع: أي انبهار.
الخامسة: قوله تعالى: {ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} {ما} في موضع نصب بـ {يقطعون}. و{أن} إن شئت كانت بدلا من {ما} وإن شئت من الهاء في: {به} وهو أحسن. ويجوز أن يكون لئلا يوصل، أي كراهة أن يوصل. واختلف ما الشيء الذي أمر بوصله؟ فقيل: صلة الأرحام.
وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا.
وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب بعضهم.
وقيل: الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده. فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل. هذا قول الجمهور، والرحم جزء من هذا.
السادسة: قوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} أي يعبدون غير الله تعالى ويجورون في الافعال، إذ هي بحسب شهواتهم، وهذا غاية الفساد.
{أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} ابتداء وخبر. و{هُمُ} زائدة، ويجوز أن تكون {هُمُ} ابتداء ثان، {الْخاسِرُونَ} خبره، والثاني وخبره خبر الأول كما تقدم. والخاسر: الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز. والخسران: النقصان، كان في ميزان أو غيره، قال جرير:
إن سليطا في الخسار إنه *** أولاد قوم خلقوا أقنه
يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم. قال الجوهري: وخسرت الشيء بالفتح وأخسرته نقصته. والخسار والخسارة والخيسرى: الضلال والهلاك. فقيل للهالك: خاسر، لأنه خسر نفسه واهلة يوم القيامة ومنع منزله من الجنة.
السابعة: في هذه الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه فلا يحل له نقضه سواء أكان بين مسلم أم غيره، لذم الله تعالى من نقض عهده. وقد قال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقد قال لنبيه عليه السلام: {وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ} [الأنفال: 85]فنهاه عن الغدر، وذلك لا يكون إلا بنقض العهد على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}
... {كَيْفَ} سؤال عن الحال، وهي اسم في موضع نصب ب- {تَكْفُرُونَ}، وهي مبنية على الفتح وكان سبيلها أن تكون ساكنة، لأن فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب فأشبهت الحروف، واختير لها الفتح لخفته، أي هؤلاء ممن يجب أن يتعجب منهم حين كفروا وقد ثبتت عليهم الحجة. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب وهم لم يكفروا بالله؟ فالجواب ما سبق من أنهم لما لم يثبتوا أمر محمد عليه السلام ولم يصدقوه فيما جاء به فقد أشركوا، لأنهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله. ومن زعم أن القرآن كلام البشر فقد أشرك بالله وصار ناقضا للعهد.
وقيل: {كَيْفَ} لفظه لفظ الاستفهام وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ، أي كيف تكفرون نعمه عليكم وقدرته هذه! قال الواسطي: وبخهم بهذا غاية التوبيخ، لأن الموات والجماد لا ينازع صانعه في شي، وإنما المنازعة من الهياكل الروحانية.
قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْواتاً} هذه الواو واو الحال، وقد مضمرة. قال الزجاج: التقدير وقد كنتم، ثم حذفت قد.
وقال الفراء: {أَمْواتاً} خبر {كُنْتُمْ}... {فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} هذا وقف التمام، كذا قال أبو حاتم. ثم قال: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} واختلف أهل التأويل في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين، وكم من موتة وحياة للإنسان؟ فقال ابن عباس وابن مسعود: أي كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا فأحياكم- أي خلقكم- ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة. قال ابن عطية: وهذا القول هو المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لإقرارهم بهما، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين، ثم للاحياء في الدنيا، ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الأحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها. قال غيره: والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا.
وقيل: لم يعتد بها كما لم يعتد بموت من أماته في الدنيا ثم أحياه في الدنيا.
وقيل: كنتم أمواتا في ظهر آدم، ثم أخرجكم من ظهره كالذر، ثم يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم.
وقيل: كنتم أمواتا- أي نطفا- في أصلاب الرجال وأرحام النساء، ثم نقلكم من الأرحام فأحياكم، ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم في القبر للمسألة، ثم يميتكم في القبر، ثم يحييكم حياة النشر إلى الحشر، وهي الحياة التي ليس بعدها موت.
قلت: فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات، وثلاث إحياءات. وكونهم موتى في ظهر آدم، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفا في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فعلى هذا تجئ أربع موتات وأربع إحياءات. وقد قيل: إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم عليه السلام كالهباء ثم أماتهم، فيكون على هذا خمس موتات، وخمس إحياءات. وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخلوا النار، لحديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما أهل النار الذي هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم- أو قال بخطاياهم- فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن في الشفاعة فجئ بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يأهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل». فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان يرعى بالبادية. أخرجه مسلم.
قلت: فقوله: {فأماتهم الله} حقيقة في الموت، لأنه أكده بالمصدر، وذلك تكريما لهم.
وقيل: يجوز أن يكون {أماتهم} عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم، ولا يكون ذلك موتا على الحقيقة، والأول أصح. وقد أجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا، وإنما هو على الحقيقة، ومثله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقيل: المعنى وَكُنْتُمْ أَمْواتاً بالخمول فَأَحْياكُمْ بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ فيموت ذكركم، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي إلى عذابه مرجعكم لكفركم.
وقيل: إلى الحياة وإلى المسألة، كما قال تعالى: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] فإعادتهم كابتدائهم، فهو رجوع. و{تُرْجَعُونَ} قراءة الجماعة. ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق ومجاهد وابن محيصن وسلام بن يعقوب يفتحون حرف المضارعة ويكسرون الجيم حيث وقعت.
يتبع...


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 4:11 pm
المشاركة رقم: #6
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} فيه عشر مسائل:
الأولى: {خَلَقَ} معناه اخترع وأوجد بعد العدم. وقد يقال في الإنسان: {خَلَقَ} عند إنشائه شيئا، ومنه قول الشاعر:
من كان يخلق ما يقو *** ل فحيلتي فيه قليله
وقد تقدم هذا المعنى.
وقال ابن كيسان: {خَلَقَ لَكُمْ} أي من أجلكم.
وقيل: المعنى أن جميع ما في الأرض منعم به عليكم فهو لكم.
وقيل: إنه دليل على التوحيد والاعتبار.
قلت: وهذا هو الصحيح على ما نبينه. ويجوز أن يكون عني به ما هم إليه محتاجون من جميع الأشياء.
الثانية: استدل من قال إن أصل الأشياء التي ينتفع بها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها- كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية: 13] الآية- حتى يقوم الدليل على الحظر. وعضدوا هذا بأن قالوا: إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان ألا تخلق فلم تخلق عبثا، فلا بد لها من منفعة. وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله تعالى لاستغنائه بذاته، فهي راجعة إلينا. ومنفعتنا إما في نيل لذتها، أو في اجتنابها لنختبر بذلك، أو في اعتبارنا بها. ولا يحصل شيء من تلك الأمور إلا بذوقها، فلزم أن تكون مباحة. وهذا فاسد، لأنا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة، بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة، بل هو الموجب. ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه، ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بالذوق، بل قد يستدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين. ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سموما مهلكة، ومعارضون بشبهات أصحاب الحظر. وتوقف آخرون وقالوا: ما من فعل لا ندرك منه حسنا ولا قبحا إلا ويمكن أن يكون حسنا في نفسه، ولا معين قبل ورود الشرع، فتعين الوقف إلى ورود الشرع. وهذه الأقاويل الثلاثة للمعتزلة. وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابه وأكثر المالكية والصيرفي في هذه المسألة القول بالوقف. ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء، وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره وإنما حظه تعرف الأمور على ما هي عليه. قال ابن عطية: وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: لم يخل العقل قط من السمع، ولا نازلة إلا وفيها سمع، أو لها تعلق به، أو لها حال تستصحب. قال: فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف.
الثالثة: الصحيح في معنى قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ} الاعتبار. يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر: الأحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها، أي الذي قدر على أحيائكم وخلقكم وخلق السموات والأرض، لا تبعد منه القدرة على الإعادة. فإن قيل: إن معنى: {لَكُمْ} الانتفاع، أي لتنتفعوا بجميع ذلك، قلنا المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا. فان قيل: وأى اعتبار في العقارب والحيات، قلنا: قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببا للايمان وترك المعاصي، وذلك أعظم الاعتبار. قال ابن العربي: وليس في الاخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرا ولا إباحة ولا وقفا، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل بها على وحدانيته.
وقال أرباب المعاني في قوله: {خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} لتتقووا به على طاعته، لا لتصرفوه في وجوه معصيته.
وقال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده، وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد.
الرابعة: روى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلا أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله أن يعطيه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاء شيء قضينا». فقال له عمر: هذا أعطيت إذا كان عندك فما كلفك الله ما لا تقدر. فكره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قول عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا
فتبسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعرف السرور في وجهه لقول الأنصاري. ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بذلك أمرت». قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فخوف الإقلال من سوء الظن بالله، لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم، وقال في تنزيله: {خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} {وسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية: 13]. فهذه الأشياء كلها مسخرة للآدمي قطعا لعذره وحجة عليه، ليكون له عبدا كما خلقه عبدا، فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه، كما قال تعالى: {وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] وقال: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الله تعالى: «سبقت رحمتي غضبي يا بن آدم أنفق أنفق عليك يمين الله ملأى سحا لا يغيضها شيء الليل والنهار».
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا». وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضا، وهذا كله صحيح رواه الأئمة والحمد لله. فمن استنار صدره، وعلم غنى ربه وكرمه أنفق ولم يخف الإقلال، وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته، وانقطعت مشيئته لنفسه، فهذا يعطي من يسره وعسره ولا يخاف إقلالا. وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء، فإذا أعطي اليوم وله غدا مشيئة في شيء خاف ألا يصيب غدا، فيضيق عليه الامر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله. روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انفحي أو انضحي أو أنفقي ولا تحصى فيحصى الله عليك ولا توعى فيوعى عليك».
وروى النسائي عن عائشة قالت: دخل علي سائل مرة وعندي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما تريدين ألا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك؟» قلت: نعم، قال: «مهلا يا عائشة لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك».
الخامسة: قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى} {ثم} لترتيب الاخبار لا لترتيب الامر في نفسه. والاستواء في اللغة: الارتفاع والعلو على الشيء، قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13]، وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة *** وقد حلق النجم اليماني فاستوى
أي ارتفع وعلا، واستوت الشمس على رأسي واستوت الطير على قمة رأسي، بمعنى علا. وهذه الآية من المشكلات، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه قال بعضهم: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، وذهب إليه كثير من الأئمة، وهذا كما روى عن مالك رحمه الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} [طه: 5] قال مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، واراك رجل سوء! أخرجوه.
وقال بعضهم: نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة. وهذا قول المشبهة.
وقال بعضهم: نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها.
وقال الفراء في قوله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ} قال: الاستواء في كلام العرب على وجهين، أحدهما: أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته، أو يستوي عن اعوجاج. فهذان وجهان. ووجه ثالث أن تقول: كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى علي وإلي يشاتمني. على معنى أقبل إلي وعلي. فهذا معنى قوله: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ} والله أعلم. قال وقد قال ابن عباس: ثم استوى إلى السماء صعد. وهذا كقولك: كان قاعدا فاستوى قائما، وكان قائما فاستوى قاعدا، وكل ذلك في كلام العرب جائز.
وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين: قوله: {اسْتَوى} بمعنى أقبل صحيح، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء، والقصد هو الإرادة، وذلك جائز في صفات الله تعالى. ولفظة {ثُمَّ} تتعلق بالخلق لا بالإرادة. وأما ما حكى عن ابن عباس فإنما أخذه عن تفسير الكلبي، والكلبي ضعيف.
وقال سفيان بن عيينة وابن كيسان في قوله: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ}: قصد إليها، أي بخلقه واختراعه، فهذا قول.
وقيل: على دون تكييف ولا تحديد، واختاره الطبري. ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال: استوى بمعنى أنه ارتفع. قال البيهقي: ومراده من ذلك- والله أعلم- ارتفاع أمره، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء.
وقيل: إن المستوي الدخان.
وقال ابن عطية: وهذا يأباه وصف الكلام.
وقيل: المعنى استولى، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق
قال ابن عطية: وهذا إنما يجئ في قوله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} [طه: 5].
قلت: قد تقدم في قول الفراء علي وإلي بمعنى. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى. والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة.
السادسة: يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء، وكذلك في حم السجدة.
وقال في النازعات: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها} [النازعات: 27] فوصف خلقها، ثم قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها} [النازعات: 30]. فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1] وهذا قول قتادة: إن السماء خلقت أولا، حكاه عنه الطبري.
وقال مجاهد وغيره من المفسرين: إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه فجعله أرضا وثار منه دخان فارتفع، فجعله سماء فصار خلق الأرض قبل خلق السماء، ثم قصد أمره إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وكانت إذ خلقها غير مدحوة.
قلت: وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى، وهو أن الله تعالى خلق أولا دخان السماء ثم خلق الأرض، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواها، ثم دحا الأرض بعد ذلك. ومما يدل على أن الدخان خلق أولا قبل الأرض ما رواه السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ} [البقرة: 29] قال: إن الله تبارك وتعالى كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ولم يخلق شيئا قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء، فسما عليه، فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين، في الأحد والاثنين. فجعل الأرض على حوت- والحوت هو النون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] والحوت في الماء والماء على صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على الصخرة، والصخرة في الريح- وهي الصخرة التي ذكر لقمان: ليست في السماء ولا في الأرض- فتحرك الحوت فاضطرب، فتزلزلت الأرض، فأرسل عليها الجبال فقرت، فالجبال تفخر على الأرض، وذلك قوله تعالى: {وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] وخلق الجبال فيها، وأقوات أهلها وشجرها، وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء، وذلك حين يقول: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9، 10] يقول: من سأل فهكذا الامر، {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ} وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض، {وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها} [فصلت: 12] قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش، قال فذلك حين يقول: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الحديد: 4] ويقول: {كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما} [الأنبياء: 30] وذكر القصة في خلق آدم عليه السلام، على ما يأتي بيانه في هذه السورة إن شاء الله تعالى.
وروى وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: «إن أول ما خلق الله عز وجل من شيء القلم فقال له اكتب. فقال: يا رب وما اكتب؟ قال: اكتب القدر. فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة. قال: ثم خلق النون فدحا الأرض عليها، فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات، واضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإن الجبال تفخر على الأرض إلى يوم القيامة». ففي هذه الرواية خلق الأرض قبل ارتفاع بخار الماء الذي هو الدخان، خلاف الرواية الأولى. والرواية الأولى عنه وعن غيره أولى، لقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها} [النازعات: 30] والله أعلم بما فعل، فقد اختلفت فيه الأقاويل، وليس للاجتهاد فيه مدخل.
وذكر أبو نعيم عن كعب الأحبار أن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها، فألقى في قلبه، فقال: هل تدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والشجر والدواب والناس والجبال! لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع. قال: فهم لوثيا بفعل ذلك، فبعث الله دابة فدخلت في منخره، فعج إلى الله منها فخرجت. قال كعب: والذي نفسي بيده، إنه لينظر إليها بين يديه وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت حيث كانت.
السابعة: أصل خلق الأشياء كلها من الماء لما رواه ابن ماجه في سننه، وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبى هريرة قال قلت: يا رسول الله، إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، أنبئني عن كل شي. قال: «كل شيء خلق من الماء» فقلت: أخبرني عن شيء إذا عملت به دخلت الجنة. قال: «أطعم الطعام وأفش السلام وصل الأرحام وقم الليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام». قال أبو حاتم قول أبي هريرة: «أنبئني عن كل شي» أراد به عن كل شيء خلق من الماء. والدليل على صحة هذا جواب المصطفى عليه السلام إياه حيث قال: «كل شيء خلق من الماء» وإن لم يكن مخلوقا.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أول شيء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون» ويروى ذلك أيضا عن عبادة بن الصامت مرفوعا. قال البيهقي: وإنما أراد- والله أعلم- أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش القلم. وذلك بين في حديث عمران بن حصين، ثم خلق السموات والأرض.
وذكر عبد الرزاق بن عمر بن حبيب المكي عن حميد بن قيس الأعرج عن طاوس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله: مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب. قال الرجل: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري. قال: ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو. قال: فأتى الرجل عبد الله بن عباس فسأله، فقال: مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب. قال الرجل: فمم خلق هؤلاء؟ فتلا عبد الله بن عباس: {وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية: 13] فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال البيهقي: أراد أن مصدر الجميع منه، أي من خلقه وإبداعه واختراعه. خلق الماء أولا، أو الماء وما شاء من خلقه لا عن أصل ولا على مثال سبق، ثم جعله أصلا لما خلق بعد، فهو المبدع وهو البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه، سبحانه عز وجل.
الثامنة: قوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ} ذكر تعالى أن السموات سبع. ولم يأت للأرض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] وقد اختلف فيه، فقيل: ومن الأرض مثلهن أي في العدد، لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والاخبار، فتعين العدد.
وقيل: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي في غلظهن وما بينهن.
وقيل: هي سبع إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض، قال الداودي. والصحيح الأول، وأنها سبع كالسماوات سبع. روى مسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه إلى سبع أرضين». وعن عائشة رضي الله عنها مثله، إلا أن فيه من بدل إلى.
ومن حديث أبي هريرة: «لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة».
وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قال موسى عليه السلام يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به قال يا موسى قل لا إله إلا الله قال موسى يا رب كل عبادك يقول هذا قال قل لا إله إلا الله قال لا إله إلا أنت إنما أريد شيئا تخصني به قال يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله».
وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: بينما نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هل تدرون ما هذا» فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «هذا العنان هذه زوايا الأرض يسوقه الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه»- قال: «هل تدرون ما فوقكم» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف»- ثم قال: «هل تدرون كم بينكم وبينها» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «بينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام»- ثم قال: «هل تدرون ما فوق ذلك» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن فوق ذلك سماءين بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة» ثم قال: «كذلك حتى عد سبع سموات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض». ثم قال: «هل تدرون ما فوق ذلك» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين»- ثم قال:- «هل تدرون ما الذي تحتكم» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنها الأرض»- ثم قال: «هل تدرون ما تحت ذلك» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة»، ثم قال: «والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله»- ثم قرأ- {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}. قال أبو عيسى: قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآية تدل على أنه أراد: لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، علم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على عرشه كما وصف نفسه في كتابه. قال: هذا حديث غريب، والحسن لم يسمع من أبي هريرة. والآثار بأن الأرضين سبع كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية. وقد روى أبو الضحى- واسمه مسلم- عن ابن عباس أنه قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] قال: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى. قال البيهقي: إسناد هذا عن ابن عباس صحيح، وهو شاذ بمرة لا أعلم لابي الضحى عليه دليلا، والله أعلم.
التاسعة: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ} ابتداء وخبر. {ما} في موضع نصب. {جَمِيعاً} عند سيبويه نصب على الحال {ثُمَّ اسْتَوى} أهل نجد يميلون ليدلوا على أنه من ذوات الياء، وأهل الحجاز يفخمون. {سَبْعَ} منصوب على البدل من الهاء والنون، أي فسوى سبع سموات. ويجوز أن يكون مفعولا على تقدير يسوي بينهن سبع سموات، كما قال الله عز وجل: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [الأعراف: 155] أي من قومه، قال النحاس.
وقال الأخفش: انتصب على الحال. {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ابتداء وخبر. والأصل في: {هو} تحريك الهاء، والإسكان استخفاف. والسماء تكون واحدة مؤنثة، مثل عنان، وتذكيرها شاذ، وتكون جمعا لسماوة في قول الأخفش، وسماءه في قول الزجاج، وجمع الجمع سماوات وسماءات. فجاء {سواهن} إما على أن السماء جمع وإما على أنها مفرد اسم جنس. ومعنى سواهن سوى سطوحهن بالاملاس.
وقيل: جعلهن سواء.
العاشرة: قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي بما خلق وهو خالق كل شي، فوجب أن يكون عالما بكل شي، وقد قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته، ووافقنا المعتزلة على العالمية دون العلمية. وقالت الجهمية: عالم بعلم قائم لا في محل، تعالى الله عن قول أهل الزيغ والضلالات، والرد على هؤلاء في كتب الديانات. وقد وصف نفسه سبحانه بالعلم فقال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء: 166]، وقال: {فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14]، وقال: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} [الأعراف: 7]، وقال: {وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11]، وقال: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] الآية. وسندل على ثبوت علمه وسائر صفاته في هذه السورة عند قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] إن شاء الله تعالى. وقرأ الكسائي وقالون عن نافع بإسكان الهاء من: هو وهي، إذا كان قبلها فاء أو واو أو لام أو ثم، وكذلك فعل أبو عمرو إلا مع ثم. وزاد أبو عون عن الحلواني عن قالون إسكان الهاء من {أَنْ يُمِلَّ هُوَ} والباقون بالتحريك.

{وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فيه سبع عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} إذ وإذا حرفا توقيت، فإذ للماضي، وإذا للمستقبل، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى.
وقال المبرد: إذا جاء {إذ} مع مستقبل كان معناه ماضيا، نحو قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ} [الأنفال: 30] {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] معناه إذ مكروا، وإذ قلت. وإذا جاء {إذا} مع الماضي كان معناه مستقبلا، كقوله تعالى: {فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ} [النازعات: 34] {فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ} [عبس: 33] و{إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1] أي يجيء.
وقال معمر بن المثنى أبو عبيدة: {إذ} زائدة، والتقدير: وقال ربك، واستشهد بقول الأسود بن يعفر:
فإذ وذلك لا مهاة لذكره *** والدهر يعقب صالحا بفساد
وأنكر هذا القول الزجاج والنحاس وجميع المفسرين. قال النحاس: وهذا خطأ، لأن {إذ} اسم وهي ظرف زمان ليس مما تزاد.
وقال الزجاج: هذا اجترام من أبي عبيدة، ذكر الله عز وجل خلق الناس وغيرهم، فالتقدير وابتدأ خلقكم إذ قال، فكان هذا من المحذوف الذي دل عليه الكلام، كما قال:
فإن المنية من يخشها *** فسوف تصادفه أينما
يريد أينما ذهب. ويحتمل أن تكون متعلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال.
وقيل: هو مردود إلى قوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] فالمعنى الذي خلقكم إذ قال ربك للملائكة. وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل بشرط وجودهم وفهمهم. وهكذا الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته. وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وهو الذي ارتضاه أبو المعالي. وقد أتينا عليه في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفات الله العلى. والرب: المالك والسيد والمصلح والجابر، وقد تقدم بيانه.
الثانية: قوله تعالى: {لِلْمَلائِكَةِ} الملائكة واحدها ملك. قال ابن كيسان وغيره: وزن ملك فعل من الملك.
وقال أبو عبيدة، هو مفعل من لاك إذا أرسل. والألوكة والمالكة والمالكة: الرسالة، قال لبيد:
وغلام أرسلته أمه *** بألوك فبذلنا ما سأل
وقال آخر:
أبلغ النعمان عني مألكا *** إنني قد طال حبسي وانتظاري
ويقال: الكنى أي أرسلني، فأصله على هذا مالك، الهمزة فاء الفعل فإنهم قلبوها إلى عينه فقالوا: ملاك، ثم سهلوه فقالوا ملك. وقيل أصله ملاك من ملك يملك، نحو شمال من شمل، فالهمزة زائدة عن ابن كيسان أيضا، وقد تأتي في الشعر على الأصل، قال الشاعر:
فلست لإنسي ولكن لملأك *** تنزل من جو السماء يصوب
وقال النضر بن شميل. لا اشتقاق للملك عند العرب. والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع، ومثله الصلادمة. والصلادم: الخيل الشداد، واحدها صلدم.
وقيل: هي للمبالغة، كعلامة ونسابة.
وقال أرباب المعاني: خاطب الله الملائكة لا للمشورة ولكن لاستخراج ما فيهم من رؤية الحركات والعبادة والتسبيح والتقديس، ثم ردهم إلى قيمتهم، فقال عز وجل: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34].
الثالثة: قوله تعالى: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} {جاعل} هنا بمعنى خالق، ذكره الطبري عن أبي روق، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد، وقد تقدم. والأرض قيل إنها مكة. روى ابن سابط عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «دحيت الأرض من مكة» ولذلك سميت أم القرى، قال: وقبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. و{خَلِيفَةً} يكون بمعنى فاعل، أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض، أو من كان قبله من غير الملائكة على ما روى. ويجوز أن يكون {خَلِيفَةً} بمعنى مفعول أي مخلف، كما يقال: ذبيحة بمعنى مفعولة. والخلف بالتحريك من الصالحين، وبتسكينها من الطالحين، هذا هو المعروف، وسيأتي له مزيد بيان في الأعراف إن شاء الله. و{خَلِيفَةً} بالفاء قراءة الجماعة، إلا ما روي عن زيد بن علي فإنه قرأ {خليقة} بالقاف. والمعنى بالخليفة هنا- في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل- آدم عليه السلام، وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره، لأنه أول رسول إلى الأرض، كما في حديث أبي ذر، قال قلت: يا رسول الله انبئا كان مرسلا؟ قال: «نعم» الحديث ويقال: لمن كان رسولا ولم يكن في الأرض أحد؟ فيقال: كان رسولا إلى ولده، وكانوا أربعين ولدا في عشرين بطنا في كل بطن ذكر وأنثى، وتوالدوا حتى كثروا، كما قال الله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً} [النساء: 1]. وأنزل عليهم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير. وعاش تسعمائة وثلاثين سنة، هكذا ذكر أهل التوراة. وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة، والله أعلم.
الرابعة: هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف في وجوب ذلك بين الامة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه، قال: إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك، وأن الامة متى أقاموا حجهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولى ذلك. ودليلنا قول الله تعالى: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وقوله تعالى: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26]، وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55] أي يجعل منهم خلفاء، إلى غير ذلك من الآي. وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك، وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، ورووا لهم الخبر في ذلك، فرجعوا وأطاعوا لقريش. فلو كان فرض الامامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها، ولقال قائل: إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم، فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الامامة، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك، فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين، والحمد لله رب العالمين. وقالت الرافضة: يجب نصبه عقلا، وإن السمع إنما ورد على جهة التأكيد لقضية العقل، فأما معرفة الامام فإن ذلك مدرك من جهة السمع دون العقل. وهذا فاسد، لأن العقل لا يوجب ولا يحظر ولا يقبح ولا يحسن، وإذا كان كذلك ثبت أنها واجبة من جهة الشرع لا من جهة العقل، وهذا واضح. فإن قيل وهي:
الخامسة: إذا سلم أن طريق وجوب الامامة السمع، فحبرونا هل يجب من جهة السمع بالنص على الامام من جهة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أم من جهه اختيار أهل الحل والعقد له، أم بكمال خصال الأئمة فيه، ودعاؤه مع ذلك إلى نفسه كاف فيه؟. فالجواب أن يقال: اختلف الناس في هذا الباب، فذهبت الإمامية وغيرها إلى أن الطريق الذي يعرف به الامام هو النص من الرسول عليه السلام ولا مدخل للاختيار فيه. وعندنا: النظر طريق إلى معرفة الامام، وإجماع أهل الاجتهاد طريق أيضا إليه، وهؤلاء الذين قالوا لا طريق إليه إلا النص بنوه على أصلهم أن القياس والرأي والاجتهاد باطل لا يعرف به شيء أصلا، وأبطلوا القياس أصلا وفرعا. ثم اختلفوا على ثلاث فرق: فرقة تدعي النص على أبي بكر، وفرقة تدعي النص على العباس، وفرقة تدعي النص على علي بن أبى طالب رضي الله عنهم. والدليل على فقد النص وعدمه على إمام بعينه هو أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو فرض على الامة طاعة إمام بعينه بحيث لا يجوز العدول عنه إلى غيره لعلم ذلك، لاستحالة تكليف الامة بأسرها طاعة الله في غير معين، ولا سبيل لهم إلى العلم بذلك التكليف، وإذا وجب العلم به لم يخل ذلك العلم من أن يكون طريقه أدلة العقول أو الخبر، وليس في العقل ما يدل على ثبوت الامامة لشخص معين، وكذلك ليس في الحبر ما يوجب العلم بثبوت إمام معين، لأن ذلك الخبر إما أن يكون تواترا أوجب العلم ضرورة أو استدلالا، أو يكون من أخبار الآحاد، ولا يجوز أن يكون طريقه التواتر الموجب للعلم ضرورة أو دلالة، إذ لو كان كذلك لكان كل مكلف يجد من نفسه العلم بوجوب الطاعة لذلك المعين وأن ذلك من دين الله عليه، كما أن كل مكلف علم أن من دين الله الواجب عليه خمس صلوات، وصوم رمضان، وحج البيت ونحوها، ولا أحد يعلم ذلك من نفسه ضرورة، فبطلت هذه الدعوى، وبطل أن يكون معلوما بأخبار الآحاد لاستحالة وقوع العلم به. وأيضا فإنه لو وجب المصير إلى نقل النص على الامام بأي وجه كان، وجب إثبات إمامة أبي بكر والعباس، لأن لكل واحد منهما قوما ينقلون النص صريحا في إمامته، وإذا بطل إثبات الثلاثة بالنص في وقت واحد- على ما يأتي بيانه- كذلك الواحد، إذ ليس أحد الفرق أولى بالنص من الآخر. وإذا بطل ثبوت النص لعدم الطريق الموصل إليه ثبت الاختيار والاجتهاد. فإن تعسف متعسف وادعى التواتر والعلم الضروري بالنص فينبغي أن يقابلوا على الفور بنقيض دعواهم في النص على أبي بكر وبأخبار في ذلك كثيرة تقوم أيضا في جملتها مقام النص، ثم لا شك في تصميم من عدا الإمامية على نفي النص، وهم الخلق الكثير والجم الغفير. والعلم الضروري لا يجتمع على نفيه من ينحط عن معشار أعداد مخالفي الإمامية، ولو جاز رد الضروري في ذلك لجاز أن ينكر طائفة بغداد والصين الأقصى وغيرهما.
السادسة: في رد الأحاديث التي احتج بها الإمامية في النص على علي رضي الله عنه، وأن الامة كفرت بهذا النص وارتدت، وخالفت أمر الرسول عنادا، منها قوله عليه السلام: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه». قالوا: والمولى في اللغة بمعنى أولى، فلما قال: «فعلي مولاه» بفاء التعقيب علم أن المراد بقوله: «مولى» أنه أحق وأولى. فوجب أن يكون أراد بذلك الامامة وأنه مفترض الطاعة، وقوله عليه السلام لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي». قالوا: ومنزلة هارون معروفة، وهو أنه كان مشاركا له في النبوة ولم يكن ذلك لعلي، وكان أخا له ولم يكن ذلك لعلي، وكان خليفة، فعلم أن المراد به الخلافة، إلى غير ذلك مما احتجوا به على ما يأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
والجواب عن الحديث الأول: أنه ليس بمتواتر، وقد اختلف في صحته، وقد طعن فيه أبو داود السجستاني وأبو حاتم الرازي، واستدلا على بطلانه بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مزينة وجهينة وغفار وأسلم موالي دون الناس كلهم ليس لهم مولى دون الله ورسوله». قالوا: فلو كان قد قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» لكان أحد الخبرين كذبا.
جواب ثان- وهو أن الخبر وإن كان صحيحا رواه ثقة عن ثقة فليس فيه ما يدل على إمامته، وإنما يدل على فضيلته، وذلك أن المولى بمعنى الولي، فيكون معنى الخبر: من كنت وليه فعلي وليه، قال الله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} [التحريم: 4] أي وليه. وكان المقصود من الخبر أن يعلم الناس أن ظاهر علي كباطنه، وذلك فضيلة عظيمة لعلي.
جواب ثالث- وهو أن هذا الخبر ورد على سبب، وذلك أن أسامة وعليا اختصما، فقال علي لأسامة: أنت مولاي. فقال: لست مولاك، بل أنا مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه».
جواب رابع: وهو أن عليا عليه السلام لما قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة الافك في عائشة رضي الله عنها: النساء سواها كثير. شق ذلك عليها، فوجد أهل النفاق مجالا فطعنوا عليه وأظهروا البراءة منه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا المقال ردا لقولهم، وتكذيبا لهم فيما قدموا عليه من البراءة منه والطعن فيه، ولهذا ما روي عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا ببغضهم لعلي عليه السلام. وأما الحديث الثاني فلا خلاف أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرد بمنزلة هارون من موسى الخلافة بعده، ولا خلاف أن هارون مات قبل موسى عليهما السلام- على ما يأتي من بيان وفاتيهما في سورة المائدة- وما كان خليفة بعده وإنما كان الخليفة يوشع بن نون، فلو أراد بقوله: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» الخلافة لقال: أنت مني بمنزلة يوشع من موسى، فلما لم يقل هذا دل على أنه لم يرد هذا، وإنما أراد أني استخلفتك على أهلي في حياتي وغيبوبتي عن أهلي، كما كان هارون خليفة موسى على قومه لما خرج إلى مناجاة ربه. وقد قيل: إن هذا الحديث خرج على سبب، وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خرج إلى غزوة تبوك استخلف عليا عليه السلام في المدينة على أهله وقومه، فأرجف به أهل النفاق وقالوا: إنما خلفه بغضا وقلى له، فخرج علي فلحق بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال له: إن المنافقين قالوا كذا وكذا! فقال: «كذبوا بل خلفتك كما خلف موسى هارون». وقال: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى». وإذا ثبت أنه أراد الاستخلاف على زعمهم فقد شارك عليا في هذه الفضيلة غيره، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استخلف في كل غزاة غزاها رجلا من أصحابه، منهم: ابن أم مكتوم، ومحمد بن مسلمة وغيرهما من أصحابه، على أن مدار هذا الخبر على سعد بن أبي وقاص وهو خبر واحد. وروي في مقابلته لابي بكر وعمر ما هو أولى منه. وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أنفذ معاذ بن جبل إلى اليمن قيل له: ألا تنفذ أبا بكر وعمر؟ فقال: «إنهما لا غنى بي عنهما إن منزلتهما مني بمنزلة السمع والبصر من الرأس». وقال: «هما وزيراي في أهل الأرض». وروي عنه عليه السلام أنه قال: «أبو بكر وعمر بمنزلة هارون من موسى». وهذا الخبر ورد ابتداء، وخبر علي ورد على سبب، فوجب أن يكون أبو بكر أولى منه بالإمامة، والله أعلم.
السابعة: واختلف فيما يكون به الامام إماما وذلك في ثلاث طرق،
أحدها: النص، وقد تقدم الخلاف فيه، وقال به أيضا الحنابلة وجماعة من أصحاب الحديث والحسن البصري وبكر ابن أخت عبد الواحد وأصحابه وطائفة من الخوارج. وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على أبي بكر بالإشارة، وأبو بكر على عمر. فإذا نص المستخلف على واحد معين كما فعل الصديق، أو على جماعة كما فعل عمر، وهو الطريق الثاني، ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في تعيين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
الطريق الثالث: إجماع أهل الحل والعقد، وذلك أن الجماعة في مصر من أمصار المسلمين إذا مات إمامهم ولم يكن لهم إمام ولا استخلف فأقام أهل ذلك المصر الذي هو حضرة الامام وموضعه إماما لأنفسهم اجتمعوا عليه ورضوه فإن كل من خلفهم وأمامهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الامام، إذا لم يكن الامام معلنا بالفسق والفساد، لأنها دعوة محيطة بهم تجب إجابتها ولا يسع أحد التخلف عنها لما في إقامة إمامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات البين، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله ولزوم الجماعة ومناصحة ولاة الامر فإن دعوة المسلمين من ورائهم محيطة».
الثامنة: فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت ويلزم الغير فعله، خلافا لبعض الناس حيث قال: لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل والعقد ودليلنا أن عمر رضي الله عنه عقد البيعة لابي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك، ولأنه عقد فوجب ألا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود. قال الامام أبو المعالي: من انعقدت له الامامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر، قال: وهذا مجمع عليه.
التاسعة: فإن تغلب من له أهلية الامامة وأخذها بالقهر والغلبة فقد قيل إن ذلك يكون طريقا رابعا، وقد سئل سهل بن عبد الله التستري: ما يجب علينا لمن غلب على بلادنا وهو إمام؟ قال: تجيبه وتؤدي إليه ما يطالبك من حقه، ولا تنكر فعاله ولا تفر منه، وإذا ائتمنك على سر من أمر الدين لم تفشه.
وقال ابن خويز منداد: ولو وثب على الامر من يصلح له من غير مشورة ولا اختيار وبايع له الناس تمت له البيعة، والله أعلم.
العاشرة: واختلف في الشهادة على عقد الامامة، فقال بعض أصحابنا: إنه لا يفتقر إلى الشهود، لأن الشهادة لا تثبت إلا بسمع قاطع، وليس هاهنا سمع قاطع يدل على إثبات الشهادة. ومنهم من قال: يفتقر إلى شهود، فمن قال بهذا احتج بأن قال: لو لم تعقد فيه الشهادة أدى إلى أن يدعى كل مدع أنه عقد له سرا، وتؤدي إلى الهرج والفتنة، فوجب أن تكون الشهادة معتبرة ويكفي فيها شاهدان، خلافا للجبائي حيث قال باعتبار أربعة شهود وعاقد ومعقود له، لأن عمر حيث جعلها شورى في ستة دل على ذلك. ودليلنا أنه لا خلاف بيننا وبينه أن شهادة الاثنين معتبرة، وما زاد مختلف فيه ولم يدل عليه الدليل فيجب ألا يعتبر.
الحادية عشرة: في شرائط الامام، وهي أحد عشر:
الأول: أن يكون من صميم قريش، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الأئمة من قريش». وقد اختلف في هذا الثاني: أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين مجتهدا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث، وهذا متفق عليه.
الثالث: أن يكون ذا خبرة وراي حصيف بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية البيضة وردع الامة والانتقام من الظالم والأخذ للمظلوم.
الرابع: أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ولا فزع من ضرب الرقاب ولا قطع الأبشار. والدليل على هذا كله إجماع الصحابة رضي الله عنهم، لأنه لا خلاف بينهم أنه لا بد من أن يكون ذلك كله مجتمعا فيه، ولأنه هو الذي يولي القضاة والحكام، وله أن يباشر الفصل والحكم، ويتفحص أمور خلفائه وقضاته، ولن يصلح لذلك كله إلا من كان عالما بذلك كله قيما به. والله أعلم.
الخامس: أن يكون حرا.
السادس: لا خفاء باشتراط حرية الامام وإسلامه.
السابع: أن يكون ذكرا، سليم الأعضاء وهو:
الثامن. وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماما وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما تجوز شهادتها فيه.
التاسع والعاشر: أن يكون بالغا عاقلا، ولا خلاف في ذلك.
الحادي عشر: أن يكون عدلا، لأنه لا خلاف بين الامة أنه لا يجوز أن تعقد الامامة لفاسق، ويجب أن يكون من أفضلهم في العلم، لقوله عليه السلام: «أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعون».
وفي التنزيل في وصف طالوت: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247] فبدأ بالعلم ثم ذكر ما يدل على القوة وسلامة الأعضاء. وقوله: {اصْطَفاهُ} معناه اختاره، وهذا يدل على شرط النسب. وليس من شرطه أن يكون معصوما من الزلل والخطأ، ولا عالما بالغيب، ولا أفرس الامة ولا أشجعهم، ولا أن يكون من بني هاشم فقط دون غيرهم من قريش، فإن الإجماع قد انعقد على إمامة أبي بكر وعثمان وليسوا من بني هاشم.
الثانية عشرة: يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة وألا يستقيم أمر الامة، وذلك أن الامام إنما نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل واستخراج الحقوق وإقامة الحدود وجباية الأموال لبيت المال وقسمتها على أهلها. فإذا خيف بإقامة الأفضل الهرج والفساد وتعطيل الأمور التي لأجلها ينصب الامام كان ذلك عذرا ظاهرا في العدول عن الفاضل إلى المفضول، ويدل على ذلك أيضا علم عمر وسائر الامة وقت الشورى بأن الستة فيهم فاضل ومفضول، وقد أجاز العقد لكل واحد منهم إذا أدى المصلحة إلى ذلك واجتمعت كلمتهم عليه من غير إنكار أحد عليهم، والله أعلم.
الثالثة عشر: الامام إذا نصب ثم فسق بعد انبرام العقد فقال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم، لأنه قد ثبت أن الامام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك مما تقدم ذكره، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها. فلو جوزنا أن يكون فاسقا أدى إلى إبطال ما أقيم لأجله، ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله.
وقال آخرون: لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها أو شيء من الشريعة، لقوله عليه السلام في حديث عبادة: «وألا ننازع الامر أهله قال إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان».
وفي حديث عوف بن مالك: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة» الحديث. أخرجهما مسلم. وعن أم سلمه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع- قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال:- لا ما صلوا». أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه. أخرجه أيضا مسلم.
الرابعة عشرة: ويجب عليه أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصا يؤثر في الامامة. فأما إذا لم يجد نقصا فهل له أن يعزل نفسه ويعقد لغيره؟ اختلف الناس فيه، فمنهم من قال: ليس له أن يفعل ذلك وإن فعل لم تنخلع إمامته. ومنهم من قال: له أن يفعل ذلك. والدليل على أن الامام إذا عزل نفسه انعزل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أقيلوني أقيلوني. وقول الصحابة: لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لديننا فمن ذا يؤخرك! رضيك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لديننا فلا نرضاك! فلو لم يكن له أن يفعل ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه ولقالت له: ليس لك أن تقول هذا، وليس لك أن تفعله. فلما أقرته الصحابة على ذلك علم أن للإمام أن يفعل ذلك، ولان الامام ناظر للغيب فيجب أن يكون حكمه حكم الحاكم، والوكيل إذا عزل نفسه. فإن الامام هو وكيل الامة ونائب عنها، ولما اتفق على أن الوكيل والحاكم وجميع من ناب عن غيره في شيء له أن يعزل نفسه، وكذلك الامام يجب أن يكون مثله. والله أعلم.
الخامسة عشرة: إذا انعقدت الامامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد على ما تقدم وجب على الناس كافة مبايعته على السمع والطاعة، وإقامة كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّ


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 4:15 pm
المشاركة رقم: #7
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)


{قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قوله تعالى: {قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {سُبْحانَكَ} أي تنزيها لك عن أن يعلم الغيب أحد سواك. وهذا جوابهم عن قوله: {أَنْبِئُونِي} فأجابوا أنهم لا يعلمون إلا ما أعلمهم به ولم يتعاطوا ما لا علم لهم به كما يفعله الجهال منا. و{ما} في: {ما عَلَّمْتَنا} بمعنى الذي، أي إلا الذي علمتنا، ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إلا تعليمك إيانا.
الثانية: الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: الله أعلم ولا أدري، اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء من العلماء، لكن قد أخبر الصادق أن بموت العلماء يقبض العلم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون. وأما ما ورد من الاخبار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية فروى البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي البقاع شر؟ قال: «لا أدرى حتى أسأل جبريل» فسأل جبريل، فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال: «خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق».
وقال الصديق للجدة: ارجعي حتى أسأل الناس. وكان علي يقول: وأبردها على الكبد، ثلاث مرات. قالوا وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم. وسأل ابن عمر رجل عن مسألة فقال: لا علم لي بها، فلما أدبر الرجل. قال ابن عمر: نعم ما قال ابن عمر، سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به! ذكره الدارمي في مسنده.
وفي صحيح مسلم عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بهية قال: كنت جالسا عند القاسم بن عبيد الله ويحيى بن سعيد، فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن يسأل عن شيء من أمر هذا الدين فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج، أو علم ولا مخرج؟ فقال له القاسم: وعم ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامي هدى: ابن أبي بكر وعمر. قال يقول له القاسم: أقبح من ذاك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة. فسكت فما أجابه.
وقال مالك بن أنس: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلا في أيديهم، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري. وذكر الهيثم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري.
قلت: ومثله كثير عن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين. وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسة وعدم الانصاف في العلم. قال ابن عبد البر: من بركة العلم وآدابه الانصاف فيه، ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم. روى يونس بن عبد الأعلى قال سمعت ابن وهب يقول سمعت مالك بن أنس يقول: ما في زماننا شيء أقل من الانصاف.
قلت: هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عم فينا الفساد وكثر فيه الطغام! وطلب فيه العلم للرئاسة لا للدراية، بل للظهور في الدنيا وغلبة الاقران بالمراء والجدال الذي يقسي القلب ويورث الضغن، وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى. أين هذا مما روي عن عمر رضي الله عنه وقد قال: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ولو كانت بنت ذي العصبة- يعني يزيد بن الحصين الحارثي- فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال، فقامت امرأة من صوب النساء طويلة فيها فطس فقالت: ما ذلك لك! قال: ولم؟ قالت لان الله عز وجل يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ! وروى وكيع عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي قال: سأل رجل عليا رضي الله عنه عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال علي: أصبت وأخطأت، وفوق كل ذي علم عليم.
وذكر أبو محمد قاسم بن أصبغ قال: لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت على بكر بن حماد حديث مسدد، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس، فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد، فقرأت عليه فيه يوما حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قدم عليه قوم من مضر من مجتابي التمار فقال: إنما هو مجتابي الثمار، فقلت إنما هو مجتابي النمار، هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس والعراق، فقال لي: بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا! أو نحو هذا. ثم قال لي: قم بنا إلى ذلك الشيخ- لشيخ كان في المسجد- فإن له بمثل هذا علما، فقمنا إليه فسألناه عن ذلك فقال: إنما هو مجتابي النمار، كما قلت. وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة، جيوبهم أمامهم. والنمار جمع نمرة. فقال بكر بن حماد واخذ بأنفه: رغم أنفي للحق، رغم أنفي للحق. وانصرف.
وقال يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأحسن:
إذا ما تحدثت في مجلس *** تناهى حديثي إلى ما علمت
ولم أعد علمي إلى غيره *** وكان إذا ما تناهى سكت
الثانية: قوله تعالى: {سُبْحانَكَ} سبحان منصوب على المصدر عند الخليل وسيبويه، يؤدي عن معنى نسبحك تسبيحا.
وقال الكسائي: هو منصوب على أنه نداء مضاف. و{الْعَلِيمُ} فعيل للمبالغة والتكثير في المعلومات في خلق الله تعالى. و{الْحَكِيمُ} معناه الحاكم، وبينهما مزيد المبالغة. وقيل معناه المحكم يجئ والحكيم على هذا من صفات الفعل، صرف عن مفعل إلى فعيل، كما صرف عن مسمع إلى سميع ومؤلم إلى أليم، قاله ابن الأنباري.
وقال قوم: {الْحَكِيمُ} المانع من الفساد، ومنه سميت حكمة اللجام، لأنها تمنع الفرس من الجري والذهاب في غير قصد. قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم *** إني أخاف عليكم أن أغضبا
أي امنعوهم من الفساد.
وقال زهير:
القائد الخيل منكوبا دوابرها *** قد أحكمت حكمات القد والأبقا
القد: الجلد. والأبق: القنب. والعرب تقول: أحكم اليتيم عن كذا وكذا، يريدون منعه. والسورة المحكمة: الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزاد عليها ما ليس منها، والحكمة من هذا، لأنها تمنع صاحبها من الجهل. ويقال: أحكم الشيء إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد. فهو محكم وحكيم على التكثير.

{قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}
قوله تعالى: {قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ} فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ} أمره الله أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة ليعلموا أنه أعلم بما سألهم عنه تنبيها على فضله وعلو شأنه، فكان أفضل منهم بأن قدمه عليهم وأسجدهم له وجعلهم تلامذته وأمرهم بأن يتعلموا منه. فحصلت له رتبة الجلال والعظمة بأن جعله مسجودا له، مختصا بالعلم.
الثانية: في هذه الآية دليل على فضل العلم واهلة، وفي الحديث: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم» أي تخضع وتتواضع وإنما تفعل ذلك لأهل العلم خاصة من بين سائر عيال الله، لأن الله تعالى ألزمها ذلك في آدم عليه السلام فتأدبت بذلك الأدب. فكلما ظهر لها علم في بشر خضعت له وتواضعت وتذللت إعظاما للعلم واهلة، ورضا منهم بالطلب له والشغل به. هذا في الطلاب منهم فكيف بالاحبار فيهم والربانيين منهم! جعلنا الله منهم وفيهم، إنه ذو فضل عظيم.
الثالثة: اختلف العلماء من هذا الباب، أيما أفضل الملائكة أو بنو آدم على قولين: فذهب قوم إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. وذهب آخرون إلى أن الملا الأعلى أفضل. احتج من فضل الملائكة بأنهم عِبادٌ مُكْرَمُونَ. {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26- 27] {لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وقوله: {لنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] وقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50].
وفي البخاري: يقول الله عز وجل: «من ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منهم». وهذا نص. احتج من فضل بني آدم بقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريئة} [البينة: 7] بالهمز، من برأ الله الخلق. وقوله عليه السلام: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضي لطالب العلم» الحديث. أخرجه أبو داود، وبما جاء في أحاديث من أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة، ولا يباهي إلا بالأفضل، والله أعلم.
وقال بعض العلماء: ولا طريق إلى القطع بأن الأنبياء أفضل من الملائكة، ولا القطع بأن الملائكة خير منهم، لأن طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الامة، وليس هاهنا شيء من ذلك، خلافا للقدرية والقاضي أبي بكر رحمه الله حيث قالوا: الملائكة أفضل. قال: وأما من قال من أصحابنا والشيعة: إن الأنبياء أفضل لان الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، فيقال لهم: المسجود له لا يكون أفضل من الساجد، ألا ترى أن الكعبة مسجود لها والأنبياء والخلق يسجدون نحوها، ثم إن الأنبياء خير من الكعبة باتفاق الامة. ولا خلاف أن السجود لا يكون إلا لله تعالى، لأن السجود عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله، فإذا كان كذلك فكون السجود إلى جهة لا يدل على أن الجهة خير من الساجد العابد وهذا واضح. وسيأتي له مزيد بيان في الآية بعد هذا.
الرابعة: قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} دليل على أن أحدا لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله كالأنبياء أو من أعلمه من أعلمه الله تعالى، فالمنجمون والكهان وغيرهم كذبة. وسيأتي بيان هذا في الأنعام إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ}
الخامسة: قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ} أي من قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} حكاه مكي والماوردي.
وقال الزهراوي: ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم. {وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} قال ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير: المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والمعصية. قال ابن عطية: وجاء {تَكْتُمُونَ} للجماعة، والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم: أنتم فعلتم كذا. أي منكم فاعله، وهذا مع قصد تعنيف، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] وإنما ناداه منهم عيينة، وقيل الأقرع. وقالت طائفة: الإبداء والمكتوم ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع.
وقال مهدي بن ميمون: كنا عند الحسن فسأله الحسن بن دينار ما الذي كتمت الملائكة؟ قال: إن الله عز وجل لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجبا، وكأنهم دخلهم من ذلك شي، قال: ثم أقبل بعضهم على بعض وأسروا ذلك بينهم، فقالوا: وما يهمكم من هذا المخلوق! إن الله لم يخلق خلقا إلا كنا أكرم عليه منه. و{ما} في قوله: {ما تُبْدُونَ} يجوز أن ينتصب بـ {أَعْلَمُ} على أنه فعل، ويجوز أن يكون بمعنى عالم وتنصب به {ما} فيكون مثل حواج بيت الله، وقد تقدم.

{وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا} أي واذكر. وأما قول أبى عبيدة: إن {إذ} زائدة فليس بجائز، لأن إذ ظرف وقد تقدم. وقال: {قُلْنا} ولم يقل قلت لان الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيما وإشادة بذكره. والملائكة جمع ملك، وقد تقدم. وتقدم القول أيضا في آدم واشتقاقه فلا معنى لإعادته. وروي عن أبي جعفر بن القعقاع أنه ضم تاء التأنيث من الملائكة اتباعا لضم الجيم في: {اسْجُدُوا}. ونظيره {الْحَمْدُ لِلَّهِ}.
الثانية: قوله تعالى: {اسْجُدُوا} السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع، قال الشاعر:
يجمع تضل البلق في حجراته *** ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
الأكم: الجبال الصغار. جعلها سجدا للحوافر لقهر الحوافر إياها وأنها لا تمتنع عليها. وعين ساجدة، أي فاترة عن النظر، وغايته وضع الوجه بالأرض. قال ابن فارس: سجد إذا تطامن، وكل ما سجد فقد ذل. والاسجاد: إدامة النظر. قال أبو عمرو: وأسجد إذا طأطأ رأسه، قال:
فضول أزمّتها أسجدت *** سجود النصارى لاحبارها
قال أبو عبيدة: وأنشدني أعرابي من بني أسد:
وقلن له أسجد لليلى فأسجدا ***
يعني البعير إذا طأطأ رأسه. ودراهم الاسجاد: دراهم كانت عليها صور كانوا يسجدون لها، قال:
وافى بها كدراهم الاسجاد ***
الثالثة: استدل من فضل آدم وبنيه بقوله تعالى للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ}. قالوا: وذلك يدل على أنه كان أفضل منهم. والجواب أن معنى: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} اسجدوا لي مستقبلين وجه آدم. وهو كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] أي عند دلوك الشمس وكقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ} [ص: 72] أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين. وقد بينا أن المسجود له لا يكون أفضل من الساجد بدليل القبلة. فإن قيل: فإذا لم يكن أفضل منهم فما الحكمة في الامر بالسجود له؟ قيل له: إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم.
وقال بعضهم: عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به فأمروا بالسجود له تكريما. ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} لما قال لهم: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا، فقال لهم: {إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [ص: 71] وجاعله خليفة، فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. والمعنى: ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن. فإن قيل: فقد استدل ابن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]. وأمنه من العذاب بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].
وقال للملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29]. قيل له: إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه، فلم يقل: لعمري. وأقسم بالسماء والأرض، ولم يدل على أنهما أرفع قدرا من العرش والجنان السبع. وأقسم بالتين والزيتون. وأما قول سبحانه: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء: 29] فهو نظير قوله لنبيه عليه السلام: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} [الزمر: 65] فليس فيه إذا دلالة، والله أعلم.
الرابعة: واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة، فقال الجمهور: كان هذا أمرا للملائكة بوضع الجباه على الأرض، كالسجود المعتاد في الصلاة، لأنه الظاهر من السجود في العرف والشرع، وعلى هذا قيل: كان ذلك السجود تكريما لآدم وإظهارا لفضله، وطاعة لله تعالى، وكان آدم كالقبلة لنا. ومعنى: {لِآدَمَ}: إلى آدم، كما يقال صلى للقبلة، أي إلى القبلة.
وقال قوم: لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض ولكنه مبقي على أصل اللغة، فهو من التذلل والانقياد، أي اخضعوا لآدم وأقروا له بالفضل. {فَسَجَدُوا} أي امتثلوا ما أمروا به. واختلف أيضا هل كان ذلك السجود خاصا بآدم عليه السلام فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى، أم كان جائزا بعده إلى زمان يعقوب عليه السلام، لقوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} [يوسف: 100] فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين؟ والذي عليه الأكثر أنه كان مباحا إلى عصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد، فقال لهم: «لا ينبغي أن يسجد لاحد إلا لله رب العالمين». روى ابن ماجه في سننه والبستي في صحيحه عن أبي واقد قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما هذا» فقال: يا رسول الله، قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، فأردت أن أفعل ذلك بك، قال: «فلا تفعل فإني لو أمرت شيئا أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه». لفظ البستي. ومعنى القتب أن العرب يعز عندهم وجود كرسي للولادة فيحملون نساءهم على القتب عند الولادة.
وفي بعض طرق معاذ: ونهى عن السجود للبشر وأمر بالمصافحة.
قلت: وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال المتصوفة عادة في سماعهم وعند دخولهم على مشايخهم واستغفارهم، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه يسجد للإقدام لجهله سواء أكان للقبلة أم غيرها جهالة منه، ضل سعيهم وخاب عملهم.
الخامسة: قوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ} نصب على الاستثناء المتصل، لأنه كان من الملائكة على قول الجمهور: ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وابن المسيب وقتادة وغيرهم، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن، ورجحه الطبري، وهو ظاهر الآية. قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة وكان من الأجنحة الاربعة ثم أبلس بعد. روى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان إبليس من الملائكة فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطانا.
وحكى الماوردي عن قتادة: أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجنة.
وقال سعيد بن جبير: إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم، وخلق سائر الملائكة من نور.
وقال ابن زيد والحسن وقتادة أيضا: إبليس أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ولم يكن ملكا، وروى نحوه عن ابن عباس وقال: اسمه الحارث.
وقال شهر بن حوشب وبعض الأصوليين: كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا وتعبد مع الملائكة وخوطب، وحكاه الطبري عن ابن مسعود. والاستثناء على هذا منقطع، مثل قوله تعالى: {ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] وقوله: {إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] في أحد القولين، وقال الشاعر:
ليس عليك عطش ولا جوع *** إلا الرقاد والرقاد ممنوع
واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله عز وجل وصف الملائكة فقال: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] والجن غير الملائكة. أجاب أهل المقالة الأولى بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس من جملة الملائكة لما سبق في علم الله بشقائه عدلا منه، لا يسأل عما يفعل، وليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة. وقول من قال: إنه كان من جن الأرض فسبي، فقد روي في مقابلته أن إبليس هو الذي قاتل الجن في الأرض مع جند من الملائكة، حكاه المهدوي وغيره.
وحكى الثعلبي عن ابن عباس: أن إبليس كان من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم، وخلقت الملائكة من نور، وكان اسمه بالسريانية عزازيل، وبالعربية الحارث، وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فرأى لنفسه بذلك شرفا وعظمة، فذلك الذي دعاه إلى الكفر فعصى الله فمسخه شيطانا رجيما. فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه، وكانت خطيئة آدم عليه السلام معصية، وخطيئة إبليس كبرا. والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها، وفي التنزيل: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات: 158]، وقال الشاعر في ذكر سليمان عليه السلام:
وسخر من جن الملائك تسعة *** قياما لديه يعملون بلا أجر
وأيضا لما كان من خزان الجنة نسب إليها فاشتق اسمه من اسمها، والله أعلم. وإبليس وزنه إفعيل، مشتق من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله تعالى. ولم ينصرف، لأنه معرفة ولا نظير له في الأسماء فشبه بالأعجمية، قاله أبو عبيدة وغيره.
وقيل: هو أعجمي لا اشتقاق له فلم ينصرف للعجمة والتعريف، قاله الزجاج وغيره.
السادسة: قوله تعالى: {أَبى} معناه امتنع من فعل ما أمر به، ومنه الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله- وفي رواية: يا ويلي- أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار». خرجه مسلم. يقال: أبى يأبى إباء، وهو حرف نادر جاء على فعل يفعل ليس فيه حرف من حروف الحلق، وقد قيل: إن الألف مضارعة لحروف الحلق. قال الزجاج: سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: القول عندي أن الألف مضارعة لحروف الحلق. قال النحاس: ولا أعلم أن أبا إسحاق روى عن إسماعيل نحوا غير هذا الحرف.
السابعة: قوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ} الاستكبار: الاستعظام فكأنه كره السجود في حقه واستعظمه في حق آدم، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته. وعن هذا الكبر عبر عليه السلام بقوله: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر». في رواية فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس». أخرجه مسلم. ومعنى بطر الحق: تسفيهه وإبطاله. وغمط الناس: الاحتقار لهم والازدراء بهم. ويروى: «وغمص» بالصاد المهملة، والمعنى واحد، يقال: غمصه يغمصه غمصا واغتمصه، أي استصغره ولم يره شيئا. وغمص فلان النعمة إذا لم يشكرها. وغمصت عليه قولا قاله، أي عبته عليه. وقد صرح اللعين بهذا المعنى فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76]. {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61]. {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 33] فكفره الله بذلك. فكل من سفه شيئا من أوامر الله تعالى أو أمر رسوله عليه السلام كان حكمه حكمه، وهذا ما لا خلاف فيه.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر، حسد إبليس آدم، وشح آدم في أكله من الشجرة.
وقال قتادة: حسد إبليس آدم، على ما أعطاه الله من الكرامة فقال: أنا ناري وهذا طيني. وكان بدء الذنوب الكبر، ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة، ثم الحسد إذ حسد ابن آدم أخاه.
الثامنة: قوله تعالى: {وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ} قيل: كان هنا بمعنى صار، ومنه قوله تعالى: {فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}.
وقال الشاعر:
بتيهاء قفر والمطي كأنها *** قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
أي صارت.
وقال ابن فورك. كان هنا بمعنى صار خطأ ترده الأصول.
وقال جمهور المتأولين: المعنى أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة.
قلت: وهذا صحيح، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحيح البخاري: «وإنما الأعمال بالخواتيم».
وقيل: إن إبليس عبد الله تعالى ثمانين ألف سنة، وأعطي الرياسة والخزانة في الجنة على الاستدراج، كما أعطى المنافقون شهادة أن لا إله إلا الله على أطراف ألسنتهم، وكما أعطي بلعام الاسم الأعظم على طرف لسانه، فكان في رئاسته والكبر في نفسه متمكن. قال ابن عباس: كان يرى لنفسه أن له فضيلة على الملائكة بما عنده، فلذلك قال: أنا خير منه، ولذلك قال الله عز وجل: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ} [ص: 75] أي استكبرت ولا كبر لك، ولم أتكبر أنا حين خلقته بيدي والكبر لي! فلذلك قال: {وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ} [ص: 74]. وكان أصل خلقته من نار العزة، ولذلك حلف بالعزة فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] فالعزة أورثته الكبر حتى رأى الفضل له على آدم عليه السلام. وعن أبي صالح قال: خلقت الملائكة من نور العزة وخلق إبليس من نار العزة.
التاسعة: قال علماؤنا- رحمة الله عليهم-: ومن أظهر الله تعالى على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالا على ولايته، خلافا لبعض الصوفية والرافضة حيث قالوا: إن ذلك يدل على أنه ولي، إذ لو لم يكن وليا ما أظهر الله على يديه ما أظهر. ودليلنا أن العلم بأن الواحد منا ولي لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنا، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنا لم يمكنا أن نقطع على أنه ولي لله تعالى، لأن الولي لله تعالى من علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالايمان. ولما اتفقنا على أننا لا يمكننا أن نقطع على أن ذلك الرجل يوافي بالايمان، ولا الرجل نفسه يقطع على أنه يوافي بالايمان، علم أن ذلك ليس يدل على ولايته لله. قالوا: ولا نمنع أن يطلع الله بعض أوليائه على حسن عاقبته وخاتمة عمله وغيره معه، قال الشيخ أبو الحسن الأشعري وغيره. وذهب الطبري إلى أن الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم، وهم اليهود الذي كفروا بمحمد عليه السلام مع علمهم بنبوته، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم.
العاشرة: واختلف هل كان قبل إبليس كافر أو لا؟ فقيل: لا، وإن إبليس أول من كفر.
وقيل: كان قبله قوم كفار وهم الجن وهم الذين كانوا في الأرض. واختلف أيضا هل كفر إبليس جهلا أو عنادا على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره. فمن قال إنه كفر جهلا قال: إنه سلب العلم عند كفره. ومن قال كفر عنادا قال: كفر ومعه علمه. قال ابن عطية: والكفر عنادا مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء.

************
يتبع........


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 4:16 pm
المشاركة رقم: #8
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)





{وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}
فيه ثلاث عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى-: {وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ} لا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم: اسكن، أي لازم الإقامة واتخذها مسكنا، وهو محل السكون. وسكن إليه يسكن سكونا. والسكن: النار، قال الشاعر:
قد قومت بسكن وأدهان ***
والسكن: كل ما سكن إليه. والسكين معروف سمي به لأنه يسكن حركة المذبوح، ومنه المسكين لقلة تصرفه وحركته. وسكان السفينة عربي، لأنه يسكنها عن الاضطراب.
الثانية: في قوله تعالى: {اسْكُنْ} تنبيه على الخروج، لأن السكنى لا تكون ملكا، ولهذا قال بعض العارفين: السكنى تكون إلى مدة ثم تنقطع، فدخولهما في الجنة كان دخول سكنى لا دخول إقامة.
قلت: وإذا كان هذا فيكون فيه دلالة على ما يقوله الجمهور من العلماء: إن من أسكن رجلا مسكنا له أنه لا يملكه بالسكنى، وأن له أن يخرجه إذا انقضت مدة الإسكان. وكان الشعبي يقول: إذا قال الرجل داري لك سكنى حتى تموت فهي له حياته وموته، وإذا قال: داري هذه أسكنها حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مات. ونحو من السكنى العمرى، إلا أن الخلاف في العمرى أقوى منه في السكنى. وسيأتي الكلام في العمرى في هود إن شاء الله تعالى. قال الحربي: سمعت ابن الأعرابي يقول: لم يختلف العرب في أن هذه الأشياء على ملك أربابها ومنافعها لمن جعلت له العمرى والرقبى والإفقار والاخبال والمنحة والعرية والسكنى والاطراق. وهذا حجة مالك وأصحابه في أنه لا يملك شيء من العطايا إلا المنافع دون الرقاب، وهو قول الليث بن سعد والقاسم بن محمد، ويزيد بن قسيط. والعمرى: هو إسكانك الرجل في دار لك مدة عمرك أو عمره. ومثله الرقبى: وهو أن يقول: إن مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فهي لك، وهي من المراقبة. والمراقبة: أن يرقب كل واحد منهما موت صاحبه، ولذلك اختلفوا في إجازتها ومنعها، فأجازها أبو يوسف والشافعي، وكأنها وصية عندهم. ومنعها مالك والكوفيون، لأن كل واحد منهم يقصد إلى عوض لا يدري هل يحصل له، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه.
وفي الباب حديثان أيضا بالإجازة والمنع ذكرهما ابن ماجه في سننه، الأول رواه جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها» ففي هذا الحديث التسوية بين العمرى والرقبى في الحكم.
الثاني رواه ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا رقبى فمن أرقب شيئا فهو له حياته ومماته». قال: والرقبى أن يقول هو للآخر: مني ومنك موتا. فقوله: «لا رقبى» نهي يدل على المنع، وقوله: «من أرقب شيئا فهو له» يدل على الجواز، وأخرجهما أيضا النسائي. وذكر عن ابن عباس قال: العمرى والرقبى سواء.
وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها». فقد صحح الحديث ابن المنذر، وهو حجة لمن قال بأن العمرى والرقبى سواء. وروي عن علي وبه قال الثوري وأحمد، وأنها لا ترجع إلى الأول أبدا، وبه قال إسحاق.
وقال طاوس: من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث. والإفقار مأخوذ من فقار الظهر. أفقرتك ناقتي: أعرتك فقارها لتركبها. وأفقرك الصيد إذا أمكنك من فقاره حتى ترميه. ومثله الاخبال، يقال: أخبلت فلانا إذا أعرته ناقة يركبها أو فرسا يغزو عليه، قال زهير:
هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا *** وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
والمنحة: العطية. والمنحة: منحة اللبن. والمنيحة: الناقة أو الشاة يعطيها الرجل آخر يحتلبها ثم يردها، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم». رواه أبو أمامة، أخرجه الترمذي والدارقطني وغيرهما، وهو صحيح. والاطراق: إعارة الفحل، أستطرق فلان فلانا فحله: إذا طلبه ليضرب في إبله، فأطرقه إياه، ويقال: أطرقني فحلك أي أعرني فحلك ليضرب في إبلي. وطرق الفحل الناقة يطرق طروقا أي قعا عليها. وطروقة الفحل: أنثاه، يقال: ناقة طروقة الفحل للتي بلغت أن يضربها الفحل.
الثالثة: قوله تعالى: {أَنْتَ وَزَوْجُكَ} {أنت} تأكيد للمضمر الذي في الفعل، ومثله {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ}. ولا يجوز اسكن وزوجك، ولا اذهب وربك، إلا في ضرورة الشعر، كما قال:
قلت إذ أقبلت وزهر تهادى *** كنعاج الملا تعسفن رملا
فزهر معطوف على المضمر في أقبلت ولم يؤكد ذلك المضمر. ويجوز في غير القرآن على بعد: قم وزيد.
الرابعة: قوله تعالى: {وَزَوْجُكَ} لغة القرآن زوج بغير هاء، وقد تقدم القول فيه. وقد جاء في صحيح مسلم: زوجة حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مع إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه فجاء فقال: «يا فلان هذه زوجتي فلانة»: فقال يا رسول الله، من كنت أظن به فلم أكن أظن بك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم». وزوج آدم عليه السلام هي حواء عليها السلام، وهو أول من سماها بذلك حين خلقت من ضلعه من غير أن يحس آدم عليه السلام بذلك، ولو ألم بذلك لم يعطف رجل على امرأته، فلما انتبه قيل له: من هذه؟ قال: امرأة قيل: وما اسمها؟ قال: حواء، قيل: ولم سميت امرأة؟ قال: لأنها من المرء أخذت، قيل: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي. روي أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرب علمه، وأنهم قالوا له: أتحبها يا آدم؟ قال: نعم، قالوا لحواء: أتحبينه يا حواء؟ قالت: لا، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه. قالوا: فلو صدقت امرأة في حبها لزوجها لصدقت حواء.
وقال ابن مسعود وابن عباس: لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها، فلما انتبه رآها فقال: من أنت؟ قالت: امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي، وهو معنى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها} [الأعراف: 189]. قال العلماء: ولهذا كانت المرأة عوجاء، لأنها خلقت من أعوج وهو الضلع.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن المرأة خلقت من ضلع»- في رواية: «وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه- لن تستقيم لك على طريقة واحدة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها».
وقال الشاعر:
هي الضلع العوجاء ليست تقيمها *** ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى *** أليس عجيبا ضعفها واقتدارها
ومن هذا الباب استدل العلماء على ميراث الخنثى المشكل إذا تساوت فيه علامات النساء والرجال من الحية والثدي والمبال بنقص الأعضاء. فإن نقصت أضلاعه عن أضلاع المرأة أعطي نصيب رجل- روي ذلك عن علي رضي الله عنه- لخلق حواء من أحد أضلاعه، وسيأتي في المواريث بيان هذا إن شاء الله تعالى.
الخامسة: قوله تعالى: {الجنة} الجنة: البستان، وقد تقدم القول فيها. ولا التفات لما ذهبت إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخلد وإنما كان في جنة بأرض عدن. واستدلوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليه إبليس، فإن الله يقول: {لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23] وقال: {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً} [النبأ: 35] وقال: {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً} [الواقعة: 25- 26]. وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله: {وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]. وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها. وقد لغا فيها إبليس وكذب، وأخرج منها آدم وحواء بمعصيتهما. قالوا: وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى؟ فالجواب: أن الله تعالى عرف الجنة بالألف واللام، ومن قال: أسأل الله الجنة، لم يفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد. ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم، وقد لقي موسى آدم عليهما السلام فقال له موسى: أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة، فأدخل الألف واللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة، فلم ينكر ذلك آدم، ولو كانت غيرها لرد على موسى، فلما سكت آدم على ما قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها. وأما ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء. وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها، وقد كان مفاتيحها بيد إبليس ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد دخلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الإسراء ثم خرج منها وأخبر بما فيها وأنها هي جنة الخلد حقا. وأما قولهم: إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله تعالى من الخطايا فجهل منهم، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي الشام، وأجمع أهل الشرائع على أن الله تعالى قدسها وقد شوهد فيها المعاصي والكفر والكذب ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي، وكذلك دار القدس. قال أبو الحسن بن بطال: وقد حكى بعض المشايخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام، فلا معنى لقول من خالفهم. وقولهم: كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد، فيعكس عليهم ويقال: كيف يجوز على آدم وهو في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء! هذا ما لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل، فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلا، على ما قال أبو أمامة على ما يأتي.
السادسة: قوله تعالى: {وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما} قراءة الجمهور {رَغَداً} بفتح الغين. وقرأ النخعي وابن وثاب بسكونها. والرغد: العيش الدار الهني الذي لا عناء فيه، قال:
بينما المرء تراه ناعما *** يأمن الأحداث في عيش رغد
ويقال: رغد عيشهم ورغد بضم الغين وكسرها. وأرغد القوم: أخصبوا وصاروا في رغد من العيش. وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف، وحيث وحيث وحيث، وحوث وحوث وحاث، كلها لغات، ذكرها النحاس وغيره.
السابعة: قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} أي لا تقرباها بأكل، لأن الإباحة فيه وقعت. قال ابن العربي: سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل يقول: إذا قيل لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء فإن معناه لا تدن منه.
وفي الصحاح: قرب الشيء يقرب قربا أي دنا. وقربته بالكسر أقربه قربانا أي دنوت منه. وقربت أقرب قرابة- مثل كتبت أكتب كتابة- إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة، والاسم القرب. قال الأصمعي: قلت لأعرابي: ما القرب؟ فقال: سير الليل لورد الغد.
وقال ابن عطية: قال بعض الحذاق: إن الله تعالى لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه العرب وهو القرب. قال ابن عطية: وهذا مثال بين في سد الذرائع.
وقال بعض أرباب المعاني قوله: {وَلا تَقْرَبا} إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة، وأن سكناه فيها لا يدوم، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى. والدليل على هذا قوله تعالى: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فدل على خروجه منها.
الثامنة: قوله تعالى: {هذِهِ الشَّجَرَةَ} الاسم المبهم ينعت بما فيه الألف واللام لا غير، كقولك: مررت بهذا الرجل وبهذه المرأة وهذه الشجرة. وقرأ ابن محيصن: {هذي الشجرة} بالياء وهو الأصل، لأن الهاء في هذه بدل من ياء ولذلك انكسر ما قبلها، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة سواها، وذلك لان أصلها الياء.
والشجرة والشجرة والشيرة، ثلاث لغات وقرئ {الشجرة} بكسر الشين. والشجرة والشجرة: ما كان على ساق من نبات الأرض. وأرض شجيرة وشجراء أي كثيرة الأشجار، وواد شجير، ولا يقال: واد أشجر. وواحد الشجراء شجرة، ولم يأت من الجمع على هذا المثال إلا أحرف يسيرة: شجرة وشجراء، وقصبة وقصباء، وطرفة وطرفاء، وحلفة وحلفاء. وكان الأصمعي يقول في واحد الحلفاء: حلفة، بكسر اللام مخالفة لأخواتها.
وقال سيبويه: الشجراء واحد وجمع، وكذلك القصباء والطرفاء والحلفاء. والمشجرة: موضع الأشجار. وأرض مشجرة، وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجرا، قال الجوهري.
التاسعة: واختلف أهل التأويل في تعيين هذه الشجرة التي نهي عنها فأكل منها، فقال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة بن هبيرة: هي الكرم، ولذلك حرمت علينا الخمر.
وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وقتادة: هي السنبلة، والحبة منها ككلى البقر، أحلى من العسل والين من الزبد، قاله وهب بن منبه. ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه.
وقال ابن جريج عن بعض الصحابة: هي شجرة التين، وكذا روى سعيد عن قتادة، ولذلك تعبر في الرؤيا بالندامة لآكلها من أجل ندم آدم عليه السلام على أكلها، ذكره السهيلي. قال ابن عطية: وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها.
وقال القشيري أبو نصر: وكان الامام والدي رحمه الله يقول: يعلم على الجملة أنها كانت شجرة المحنة.
العاشرة: واختلفوا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب وهو قوله تعالى: {فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ}، فقال قوم: أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر قال ابن العربي: وهي أول معصية عصى الله بها على هذا القول. قال: وفيه دليل على أن من حلف ألا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث. وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا: لا حنث فيه. وقال مالك وأصحابه: إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه، وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حمل عليه وحنث بأكل غيره، وعليه حملت قصة آدم عليه السلام فإنه نهي عن شجرة عينت له وأريد بها جنسها، فحمل القول على اللفظ دون المعنى. وقد اختلف علماؤنا في فرع من هذا، وهو أنه إذا حلف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزا منها على قولين، قال في الكتاب: يحنث، لأنها هكذا تؤكل.
وقال ابن المواز: لا شيء عليه، لأنه لم يأكل حنطة وإنما أكل خبزا فراعى الاسم والصفة ولو قال في يمينه: لا آكل من هذه الحنطة لحنث بأكل الخبز المعمول منها. وفيما اشترى بثمنها من طعام وفيما أنبتت خلاف.
وقال آخرون: تأولا النهي على الندب. قال ابن العربي: وهذا وإن كان مسألة من أصول الفقه فقد سقط ذلك هاهنا، لقوله: {فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35] فقرن النهي بالوعيد، وكذلك قوله سبحانه: {فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى} [طه: 117].
وقال ابن المسيب: إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فسكر وكان في غير عقله. وكذلك قال يزيد بن قسيط، وكانا يحلفان بالله أنه ما أكل من هذه الشجرة وهو يعقل. قال ابن العربي: وهذا فاسد نقلا وعقلا، أما النقل فلم يصح بحال، وقد وصف الله عز وجل خمر الجنة فقال: {لا فِيها غَوْلٌ}. وأما العقل فلان الأنبياء بعد النبوة معصومون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم.
قلت: قد استنبط بعض العلماء نبوة آدم عليه السلام قبل إسكانه الجنة من قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ} [البقرة: 33] فأمره الله تعالى أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله عز وجل.
وقيل: أكلها ناسيا، ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد.
قلت: وهو الصحيح لأخبار الله تعالى في كتابه بذلك حتما وجزما فقال: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115]. ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام يلزمهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ما لا يلزم غيرهم كان تشاغله عن تذكر النهي تضييعا صار به عاصيا، أي مخالفا. قال أبو أمامة: لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم، وقد قال الله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}.
قلت: قول أبي أمامة هذا عموم في جميع بني آدم. وقد يحتمل أن يخص من ذلك نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه كان أوفر الناس حلما وعقلا. وقد يحتمل أن يكون المعنى لو أن أحلام بني آدم من غير الأنبياء. والله أعلم.
قلت: والقول الأول أيضا حسن، فظنا أن المراد العين وكان المراد الجنس، كقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أخذ ذهبا وحريرا فقال: «هذان حرامان على ذكور أمتي».
وقال في خبر آخر: «هذان مهلكان أمتي». وإنما أراد الجنس لا العين.
الحادية عشرة: يقال: إن أول من أكل من الشجرة حواء بإغواء إبليس إياها- على ما يأتي بيانه- وإن أول كلامه كان معها لأنها وسواس المخدة، وهي أول فتنة دخلت على الرجال من النساء، فقال: ما منعتما هذه الشجرة إلا أنها شجرة الخلد، لأنه علم منهما أنهما كانا يحبان الخلد، فأتاهما من حيث أحبا- حبك الشيء يعمي ويصم- فلما قالت حواء لآدم أنكر عليها وذكر العهد، فألح على حواء وألحت حواء على آدم، إلى أن قالت: أنا آكل قبلك حتى إن أصابني شيء سلمت أنت، فأكلت فلم يضرها، فأتت آدم فقالت: كل فإني قد أكلت فلم يضرني، فأكل فبدت لهما سوآتهما وحصلا في حكم الذنب، لقول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} فجمعهما في النهي، فلذلك لم تنزل بها العقوبة حتى وجد المنهي عنه منهما جميعا، وخفيت على آدم هذه المسألة، ولهذا قال بعض العلماء: إن من قال لزوجتيه أو أمتيه: إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو حرتان، إن الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما. وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال، قال ابن القاسم: لا تطلقان ولا تعتقان إلا باجتماعهما في الدخول، حملا على هذا الأصل وأخذا بمقتضى مطلق اللفظ. وقاله سحنون.
وقال ابن القاسم مرة أخرى: تطلقان جميعا وتعتقان جميعا بوجود الدخول من إحداهما، لأن بعض الحنث حنث، كما لو حلف ألا يأكل هذين الرغيفين فإنه يحنث بأكل أحدهما بل بأكل لقمة منهما.
وقال أشهب: تعتق وتطلق التي دخلت وحدها، لأن دخول كل واحدة منهما شرطا في طلاقها أو عتقها. قال ابن العربي: وهذا بعيد، لأن بعض الشرط لا يكون شرطا إجماعا.
قلت: الصحيح الأول، وإن النهي إذا كان معلقا على فعلين لا تتحقق المخالفة إلا بهما، لأنك إذا قلت: لا تدخلا الدار، فدخل أحدهما ما وجدت المخالفة منهما، لأن قول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] نهي لهما {فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35] جوابه، فلا يكونا من الظالمين حتى يفعلا، فلما أكلت لم يصبها شي، لأن المنهي عنه ما وجد كاملا. وخفي هذا المعنى على آدم فطمع ونسي هذا الحكم، وهو معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115] وقيل: نسي قوله: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى} [طه: 117]. والله أعلم.
الثانية عشرة: واختلف العلماء في هذا الباب هل وقع من الأنبياء- صلوات الله عليهم أجمعين- صغائر من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها أم لا- بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر ومن كل رذيلة فيها شين ونقص إجماعا عند القاضي أبي بكر، وعند الأستاذ أبي إسحاق أن ذلك مقتضى دليل المعجزة، وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم-، فقال الطبري وغيره من الفقهاء والمتكلمين والمحدثين: تقع الصغائر منهم. خلافا للرافضة حيث قالوا: إنهم معصومون من جميع ذلك، واحتجوا بما وقع من ذلك في التنزيل وثبت من تنصلهم من ذلك في الحديث، وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
وقال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي: إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر أجمعها، لأنا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرا مطلقا من غير التزام قرينة، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم، إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة والإباحة أو الحظر أو المعصية، ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية، لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين.
قال الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني: واختلفوا في الصغائر، والذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم، وصار بعضهم إلى تجويزها، ولا أصل لهذه المقالة.
وقال بعض المتأخرين ممن ذهب إلى القول الأول: الذي ينبغي أن يقال إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها وأشفقوا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها وإن قبل ذلك آحادها، وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات وفي حقهم سيئات، بالنسبة إلى مناصبهم وعلو أقدارهم، إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة. قال: وهذا هو الحق. ولقد أحسن الجنيد حيث قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين. فهم- صلوات الله وسلامه عليهم- وإن كان قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم فلم يخل ذلك بمناصبهم ولا قدح في رتبهم، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم، صلوات الله عليهم وسلامه.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ} الظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه. والأرض المظلومة: التي لم تحفر قط ثم حفرت. قال النابغة:
وقفت فيها أصيلالا أسائلها *** عيت جوابا وما بالربع من أحد
إلا الأواري لأيا ما أبينها *** والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
ويسمى ذلك التراب الظليم. قال الشاعر:
فأصبح في غبراء بعد أشاحه *** على العيش مردود عليها ظليمها
وإذا نحر البعير من غير داء به فقد ظلم، ومنه:
... ظلامون للجزر ***
ويقال: سقانا ظليمه طيبة، إذا سقاهم اللبن قبل إدراكه. وقد ظلم وطبة، إذا سقى منه قبل أن يروب ويخرج زبده. واللبن مظلوم وظليم. قال:
وقائلة ظلمت لكم سقائي *** وهل يخفى على العكد الظليم
ورجل ظليم: شديد الظلم. والظلم: الشرك، قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
قوله تعالى: {وَكُلا مِنْها رَغَداً} حذفت النون من كُلا لأنه أمر وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال وحذفها شاذ. قال سيبويه: من العرب من يقول أوكل، فيتم. يقال منه: أكلت الطعام أكلا ومأكلا. والاكلة بالفتح: المرة الواحدة حتى تشبع. والاكلة بالضم: اللقمة تقول: أكلت أكلة واحدة، أي لقمة وهي القرصة أيضا. وهذا الشيء أكلة لك أي طعمة لك. والأكل أيضا ما أكل. ويقال: فلان ذو أكل إذا كان ذا حظ من الدنيا ورزق واسع. {رَغَداً} نعت لمصدر محذوف أي أكلا رغدا. قال ابن كيسان: ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال.
وقال مجاهد: {رَغَداً} أي لا حساب عليهم. والرغد في اللغة: الكثير الذي لا يعنيك ويقال: أرغد القوم إذا وقعوا في خصب وسعة. وقد تقدم هذا المعنى. و{حَيْثُ} مبنية على الضم لأنها خالفت أخواتها الظروف في أنها لا تضاف فأشبهت قبل وبعد إذا أفردتا فضمت. قال الكسائي: لغة قيس وكنانة الضم ولغة تميم الفتح. قال الكسائي: وبنو أسد يخفضونها في موضع الخفض وينصبونها في موضع النصب قال الله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} وتضم وتفتح. {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} الهاء من {هذه} بدل من ياء الأصل لان الأصل هذى. قال النحاس: ولا أعلم في العربية هاء تأنيث مكسورا ما قبلها إلا هاء {هذه}. ومن العرب من يقول: هاتا هند ومنهم من يقول: هاتي هند.
وحكى سيبويه: هذه هند بإسكان الهاء.
وحكى الكسائي عن العرب: ولا تقربا هذى الشجرة. وعن شبل بن عباد قال: كان ابن كثير وابن محيصن لا يثبتان الهاء في: {هذه} في جميع القرآن. وقراءة الجماعة {رَغَداً} بفتح الغين.
وروى عن ابن وثاب والنخعي أنهما سكنا الغين.
وحكى سلمة عن الفراء قال يقال: هذه فعلت وهذى فعلت فإثبات ياء بعد الذال. وهذا فعلت بكسر الذال من غير إلحاق ياء ولا هاء. وهاتا فعلت. قال هشام ويقال: تافعلت. وأنشد:
خليلي لولا ساكن الدار لم أقم *** بتا الدار إلا عابر ابن سبيل
قال ابن الأنباري: وتا بإسقاط ها بمنزله ذى بإسقاط ها من هذى وبمنزلة ذه بإسقاط ها من هذه. وقد قال الفراء: من قال هذه قامت لا يسقط ها لان الاسم لا يكون على ذال واحدة. {فَتَكُونا} عطف على {تَقْرَبا} فلذلك حذفت النون. وزعم الجرمي أن الفاء هي الناصبة، وكلاهما جائز.

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)}
قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيه} فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها} قرأ الجماعة {فَأَزَلَّهُمَا} بغير ألف، من الزلة وهي الخطيئة، أي استزلهما وأوقعهما فيها. وقرأ حمزة {فأزالهما} بألف، من التنحية، أي نحاهما. يقال: أزلته فزال. قال ابن كيسان: فأزالهما من الزوال، أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية.
قلت: وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى، إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى. يقال منه: أزللته فزل. ودل على هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا} [آل عمران: 155]، وقوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ} والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية، وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان إنما قدرته على إدخاله في الزلل، فيكون ذلك سببا إلى زواله من مكان إلى مكان يذنبه. وقد قيل: إن معنى أزلهما من زل عن المكان إذا تنحى، فيكون في المعنى كقراءة حمزة من الزوال. قال امرؤ القيس:
يزل الغلام الخف عن صهواته *** ويلوي بأثواب العنيف المثقل
وقال أيضا:
كميت يزل اللبد عن حال متنه *** كما زلت الصفواء بالمتنزل
الثانية قوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ} إذا جعل أزال من زال عن المكان فقوله: {فَأَخْرَجَهُما} تأكيد وبيان للزوال، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة، وليس كذلك، وإنما كان إخراجهما من الجنة إلى الأرض، لأنهما خلقا منها، وليكون آدم خليفة في الأرض. ولم يقصد إبليس- لعنه الله- إخراجه منها وإنما قصد إسقاطه من مرتبته وإبعاده كما أبعد هو، فلم يبلغ مقصده ولا أدرك مراده، بل ازداد سخنة عين وغيظ نفس وخيبة ظن. قال الله جل ثناؤه: {ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى} [طه: 122] فصار عليه السلام خليفة الله في أرضه بعد أن كان جارا له في داره، فكم بين الخليفة والجار! صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ونسب ذلك إلى إبليس، لأنه كان بسببه وإغوائه. ولا خلاف بين أهل التأويل وغيرهم أن إبليس كان متولي إغواء آدم، واختلف في الكيفية، فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء أغواهما مشافهة، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ} والمقاسمة ظاهرها المشافهة.
وقال بعضهم، وذكره عبد الرزاق عن وهب بن منبه،: دخل الجنة في فم الحية وهى ذات أربع كالبختية من أحسن دابة خلقها الله تعالى بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم يدخله إلا الحية، فلما دخلت به الجنة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله آدم وزوجه عنها فجاء بها إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها! فلم يزل يغويها حتى أخذتها حواء فأكلتها. ثم أغوى آدم، وقالت له حواء: كل فإني قد أكلت فلم يضرني، فأكل منها فبدت لهما سوآتهما وحصلا في حكم الذنب، فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه: أين أنت؟ فقال: أنا هذا يا رب، قال: ألا تخرج؟ قال أستحي منك يا رب، قال: أهبط إلى الأرض التي خلقت منها. ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم، ولذلك أمرنا بقتلها، على ما يأتي بيانه. وقيل لحواء: كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم كل شهر وتحملين وتضعين كرها تشرفين به على الموت مرارا. زاد الطبري والنقاش: وتكوني سفيهة وقد كنت حليمة. وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها وإنما أغوى بشيطانه وسلطانه ووسواسه التي أعطاه الله تعالى، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». والله أعلم. وسيأتي في الأعراف أنه لما أكل بقي عريانا وطلب ما يستتر به فتباعدت عنه الأشجار وبكتوه بالمعصية، فرحمته شجرة التين، فأخذ من ورقه فاستتر به، فبلي بالعري دون الشجر. والله أعلم.
وقيل: إن الحكمة في إخراج آدم من الجنة عمارة الدنيا.
الثالثة: يذكر أن الحية كانت خادم آدم عليه السلام في الجنة فخانته بأن مكنت عدو الله من نفسها وأظهرت العداوة له هناك، فلما أهبطوا تأكدت العداوة وجعل رزقها التراب، وقيل لها: أنت عدو بني آدم وهم أعداؤك وحيث لقيك منهم أحد شدخ رأسك. روى ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خمس يقتلهن المحرم» فذكر الحية فيهن. وروي أن إبليس قال لها: أدخليني الجنة وأنت في ذمتي، فكان ابن عباس يقول: أخفروا ذمة إبليس. وروت ساكنة بنت الجعد عن سراء بنت نبهان الغنوية قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «اقتلوا الحيات صغيرها وكبيرها وأسودها وأبيضها فإن من قتلها كانت له فداء من النار ومن قتلته كان شهيدا». قال علماؤنا: وإنما كانت له فداء من النار لمشاركتها إبليس وإعانته على ضرر آدم وولده، فلذلك كان من قتل حية فكأنما قتل كافرا. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا». أخرجه مسلم وغيره.
الرابعة: روى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بمنى فمرت حية فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقتلوها» فسبقتنا إلى حجر فدخلته، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هاتوا بسعفة ونار فأضرموها عليه نارا». قال علماؤنا: وهذا الحديث يخص نهيه عليه السلام عن المثلة وعن أن يعذب أحد بعذاب الله تعالى، قالوا: فلم يبق لهذا العدو حرمة حيث فاته حتى أوصل إليه الهلاك من حيث قدر. فإن قيل: قد روي عن إبراهيم النخعي أنه كره أن تحرق العقرب بالنار، وقال: هو مثلة. قيل له: يحتمل أن يكون لم يبلغه هذا الأثر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعمل على الأثر الذي جاء: «لا تعذبوا بعذاب الله» فكان على هذا سبيل العمل عنده. فإن قيل: فقد روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غار وقد أنزلت عليه: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات: 1] فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية، فقال: «اقتلوها»، فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وقاها الله شركم كما وقاكم شرها». فلم يضرم نارا ولا احتال في قتلها. قيل له: يحتمل أن يكون لم يجد نارا فتركها، أو لم يكن الجحر بهيئة ينتفع بالنار هناك مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحيوان. والله أعلم. وقوله: «وقاها الله شركم» أي قتلكم إياها «كما وقاكم شرها» أي لسعها.
الخامسة: الامر بقتل الحيات من باب الإرشاد إلى دفع المضرة المخوفة من الحيات، فما كان منها متحقق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله، لقوله: «اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر فإنهما يخطفان البصر ويسقطان الحبل». فخصهما بالذكر مع أنهما دخلا في العموم ونبه على ذلك بسبب عظم ضررهما. وما لم يتحقق ضرره فما كان منها في غير البيوت قتل أيضا لظاهر الامر العام، ولان نوع الحيات غالبه الضرر، فيستصحب ذلك فيه، ولأنه كله مروع بصورته وبما في النفوس من النفرة عنه، ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية». فشجع على قتلها.
وقال فيما خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا: «اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف ثأرهن فليس مني». والله أعلم.
السادسة: ما كان من الحيات في البيوت فلا يقتل حتى يؤذن ثلاثة أيام، لقوله عليه السلام: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فأذنوه ثلاثة أيام». وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على المدينة وحدها لإسلام الجن بها، قالوا: ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحد أو لا، قاله ابن نافع.
وقال مالك: نهى عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد. وهو الصحيح، لأن الله عز وجل قال: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29] الآية.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن» وفيه: وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة، الحديث. وسيأتي بكماله في سورة الجن إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يحرج عليه وينذر، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
السابعة: روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين ناحية البيت، فالتفت فإذا حية، فوثبت لأقتلها، فأشار إلي أن أجلس فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت نعم، فقال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوما، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة». فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني! فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا، الحية أم الفتى! قال: فجئنا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع الله يحييه لنا، فقال: استغفروا لأخيكم ثم قال:- «إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان».
وفي طريق أخرى فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليها ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر- وقال لهم:- اذهبوا فادفنوا صاحبكم». قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله هذا الفتى كان مسلما وأن الجن قتلته به قصاصا، لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة، إذ لم يكن عنده علم من ذلك، وإنما قصد إلى قتل ما سوغ قتل نوعه شرعا، فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه. فالأولى أن يقال: إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدوا وانتقاما. وقد قتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه، وذلك أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ولا يرون أحدا:
قد قتلنا سيد الخز *** رج سعد بن عباده
ورميناه بسهمين *** فلم نخط فؤاده
وإنما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا» ليبين طريقا يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم ويتسلط به على قتل الكافر منهم. روي من وجوه أن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتلت جانا فأريت في المنام أن قائلا يقول لها: لقد قتلت مسلما، فقالت: لو كان مسلما لم يدخل على أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك. فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلت في سبيل الله.
وفي رواية: ما دخل عليك إلا وأنت مستترة، فتصدقت وأعتقت رقابا.
وقال الربيع بن بدر: الجان من الحيات التي نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتلها هي التي تمشي ولا تلتوي، وعن علقمة نحوه.
الثامنة: في صفة الإنذار، قال مالك: أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام. وقاله عيسى بن دينار، وإن ظهر في اليوم مرارا. ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرار في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام.
وقيل: يكفي ثلاث مرار، لقوله عليه السلام: «فليؤذنه ثلاثا»، وقوله: «حرجوا عليه ثلاثا» ولان ثلاثا للعدد المؤنث، فظهر أن المراد ثلاث مرات. وقول مالك أولى، لقوله عليه السلام: «ثلاثة أيام». وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات، ويحمل ثلاثا على إرادة ليالي الأيام الثلاث، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ فإنها تغلب فيها التأنيث. قال مالك: ويكفي في الإنذار أن يقول: أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدوا لنا ولا تؤذونا. وذكر ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال: إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا: أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام، فإذا رأيتم منهن شيئا بعد فاقتلوه.
قلت: وهذا يدل بظاهره أنه يكفي في الاذن مرة واحدة، والحديث يرده. والله أعلم. وقد حكى ابن حبيب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يقول: «أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان- عليه السلام- ألا تؤذيننا وألا تظهرن علينا».
التاسعة: روى جبير عن نفير عن أبي ثعلبة الخشني- واسمه جرثوم- أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الجن على ثلاثة أثلاث فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء وثلث حيات وكلاب وثلث يحلون ويظعنون».
وروى أبو الدرداء- واسمه عويمر- قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خلق الجن ثلاثة أثلاث فثلث كلاب وحيات وخشاش الأرض وثلث ريح هفافة وثلث كبني آدم لهم الثواب وعليهم العقاب وخلق الله الانس ثلاثة أثلاث فثلث لهم قلوب لا يفقهون بها واعين لا يبصرون بها وأذان لا يسمعون بها إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا وثلث أجسادهم كأجساد بني آدم وقلوبهم قلوب الشياطين وثلث في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله».
العاشرة: ما كان من الحيوان أصله الاذاية فإنه يقتل ابتداء، لأجل إذايته من غير خلاف، كالحية والعقرب والفأر والوزغ، وشبهه. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم...». وذكر الحديث. فالحية أبدت جوهرها الخبيث حيث خانت آدم بأن أدخلت إبليس الجنة بين فكيها، ولو كانت تبرزه ما تركها رضوان تدخل به.
وقال لها إبليس أنت في ذمتي، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتلها وقال: «اقتلوها ولو كنتم في الصلاة» يعني الحية والعقرب. والوزغة نفخت على نار إبراهيم عليه السلام من بين سائر الدواب فلعنت. وهذا من نوع ما يروى في الحية. وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من قتل وزغة فكأنما
قتل كافرا».
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قتل وزغة في أول ضربة كتبت له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك».
وفي رواية أنه قال: «في أول ضربة سبعون حسنة». والفأرة أبدت جوهرها بأن عمدت إلى حبال سفينة نوح عليه السلام فقطعتها.
وروى عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يقتل المحرم الحية والعقرب والحدأة والسبع العادي والكلب العقور والفويسقة». واستيقظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أخذت فتيلة لتحرق البيت فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتلها. والغراب أبدى جوهره حيث بعثه نبي الله نوح عليه السلام من السفينة ليأتيه بخبر الأرض فترك أمره وأقبل على جيفة. هذا كله في معنى الحية، فلذلك ذكرناه. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في التعليل في المائدة وغيرها إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} حذفت الألف من {اهْبِطُوا} في اللفظ لأنها ألف وصل. وحذفت الألف من {قُلْنَا} في اللفظ لسكونها وسكون الهاء بعدها.
وروى محمد بن مصفى عن أبي حيوة ضم الباء في: {اهْبِطُوا}، وهي لغة يقويها أنه غير متعد والأكثر في غير المتعدي أن يأتي على يفعل. والخطاب لآدم وحواء والحية والشيطان، في قول ابن عباس.
وقال الحسن: آدم وحواء والوسوسة.
وقال مجاهد والحسن أيضا: بنو آدم وبنو إبليس. والهبوط: النزول من فوق إلى أسفل، فأهبط آدم بسرنديب في الهند بجبل يقال له بوذا ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها وأوديتها فامتلأ ما هناك طيبا، فمن ثم يؤتي بالطيب من ريح آدم عليه السلام. وكان السحاب يمسح رأسه فأصلع، فأورث ولده الصلع.
وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا» الحديث وأخرجه مسلم وسيأتي. وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالابلة، والحية ببيسان، وقيل: بسجستان. وسجستان أكثر بلاد الله حيات، ولولا العربد الذي يأكلها ويفني كثيرا منها لاخليت سجستان من أجل الحيات، ذكره أبو الحسن المسعودي.
الثانية: قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}... {بَعْضُكُمْ} مبتدأ، {عَدُوٌّ} خبره والجملة في موضع نصب على الحال، والتقدير وهذه حالكم. وحذفت الواو من و{بَعْضُكُمْ} لان في الكلام عائدا، كما يقال: رأيتك السماء تمطر عليك. والعدو: خلاف الصديق، وهو من عدا إذا ظلم. وذيب عدوان: يعدو على الناس. والعدوان: الظلم الصراح.
وقيل: هو مأخوذ من المجاوزة، من قولك: لا يعدوك هذا الامر، أي لا يتجاوزك. وعداه إذا جاوزه، فسمي عدوا لمجاوزة الحد في مكروه صاحبه، ومنه العدو بالقدم لمجاوزة الشيء، والمعنيان متقاربان، فإن من ظلم فقد تجاوز.
قلت: وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] على الإنسان نفسه، وفيه بعد وإن كان صحيحا معنى. يدل عليه قوله عليه السلام: «إن العبد إذا أصبح تقول جوارحه للسانه اتق الله فينا فإنك إذا استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا». فإن قيل: كيف قال: {عدو} ولم يقل أعداء، ففيه جوابان أحدهما: أن بعضا وكلا يخبر عنهما بالواحد على اللفظ وعلى المعنى، وذلك في القرآن، قال الله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً} [مريم: 95] على اللفظ، وقال تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ} [النمل: 87] على المعنى. والجواب الآخر: أن عدوا يفرد في موضع الجمع، قال الله عز وجل: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] بمعنى أعداء، وقال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4].
وقال ابن فارس: العدو اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة والتأنيث، وقد يجمع.
الثالثة: لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته وإنما أهبطه إما تأديبا وإما تغليظا للمحنة. والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الاكلة سبب إهباطه من الجنة. ولله أن يفعل ما يشاء. وقد قال: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}. وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة وقد تقدمت الإشارة إليها مع أنه خلق من الأرض. وإنما قلنا إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقوله ثانية: {قُلْنَا اهْبِطُوا} وسيأتي.
الرابعة: قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} ابتداء وخبر، أي موضع استقرار. قاله أبو العالية وابن زيد.
وقال السدي: {مُسْتَقَرٌّ} يعني القبور.
قلت: وقول الله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً} [غافر: 64] يحتمل المعنيين. والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {وَمَتاعٌ} المتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة وحديث وأنس وغير ذلك، ومنه سميت متعة النكاح لأنها يتمتع بها. وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر أبنه أيوب إثر دفنه:
وقفت على قبر غريب بقفرة *** متاع قليل من حبيب مفارق
السادسة: قوله تعالى: {إِلى حِينٍ} اختلف المتأولون في الحين على أقوال، فقالت فرقة إلى الموت وهذا قول من يقول: المستقر هو المقام في الدنيا.


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 4:17 pm
المشاركة رقم: #9
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا} كرر الامر على جهة التغليظ وتأكيده، كما تقول لرجل: قم قم.
وقيل: كرر الامر لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر فعلق بالأول العداوة وبالثاني إتيان الهدى.
وقيل: الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض. وعلى هذا يكون فيه دليل على أن الجنة في السماء السابعة كما دل عليه حديث الإسراء على ما يأتي. {جَمِيعاً} نصب على الحال.
وقال وهب بن منبه: لما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض قال إبليس للسباع: إن هذا عدو لكم فأهلكوه فاجتمعوا وولوا أمرهم إلى الكلب.
وقالوا: أنت أشجعنا وجعلوه رئيسا فلما رأى ذلك آدم عليه السلام تحير في ذلك فجاءه جبريل عليه السلام وقال له: امسح يدك على رأس الكلب ففعل فلما رأت السباع أن الكلب ألف آدم تفرقوا. واستأمنه الكلب فأمنه آدم فبقى معه ومع أولاده.
وقال الترمذي الحكيم نحو هذا وأن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض جاء إبليس إلى السباع فأشلاهم على آدم ليؤذوه وكان أشدهم عليه الكلب فأميت فؤاده فروي في الخبر أن جبريل عليه السلام أمره أن يضع يده على رأسه فوضعها فاطمأن إليه والفة فصار ممن يحرسه ويحرس ولده ويألفهم. ويموت فؤاده يفزع من الآدميين فلو رمى بمدر ولى هاربا ثم يعود إلفا لهم. ففيه شعبة من إبليس وفيه شعبة من مسحة آدم عليه السلام فهو بشعبة إبليس ينبح ويهر ويعدو على الآدمي وبمسحة آدم مات فؤاده حتى ذل وانقاد وألف به وبولده يحرسهم ولهثه على كل أحواله من موت فؤاده ولذلك شبه الله سبحانه وتعالى العلماء السوء بالكلب على ما يأتي بيانه في الأعراف إن شاء الله تعالى. ونزلت عليه تلك العصا التي جعلها الله آية لموسى فكان يطرد بها السباع عن نفسه.
قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} اختلف في معنى قوله: {هُدىً} فقيل: كتاب الله قاله السدي.
وقيل: التوفيق للهداية. وقالت فرقة: الهدى الرسل وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر كما جاء في حديث أبى ذر وخرجه الآجري. وفى قوله: {مِنِّي} إشارة إلى أن أفعال العباد خلق لله تعالى خلافا للقدرية وغيرهم كما تقدم وقرأ الجحدري {هدى} وهو لغة هذيل يقولون: هدي وعصي ومحيي. وأنشد النحويون لابي ذؤيب يرثي بنيه:
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم *** فتخرموا ولكل جنب مصرع
قال النحاس: وعلة هذه اللغة عند الخليل وسيبويه أن سبيل ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها فلما لم يجز أن تتحرك الألف أبدلت ياء وأدغمت وما في قوله: {إما} زائدة على إن التي للشرط وجواب الشرط الفاء مع الشرط الثاني في قوله: {فَمَنْ تَبِعَ}. ومن في موضع رفع بالابتداء و{تَبِعَ} في موضع جزم بالشرط. {فَلا خَوْفٌ} جوابه. قال سيبويه: الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول.
وقال الكسائي: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} جواب الشرطين جميعا.
قوله تعالى: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل. وخاوفني فلان فخفته أي كنت أشد خوفا منه والتخوف: التنقص ومنه قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]. وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق ويعقوب: {فلا خوف} بفتح الفاء على التبرئة. والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء لان الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرفع لأن لا لا تعمل في معرفة فاختاروا في الأول الرفع أيضا ليكون الكلام من وجه واحد. ويجوز أن تكون لا في قولك: فلا خوف بمعنى ليس. والحزن والحزن: ضد السرور ولا يكون إلا على ماض. وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه ومحزون بنى عليه. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما. واحتزن وتحزن بمعنى. والمعنى في الآية: فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا.
وقيل: ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا. والله أعلم.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} أي أشركوا، لقوله: {وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ} الصحبة: الاقتران بالشيء في حالة ما في زمان ما فان كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة وهكذا هي صحبة أهل النار لها. وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة على ما نبينه في براءة إن شاء الله. وباقي ألفاظ الآية تقدم معناها والحمد لله.

{يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}
قوله تعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ} نداء مضاف علامة النصب فيه الياء وحذفت منه النون للإضافة.
الواحد ابن والأصل فيه بنى وقيل: بنو فمن قال: المحذوف منه واو احتج بقولهم: البنوة. وهذا لا حجة فيه لأنهم قد قالوا: الفتوة وأصله الياء.
وقال الزجاج: المحذوف منه عندي ياء كأنه من بنيت. الأخفش: اختار أن يكون المحذوف منه الواو لان حذفها أكثر لثقلها. ويقال: ابن بين البنوة والتصغير بنى. قال الفراء: يقال: يا بنى ويا بني لغتان مثل يا أبت ويا أبت وقرى بهما. وهو مشتق من البناء وهو وضع الشيء على الشيء والابن فرع للأب وهو موضوع عليه. وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. قال أبو الفرج الجوزي: وليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلا نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن له أسماء كثيرة. ذكره في كتاب الآثار له.
قلت: وقد قيل في المسيح أنه اسم علم لعيسى عليه السلام غير مشتق وقد سماه الله روحا وكلمة، وكانوا يسمونه أبيل الابيلين ذكره الجوهري في الصحاح. وذكر البيهقي في دلائل النبوة عن الخليل بن أحمد: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين محمد وأحمد نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعيسى والمسيح وإسرائيل ويعقوب ويونس وذو النون وإلياس وذو الكفل صلى الله عليهم وسلم.
قلت: ذكرنا أن لعيسى أربعة أسماء وأما نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فله أسماء كثيرة بيانها في مواضعها. وإسرائيل: اسم أعجمي ولذلك لم ينصرف وهو في موضع خفض بالإضافة. وفيه سبع لغات: إسرائيل وهي لغة القران وإسرائيل بمدة مهموزة مختلسة حكاها شنبوذ عن ورش. وإسرائيل بمدة بعد الياء من غير همز وهي قراءة الأعمش وعيسى بن عمر وقرأ الحسن والزهري بغير همز ولا مد. وإسرائيل بغير ياء بهمزة مكسورة. وإسراءل بهمزة مفتوحة. وتميم يقولون: إسرائين بالنون. ومعنى إسرائيل: عبد الله. قال ابن عباس: إسرا بالعبرانية هو عبد وائل هو الله.
وقيل: إسرا هو صفوة الله وائل هو الله.
وقيل: إسرا من الشد فكأن إسرائيل الذي شده الله وأتقن خلقه ذكره المهدوي وقال السهيلي سمي إسرائيل لأنه أسرى ذات ليلة حين هاجر إلى الله تعالى فسمي إسرائيل أي أسرى إلى الله ونحو هذا فيكون بعض الاسم عبرانيا وبعضه موافقا للعرب والله أعلم قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} الذكر اسم مشترك، فالذكر بالقلب ضد النسيان والذكر باللسان ضد الإنصات. وذكرت الشيء بلساني وقلبي ذكرا. وأجعله منك على ذكر بضم الذال أي لا تنسه قال الكسائي: ما كان بالضمير فهو مضموم الذال وما كان باللسان فهو مكسور الذال.
وقال غيره: هما لغتان يقال: ذكر وذكر، ومعناهما واحد. والذكر بفتح الذال خلاف الأنثى والذكر أيضا الشرف ومنه قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف 44]. قال ابن الأنباري: والمعنى في الآية اذكروا شكر نعمتي فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة وقيل: إنه أراد الذكر بالقلب وهو المطلوب أي لا تغفلوا عن نعمتي التي أنعمت عليكم ولا تناسوها وهو حسن. والنعمة هنا اسم جنس فهي مفردة بمعنى الجمع قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها} [إبراهيم: 34] أي نعمه. ومن نعمه عليهم أن أنجاهم من آل فرعون وجعل منهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب والمن والسلوى وفجر لهم من الحجر الماء إلى ما أستودعهم من التوراة التي فيها صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعته ورسالته. والنعم على الآباء نعم على الأبناء لأنهم يشرفون بشرف آبائهم. تنبيه- قال أرباب المعاني: ربط سبحانه وتعالى بني إسرائيل بذكر النعمة وأسقطه عن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعاهم إلى ذكره فقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة 152] ليكون نظر الأمم من النعمة إلى المنعم ونظر أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المنعم إلى النعمة.
قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أمر وجوابه. وقرأ الزهري {أوف} بفتح الواو وشد الفاء للتكثير. واختلف في هذا العهد ما هو فقال الحسن عهده قوله: {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] وقوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة: 12]. وقيل هو قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
وقال الزجاج: {أَوْفُوا بِعَهْدِي} الذي عهدت إليكم في التوراة من اتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بما ضمنت لكم على ذلك إن أوفيتم به فلكم الجنة.
وقيل: {أَوْفُوا بِعَهْدِي} في أداء الفرائض على السنة والإخلاص {أُوفِ} بقبولها منكم ومجاراتكم عليها.
وقال بعضهم: {أَوْفُوا بِعَهْدِي} في العبادات {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أي أوصلكم إلى منازل الرعايات. وقيل {أَوْفُوا بِعَهْدِي} في حفظ آداب الظواهر {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بتزيين سرائركم وقيل: هو عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي في التوراة وغيره. هذا قول الجمهور من العلماء وهو الصحيح. وعهده سبحانه وتعالى هو أن يدخلهم الجنة.
قلت: وما طلب من هؤلاء من الوفاء بالعهد هو مطلوب منا قال الله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] {أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} [النحل: 91]، وهو كثير. وفأوهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم لا علة له بل ذلك تفضل منه عليهم.
قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي خافون. والرهب والرهب والرهبة الخوف. ويتضمن الامر به معنى التهديد. وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس أية. وقرأ ابن أبي إسحاق {فارهبوني} بالياء وكذا {فاتقوني} على الأصل. {وَإِيَّايَ} منصوب بإضمار فعل وكذا الاختيار في الامر والنهي والاستفهام التقدير: وإياي ارهبوا فارهبون. ويجوز في الكلام وأنا فارهبون على الابتداء والخبر. وكون {فَارْهَبُونِ} الخبر على تقدير الحذف المعنى وأنا ربكم فارهبون.

يتبع........


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 4:18 pm
المشاركة رقم: #10
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)}
قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ} أي صدقوا، يعني بالقرآن. {مُصَدِّقاً} حال من الضمير في: {أَنْزَلْتُ}، التقدير بما أنزلته مصدقا، والعامل فيه أنزلت. ويجوز أن يكون حالا من ما والعامل فيه آمنوا التقدير أمنوا بالقرآن مصدقا. ويجوز أن تكون مصدرية التقدير آمنوا بإنزال. {لِما مَعَكُمْ} يعني من التوراة.
قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ} الضمير في: {به} قيل هو عائد على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله أبو العالية.
وقال ابن جريج: هو عائد على القرآن إذ تضمنه قوله: {بِما أَنْزَلْتُ}.
وقيل: على التوراة، إذ تضمنها قوله: {لِما مَعَكُمْ}. فإن قيل: كيف قال: {كافِرٍ} ولم يقل كافرين قيل: التقدير ولا تكونوا أول فريق كافر به. وزعم الأخفش والفراء أنه محمول على معنى الفعل لان المعنى أول من كفر به.
وحكى سيبويه هو أظرف الفتيان وأجمله وكان ظاهر الكلام هو أظرف فتى وأجمله. وقال: {أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ} وقد كان قد كفر قبلهم كفار قريش فإنما معناه من أهل الكتاب إذ هم منظور إليهم في مثل هذا لأنهم حجة مظنون بهم علم. و{أَوَّلَ} عند سيبويه نصب على خبر كان. وهو مما لم ينطق منه بفعل وهو على أفعل عينه وفاؤه واو. وإنما لم ينطق منه بفعل لئلا يعتل من جهتين: العين والفاء وهذا مذهب البصريين.
وقال الكوفيون: هو من وأل إذا نجا فأصله أوال ثم خففت الهمزة وأبدلت واوا وأدغمت فقيل أول كما تخفف همزة خطيئة. قال الجوهري: والجمع الأوائل والأولى أيضا على القلب.
وقال قوم: أصله وول على فوعل فقلبت الواو الأولى همزة وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع.
وقيل: هو أفعل من آل يئول فأصله أول قلب فجاء أعفل مقلوبا من أفعل فسهل وأبدل وأدغم. مسألة- لا حجة في هذه الآية لمن يمنع القول بدليل الخطاب، وهم الكوفيون ومن وافقهم، لأن المقصود من الكلام النهي عن الكفر أولا وآخرا، وخص الأول بالذكر لان التقدم فيه أغلظ، فكان حكم المذكور والمسكوت عنه واحدا، وهذا واضح.
قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا} معطوف على قوله: {وَلا تَكُونُوا}. نهاهم عن أن يكونوا أول من كفر وألا يأخذوا على آيات الله ثمنا أي على تغيير صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رشى. وكان الأحبار يفعلون ذلك فنهوا عنه قاله قوم من أهل التأويل منهم الحسن وغيره.
وقيل: كانت لهم مآكل يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك.
وقيل: إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك. وفى كتبهم: يا ابن آدم علم مجانا كما علمت مجانا أي باطلا بغير أجرة قاله أبو العالية.
وقيل: المعنى ولا تشتروا بأوامري ونواهي وآياتي ثمنا قليلا يعني الدنيا ومدتها والثمن الذي هو نزر لا خطر له فسمي ما اعتاضوه عن ذلك ثمنا لأنهم جعلوه عوضا فانطلق عليه اسم الثمن وإن لم يكن ثمنا. وقد تقدم هذا المعنى.
وقال الشاعر:
إن كنت حاولت ذنبا أو ظفرت به *** فما أصبت بترك الحج من ثمن
قلت: وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم. فمن أخذ رشوة على تغير حق أو إبطاله أو امتنع من تعليم ما وجب عليه أو أداء ما علمه.
وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجرا فقد دخل في مقتضى الآية. والله أعلم. وقد روى أبو داود عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» يعني ريحها.
الثانية: وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم- لهذه الآية وما كان في معناها- فمنع ذلك الزهري وأصحاب الرأي وقالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن لان تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب والإخلاص فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام. وقد قال تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا}.
وروى ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «معلمو صبيانكم شراركم أقلهم رحمة باليتيم وأغلظهم على المسكين» روى أبو هريرة قال: قلت يا رسول الله ما تقول في المعلمين؟ قال: «درهمهم حرام وثوبهم سحت وكلامهم رياء» وروى عبادة بن الصامت قال: علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة، فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت: ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله فسألت عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها». وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأكثر العلماء لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس- حديث الرقية-: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله». أخرجه البخاري وهو نص يرفع الخلاف فينبغي أن يعول عليه. وأما ما احتج به المخالف من القياس على الصلاة والصيام ففاسد لأنه في مقابلة النص ثم إن بينهما فرقانا وهو أن الصلاة والصوم عبادات مختصة بالفاعل وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم فتجوز الأجرة على محاولته النقل كتعليم كتابة القرآن. قال ابن المنذر: وأبو حنيفة يكره تعليم القرآن بأجرة ويجوز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحا أو شعرا أو غناء معلوما بأجر معلوم فيجوز الإجارة فيما هو معصية ويبطلها فيما هو طاعة.
وأما الجواب عن الآية- فالمراد بها بنو إسرائيل، وشرع من قبلنا هل هو شرع لنا، فيه خلاف، وهو لا يقول به. جواب ثان- وهو أن تكون الآية فيمن تعين عليه التعليم فأبى حتى يأخذ عليه أجرا. فأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السنة في ذلك وقد يتعين عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم وله أن يقبل على صنعته وحرفته. ويجب على الامام أن يعين لإقامة الدين إعانته وإلا فعلى المسلمين لان الصديق رضي الله عنه لما ولي الخلافة وعين لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثيابا وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك فقال: ومن أين أنفق على عيالي! فردوه وفرضوا له كفايته. وأما الأحاديث فليس شيء منها يقوم على ساق ولا يصح منها شيء عند أهل العلم بالنقل. أما حديث ابن عباس فرواه سعيد بن طريف عن عكرمة عنه وسعيد متروك. وأما حديث أبي هريرة فرواه علي بن عاصم عن حماد بن سلمة عن أبى جرهم عنه وأبو جرهم مجهول لا يعرف ولم يرو حماد بن سلمة عن أحد يقال له أبو جرهم وإنما رواه عن أبي المهزم وهو متروك الحديث أيضا وهو حديث لا أصل له. وأما حديث عبادة بن الصامت فرواه أبو داود من حديث المغيرة بن زياد الموصلي عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عنه والمغيرة معروف عند أهل العلم ولكنه له مناكير هذا منها قاله أبو عمر. ثم قال: وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم لأنه روي عن عبادة من وجهين وروي عن أبي بن كعب من حديث موسى بن علي عن أبيه عن أبي وهو منقطع. وليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل وحديث عبادة وأبي يحتمل التأويل لأنه جائز أن يكون علمه لله ثم أخذ عليه أجرا. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «خير الناس وخير من يمشي على جديد الأرض المعلمون كلما خلق الدين جددوه أعطوهم ولا تستأجروهم فتحرجوهم فان المعلم إذا قال للصبي قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبي بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله براءة للصبي وبراءة للمعلم وبراءة لأبويه من النار».
الثالثة: واختلف العلماء في حكم المصلي بأجرة فروي أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة خلف من استؤجر في رمضان يقوم للناس فقال: أرجو ألا يكون به بأس وهو أشد كراهة له في الفريضة.
وقال الشافعي وأصحابه وأبو ثور: لا بأس بذلك ولا بالصلاة خلفه.
وقال الأوزاعي: لا صلاة له. وكرهه أبو حنيفة وأصحابه على ما تقدم. قال ابن عبد البر: وهذه المسألة معلقة من التي قبلها واصلها واحد.
قلت: ويأتي لهذا أصل آخر من الكتاب في براءة إن شاء الله تعالى. وكره ابن القاسم أخذ الأجرة على تعليم الشعر والنحو.
وقال ابن حبيب: لا بأس بالإجارة على تعليم الشعر والرسائل وأيام العرب ويكره من الشعر ما فيه الخمر والخنى والهجاء. قال أبو الحسن اللخمي: ويلزم على قوله أن يجيز الإجارة على كتبه ويجيز بيع كتبه. وأما الغناء والنوح فممنوع على كل حال الرابعة: روى الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن عمر بن الكميت قال حدثنا علي بن وهب الهمداني قال أخبرنا الضحاك بن موسى قال: مر سليمان بن عبد الملك بالمدينة- وهو يريد مكة- فأقام بها أياما فقال: هل بالمدينة أحد أدرك أحدا من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالوا له: أبو حازم فأرسل إليه فلما دخل عليه قال له: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ قال أبو حازم: يا أمير المؤمنين وأى جفاء رأيت منى؟ قال: أتاني وجوه أهل المدينة ولم تأتني! قال يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن ما عرفتني قبل هذا اليوم ولا أنا رأيتك! قال: فالتفت إلى محمد بن شهاب الزهري فقال: أصاب الشيخ وأخطأت. قال سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟! قال: لأنكم أخربتم الآخرة وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب قال أصبت يا أبا حازم فكيف القدوم غدا على الله تعالى؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه. فبكى سليمان وقال: ليت شعري! ما لنا عند الله؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله. قال: وأى مكان أجده؟ قال: {إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13- 14]. قال سليمان: فأين رحمة الله يا أبا حازم؟ قال أبو حازم: رحمة الله قريب من المحسنين قال له سليمان: يا أبا حازم فأي عباد الله أكرم؟ قال: أولو المروءة والنهى. قال له سليمان: فأي الأعمال أفضل؟ قال أبو حازم أداء الفرائض مع اجتناب المحارم. قال سليمان: فأي الدعاء أسمع؟ قال دعاء المحسن إليه للمحسن. فقال: أي الصدقة أفضل؟ قال: للسائل البائس وجهد المقل ليس فيها من ولا أذى. قال: فأي القول أعدل؟ قال: قول الحق عند من تخافه أو ترجوه. قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: رجل عمل بطاعة الله ودل الناس عليها. قال: فأي المؤمنين أحمق؟ قال: رجل انحط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره قال له سليمان: أصبت فما تقول فيما نحن فيه؟ قال يا أمير المؤمنين أو تعفيني؟ قال له سليمان: لا! ولكن نصيحة تلقيها إلي. قال: يا أمير المؤمنين إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة على غير مشورة من المسلمين ولا رضاهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة فقد ارتحلوا عنها فلو شعرت ما قالوه وما قيل لهم!. فقال له رجل من جلسائه: بئس ما قلت يا أبا حازم! قال أبو حازم: كذبت إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا تكتمونه. قال له سليمان: فكيف لنا أن نصلح؟ قال: تدعون الصلف وتمسكون بالمروءة وتقسمون بالسوية. قال له سليمان: فكيف لنا بالمأخذ به؟ قال أبو حازم: تأخذه من حله وتضعه في أهله. قال له سليمان: هل لك يا أبا حازم أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ قال أعوذ بالله! قال له سليمان: ولم ذاك؟ قال: أخشى أن أركن إليكم شيئا قليلا فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات. قال له سليمان ارفع إلينا حوائجك قال: تنجيني من النار وتدخلني الجنة. قال له سليمان: ليس ذاك إلي! قال له أبو حازم: فما لي إليك حاجة غيرها. قال: فادع لي. قال أبو حازم: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخير الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى قال له سليمان قط! قال أبو حازم: قد أوجزت وأكثرت إن كنت من أهله وإن لم تكن من أهله فما ينبغي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر قال له سليمان أوصني قال سأوصيك وأوجز: عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك. فلما خرج من عنده بعث إليه بمائة دينار وكتب إليه أن أنفقها ولك عندي مثلها كثير قال فردها عليه وكتب إليه يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلا أو ردي عليك بذلا وما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي! إن موسى بن عمران لما ورد ماء مدين وجد عليه رعاء يسقون ووجد من دونهم جاريتين تذودان فسألهما فقالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير وذلك أنه كان جائعا خائفا لا يأمن فسأل ربه ولم يسأل الناس فلم يفطن الرعاء وفطنت الجاريتان فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بالقصة وبقوله. فقال أبوهما وهو شعب عليه السلام هذا رجل جائع. فقال إحداهما: اذهبي فادعيه. فلما أتته عظمته وغطت وجهها وقالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فشق على موسى حين ذكرت {أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا} ولم يجد بدا من أن يتبعها لأنه كان بين الجبال جائعا مستوحشا. فلما تبعها هبت الريح فجعلت تصفق ثيابها على ظهرها فتصف له عجيزتها- وكانت ذات عجز- وجعل موسى يعرض مرة ويغض أخرى فلما عيل صبره ناداها: يا أمة الله كوني خلفي وأريني السمت بقولك. فلما دخل على شعيب إذ هو بالعشاء مهيأ فقال له شعيب اجلس يا شاب فتعشى فقال له موسى عليه السلام أعوذ بالله! فقال له شعيب: لم؟ أما أنت جائع؟ قال بلى ولكني أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من ديننا بملء الأرض ذهبا فقال له شعيب لا يا شاب. ولكنها عادتي وعادة آبائي: نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى فأكل فإن كانت هذه المائة دينار عوضا لما حدثت فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحل من هذه وإن كان لحق في بيت المال فلي فيها نظراء فان ساويت بيننا وإلا فليس لي فيها حاجة.
قلت: هكذا يكون الاقتداء بالكتاب والأنبياء انظروا إلى هذا الامام الفاضل والحبر العالم كيف لم يأخذ على عمله عوضا ولا على وصيته بدلا ولا على نصيحته صفدا بل بين الحق وصدع ولم يلحقه في ذلك خوف ولا فزع. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يمنعن أحدكم هيبة أحد أن يقول أو يقوم بالحق حيث كان».
وفي التنزيل: {يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة 54].
قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} قد تقدم معنى التقوى وقرئ {فاتقوني} بالياء وقد تقدم.
وقال سهل بن عبد الله قوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} قال موضع علمي السابق فيكم. {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} قال موضع المكر والاستدراج لقول الله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] وقوله: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ} [الأعراف: 99] فما استثنى نبيا ولا صديقا.

{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}
قوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ} اللبس: الخلط. لبست عليه الامر ألبسه، إذا مزجت بينه بمشكلة وحقه بباطله قال الله تعالى: {وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]. وفى الامر لبسة أي ليس بواضح. ومن هذا المعنى قول علي رضي الله عنه للحارث بن حوط يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله. وقالت الخنساء:
ترى الجليس يقول الحق تحسبه *** رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا
صدق مقالته واحذر عداوته *** والبس عليه أمورا مثل ما لبسا
وقال العجاج:
لما لبسن الحق بالتجني *** غنين واستبدلن زيدا مني
روى سعيد عن قتادة في قوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ} [البقرة: 42]، يقول: لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن دين الله- الذي لا يقبل غيره ولا يجزئ إلا به- الإسلام وأن اليهودية والنصرانية بدعة وليست من الله. والظاهر من قول عنترة:
وكتيبة لبستها بكتيبة ***
أنه من هذا المعنى، ويحتمل أن يكون من اللباس. وقد قيل هذا في معنى الآية، أي لا تغطوا. ومنه لبس الثوب يقال لبست الثوب ألبسه ولباس الرجل زوجته وزوجها لباسها قال الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها *** تثنت عليه فكانت لباسا
وقال الأخطل:
وقد لبست لهذا الامر أعصره *** حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا
واللبوس: كل ما يلبس من ثياب ودرع قال الله تعالى: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80]. ولابست فلانا حتى عرفت باطنه وفي فلان ملبس أي مستمتع قال:
ألا إن بعد العدم للمرء قنوة *** وبعد المشيب طول عمر وملبسا
ولبس الكعبة والهودج ما عليهما من لباس بكسر اللام.
قوله تعالى: {بِالْباطِلِ} الباطل في كلام العرب خلاف الحق ومعناه الزائل قال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ***
وبطل الشيء يبطل بطلا وبطولا وبطلانا ذهب ضياعا وخسرا وأبطله غيره. ويقال ذهب دمه بطلا أي هدرا والباطل الشيطان والبطل الشجاع سمي بذلك لأنه يبطل شجاعة صاحبه. قال النابغة:
لهم لواء بأيدي ماجد بطل *** لا يقطع الخرق إلا طرفه سامي
والمرأة بطله. وقد بطل الرجل بالضم يبطل بطوله وبطالة أي صار شجاعا وبطل الأجير بالفتح بطالة أي تعطل فهو بطال واختلف أهل التأويل في المراد بقوله: {الْحَقَّ بِالْباطِلِ} فروي عن ابن عباس وغيره لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل وهو التغيير والتبديل.
وقال أبو العالية قالت اليهود محمد مبعوث ولكن إلى غيرنا فإقرارهم ببعثه حق وجحدهم أنه بعث إليهم باطل وقال ابن زيد المراد بالحق التوراة والباطل ما بدلوا فيها من ذكر محمد عليه السلام وغيره وقال مجاهد لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام. وقاله قتادة وقد تقدم.
قلت: وقول ابن عباس أصوب لأنه عام فيدخل فيه جميع الأقوال والله المستعان قوله تعالى: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} يجوز أن يكون معطوفا على {تَلْبِسُوا} فيكون مجزوما ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن التقدير لا يكن منكم لبس الحق وكتمانه أي وأن تكتموه. قال ابن عباس: يعني كتمانهم أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يعرفونه.
وقال محمد بن سيرين: نزل عصابة من ولد هارون يثرب لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العدو عليهم والذلة وتلك العصابة هم حملة التوراة يومئذ فأقاموا بيثرب يرجون أن يخرج محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين ظهرانيهم وهم مؤمنون مصدقون بنبوته فمضى أولئك الآباء وهم مؤمنون وخلف الأبناء وأبناء الأبناء فأدركوا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكفروا به وهم يعرفونه وهو معنى قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89].
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة في موضع الحال أي أن محمدا عليه السلام حق فكفرهم كان كفر عناد ولم يشهد تعالى لهم بعلم وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا. ودل هذا على تغليظ الذنب على من واقعه على علم وأنه أعصى من الجاهل. وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة: 44] الآية.

{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
فيه أربع وثلاثون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أمر معناه الوجوب ولا خلاف فيه، وقد تقدم القول في معنى إقامة الصلاة واشتقاقها وفي جملة من أحكامها، والحمد لله.
الثانية: قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكاةَ} أمر أيضا يقتضي الوجوب والإيتاء الإعطاء. أتيته: أعطيته قال الله تعالى: {لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75]. واتيته- بالقصر من غير مد- جئته فإذا كان المجيء بمعنى الاستقبال مد ومنه الحديث: ولآتين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلأخبرنه وسيأتي.
الثالثة: الزكاة مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد يقال زكا الزرع والمال يزكو إذا كثر وزاد. ورجل زكي أي زائد الخير. وسمي الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثاب به المزكي ويقال زرع زاك بين الزكاء. وزكأت الناقة بولدها تزكأ به إذا رمت به من بين رجليها. وزكا الفرد إذا صار زوجا بزيادة الزائد عليه حتى صار شفعا قال الشاعر:
كانوا خسا أو زكا من دون أربعة *** لم يخلقوا وجدود الناس تعتلج
جمع جد وهو الحظ والبخت تعتلج أي ترتفع. اعتلجت الأرض طال نباتها فخسا الفرد وزكا: الزوج.
وقيل: أصلها الثناء الجميل ومنه زكى القاضي الشاهد. فكأن من يخرج الزكاة يحصل لنفسه الثناء الجميل وقيل: الزكاة مأخوذة من التطهير كما يقال: زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة والاغفال فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين ألا ترى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمى ما يخرج من الزكاة أوساخ الناس وقد قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها} [التوبة: 103] الرابعة: واختلف في المراد بالزكاة هنا فقيل: الزكاة المفروضة لمقارنتها بالصلاة وقيل: صدقة الفطر قاله مالك في سماع ابن القاسم.
قلت: فعلى الأول وهو قول أكثر العلماء- فالزكاة في الكتاب مجملة بينها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فروى الأئمة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة» وقال البخاري: «خمس أواق من الورق» وروى البخاري عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر» وسيأتي بيان هذا الباب في الأنعام إن شاء الله تعالى. ويأتي في براءة زكاة العين والماشية وبيان المال الذي لا يؤخذ منه زكاة عند قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وأما زكاة الفطر فليس لها في الكتاب نص عليها إلا ما تأوله مالك هنا وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15]. والمفسرون يذكرون الكلام عليها في سورة الأعلى، ورأيت الكلام عليها في هذه السورة عند كلامنا على آي الصيام لان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرض زكاة الفطر في رمضان الحديث. وسيأتي فأضافها إلى رمضان.
الخامسة: قوله تعالى: {وَارْكَعُوا} الركوع في اللغة الانحناء بالشخص وكل منحن راكع. قال لبيد:
أخبِّر أخبار القرون التي مضت *** أدبُّ كأني كلما قمت راكع
وقال ابن دريد: الركعة الهوة في الأرض لغة يمانية وقيل الانحناء يعم الركوع والسجود ويستعار أيضا في الانحطاط في المنزلة قال:
ولا تعاد الضعيف علّك أن *** تركع يوما والدهر قد رفعه
السادسة: واختلف الناس في تخصيص الركوع بالذكر فقال قوم: جعل الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة قلت: وهذا ليس مختصا بالركوع وحده فقد جعل الشرع القراءة عبارة عن الصلاة والسجود عبارة عن الركعة بكمالها فقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي صلاة الفجر وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أدرك سجدة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» وأهل الحجاز يطلقون على الركعة سجدة. وقيل إنما خص الركوع بالذكر لان بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع.
وقيل: لأنه كان أثقل عل القوم في الجاهلية حتى لقد قال بعض من أسلم أظنه عمران بن حصين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على ألا أخر إلا قائما. فمن تأويله على ألا أركع فلما تمكن الإسلام من قلبه اطمأنت بذلك نفسه وأمتثل ما أمر به من الركوع السابعة: الركوع الشرعي هو أن يحني الرجل صلبه ويمد ظهره وعنقه ويفتح أصابع يديه ويقبض على ركبتيه ثم يطمئن راكعا يقول سبحان ربي العظيم ثلاثا وذلك أدناه روى مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك.
وروى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره الحديث.
الثامنة: الركوع فرض، قرآنا وسنة، وكذلك السجود لقوله تعالى في آخر الحج {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]. وزادت السنة الطمأنينة فيهما والفصل بينهما وقد تقدم القول في ذلك وبينا صفة الركوع آنفا. وأما السجود فقد جاء مبينا من حديث أبي حميد الساعدي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا سجد مكن جبهته وأنفه من الأرض ونحى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه. خرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وروى مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب». وعن البراء قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك». وعن ميمونة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سجد خوى بيديه- يعني جنح حتى يرى وضح إبطيه من ورائه- وإذا قعد اطمأن على فخذه اليسرى.
التاسعة: واختلف العلماء فيمن وضع جبهته في السجود دون أنفه أو أنفه دون جبهته، فقال مالك: يسجد على جبهته وأنفه، وبه قال الثوري وأحمد، وهو قول النخعي. قال أحمد: لا يجزئه السجود على أحدهما دون الآخر، وبه قال أبو خيثمة وابن أبي شيبة. قال إسحاق: إن سجد على أحدهما دون الآخر فصلاته فاسدة.
وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وعبد الرحمن بن أبي ليلى كلهم أمر بالسجود على الأنف. وقالت طائفة: يجزئ أن يسجد على جبهته دون أنفه، هذا قول. عطاء وطاوس وعكرمة وابن سيرين والحسن البصري، وبه قال الشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد. قال ابن المنذر: وقال قائل: إن وضع جبهته ولم يضع أنفه أو وضع أنفه ولم يضع جبهته فقد أساء وصلاته تامة، هذا قول النعمان. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدا سبقه إلى هذا القول ولا تابعه عليه.
قلت: الصحيح في السجود وضع الجبهة والأنف، لحديث أبي حميد، وقد تقدم.
وروى البخاري عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة- وأشار بيده إلى أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفت الثياب والشعر». وهذا كله بيان لمجمل الصلاة فتعين القول به. والله أعلم وروي عن مالك أنه يجزيه أن يسجد على جبهته دون أنفه، كقول عطاء والشافعي. والمختار عندنا قوله الأول ولا يجزئ عند مالك إذا لم يسجد على جبهته.
العاشرة: ويكره السجود على كور العمامة، وإن كان طاقة أو طاقتين مثل الثياب التي تستر الركب والقدمين فلا بأس، والأفضل مباشرة الأرض أو ما يسجد عليه. فإن كان هناك ما يؤذيه أزاله قبل دخوله في الصلاة، فإن لم يفعل فليمسحه مسحة واحدة.
وروى مسلم عن معيقيب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال: «إن كنت فاعلا فواحدة» وروي عن أنس بن مالك قال: كنا نصلي مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه.
الحادية عشرة: لما قال تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] قال بعض علمائنا وغيرهم يكفي منها ما يسمى ركوعا وسجودا، وكذلك من القيام. ولم يشترطوا الطمأنينة في ذلك فأخذوا بأقل الاسم في ذلك وكأنهم لم يسمعوا الأحاديث الثابتة في إلغاء الصلاة. قال ابن عبد البر: ولا يجزي ركوع ولا سجود ولا وقوف بعد الركوع ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل راكعا وواقفا وساجدا وجالسا. وهو الصحيح في الأثر وعليه جمهور العلماء وأهل النظر وهى رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد تكاثرت الرواية عن ابن القاسم وغيره بوجوب الفصل وسقوط الطمأنينة وهو وهم عظيم لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلها وأمر بها وعلمها. فإن كان لابن القاسم عذر أن كان لم يطلع عليها فما لكم أنتم وقد انتهى العلم إليكم وقامت الحجة به عليكم! روى النسائي والدارقطني وعلي بن عبد العزيز عن رفاعة بن رافع قال: كنت جالسا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاءه رجل فدخل المسجد فصلى، فلما قضى الصلاة جاء فسلم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى القوم فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارجع فصل فإنك لم تصل» وجعل يصلي وجعلنا نرمق صلاته لا ندري ما يعيب منها فلما جاء فسلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى القوم فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وعليك أرجع فصل فإنك لم تصل». قال همام: فلا ندري أمره بذلك مرتين أو ثلاثا فقال له الرجل: ما ألوت فلا أدري ما عبت علي من صلاتي؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله تعالى ويثني عليه ثم يقرأ أم القرآن وما أذن له فيه وتيسر ثم يكبر فيركع فيضع كفيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يقول سمع الله لمن حمده ويستوي قائما حتى يقيم صلبه ويأخذ كل عظيم مأخذه ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه- قال همام: وربما قال: جبهته- من الأرض حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعده ويقيم صلبه- فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال- لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك» ومثله حديث أبي هريرة خرجه مسلم وقد تقدم.
قلت: فهذا بيان الصلاة المجملة في الكتاب بتعليم النبي عليه السلام وتبليغه إياها جميع الأنام فمن لم يقف عند هذا البيان وأخل بما فرض عليه الرحمن ولم يمتثل ما بلغه عن نبيه عليه السلام كان من جملة من دخل في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ} [مريم: 59] على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى روى البخاري عن زيد بن وهب قال رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع ولا السجود فقال: «ما صليت ولو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} {مع} تقتضي المعية والجمعية ولهذا قال جماعة من أهل التأويل بالقرآن: إن الامر بالصلاة أولا لم يقتض شهود الجماعة فأمرهم بقوله: {مع} شهود الجماعة وقد اختلف العلماء في شهود الجماعة على قولين فالذي عليه الجمهور أن ذلك من السنن المؤكدة ويجب على من أدمن التخلف عنها من غير عذر العقوبة. وقد أوجبها بعض أهل العلم فرضا على الكفاية قال ابن عبد البر: وهذا قول صحيح لإجماعهم على أنه لا يجوز أن يجتمع على تعطيل المساجد كلها من الجماعات فإذا قامت الجماعة في المسجد فصلاة المنفرد في بيته جائزة لقوله عليه السلام: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» أخرجه مسلم من حديث ابن عمر.
وروى عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا».
وقال داود: الصلاة في الجماعة فرض على كل أحد في خاصته كالجمعة واحتج بقوله عليه السلام: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبد الحق، وهو قول عطاء بن أبي رباح وأحمد بن حنبل وأبي ثور وغيرهم.
وقال الشافعي: لا أرخص لمن قدر على الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر حكاه ابن المنذر.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل أعمى فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال: «هل تسمع النداء بالصلاة؟» قال: نعم. قال: «فأجب» وقال أبو داود في هذا الحديث: «لا أجد لك رخصة». خرجه من حديث ابن أم مكتوم وذكر أنه كان هو السائل وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سمع النداء فلم يمنعه من إتيانه عذر- قالوا: وما العذر؟ قال خوف أو مرض- لم تقبل منه الصلاة التي صلى». قال أبو محمد عبد الحق: هذا يرويه مغراء العبدي والصحيح موقوف على ابن عباس: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له» على أن قاسم بن أصبغ ذكره في كتابه فقال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر» وحسبك بهذا الاسناد صحة ومغراء العبدي روى عنه أبو إسحاق وقال ابن مسعود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق.
وقال عليه السلام: «بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما» قال ابن المنذر ولقد روينا عن غير واحد من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم قالوا: «من سمع النداء فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له» منهم ابن مسعود وأبو موسى الأشعري.
وروى أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزما من حطب ثم أتى قوما يصلون في بيوتهم ليست لهم علة فأحرقها عليهم». هذا ما احتج به من أوجب الصلاة في الجماعة فرضا وهى ظاهرة في الوجوب وحملها الجمهور على تأكيد أمر شهود الصلوات في الجماعة بدليل حديث ابن عمر وأبى هريرة وحملوا قول الصحابة وما جاء في الحديث من أنه: «لا صلاة له» على الكمال والفضل وكذلك قوله عليه السلام لابن أم مكتوم: «فأجب» على الندب. وقوله عليه السلام: «لقد هممت» لا يدل على الوجوب الحتم لأنه هم ولم يفعل وإنما مخرجه مخرج التهديد والوعيد للمنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة والجمعة. يبين هذا المعنى ما رواه مسلم عن عبد الله قال: من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو تركتم سنة نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف.
فبين رضي الله عنه في حديثه أن الاجتماع سنة من سنن الهدى وتركه ضلال، ولهذا قال القاضي أبو الفضل عياض: اختلف في التمالؤ على ترك ظاهر السنن، هل يقاتل عليها أولا، والصحيح قتالهم، لأن في التمالؤ عليها إماتتها.
قلت: فعلى هذا إذا أقيمت السنة وظهرت جازت صلاة المنفرد وصحت. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون اللهم أرحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه». قيل لابي هريرة: ما يحدث؟ قال: يفسو أو يضرط.
الثالثة عشرة: واختلف العلماء في هذا الفضل المضاف للجماعة هل لأجل الجماعة فقط حيث كانت أو إنما يكون ذلك الفضل للجماعة التي تكون في المسجد لما يلازم ذلك من أفعال تختص بالمساجد كما جاء في الحديث قولان والأول أظهر لان الجماعة هو الوصف الذي علق عليه الحكم والله أعلم وما كان من إكثار الخطا إلى المساجد وقصد الإتيان إليها والمكث فيها فذلك زيادة ثواب خارج عن فضل الجماعة والله أعلم الرابعة عشرة: واختلفوا أيضا هل تفضل جماعة جماعة بالكثرة وفضيلة الامام؟ فقال مالك: لا.
وقال ابن حبيب نعم لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله» رواه أبى بن كعب وأخرجه أبو داود وفي إسناده لين الخامسة عشرة: واختلفوا أيضا فمن صلى في جماعة هل يعيد صلاته تلك في جماعة أخرى؟ فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم إنما يعيد الصلاة في جماعة مع الامام من صلى وحده في بيته واهلة أو في غير بيته وأما من صلى في جماعة وإن قلت فإنه لا يعيد في جماعة أكثر منها ولا أقل وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي: جائز لمن صلى في جماعة ووجد جماعة أخرى في تلك الصلاة أن يعيدها معهم إن شاء لأنها نافلة وسنة. وروي ذلك عن حذيفة بن اليمان وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك وصلة بن زفر والشعبي والنخعي وبه قال حماد بن زيد وسليمان بن حرب. احتج مالك بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تصلى صلاة في يوم مرتين» ومنهم من يقول لا تصلوا رواه سليمان بن يسار عن ابن عمر واتفق أحمد وإسحاق على أن معنى هذا الحديث أن يصلي الإنسان الفريضة ثم يقوم فيصليها ثانية ينوي بها الفرض مرة أخرى فأما إذا صلاها مع الامام على أنها سنة أو تطوع فليس بإعادة الصلاة وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للذين أمرهم بإعادة الصلاة في جماعة: «إنها لكم نافلة» من حديث أبي ذر وغيره السادسة عشرة: روى مسلم عن أبي مسعود عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه» وفي رواية: «سنا» مكان: «سلما» وأخرجه أبو داود وقال: قال شعبة: فقلت لإسماعيل ما تكرمته؟ قال: فراشه وأخرجه الترمذي وقال: حديث أبي مسعود حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أهل العلم قالوا: أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم بالسنة وقالوا صاحب المنزل أحق بالإمامة وقال بعضهم إذا أذن صاحب المنزل لغيره فلا بأس أن يصلي به. وكرهه بعضهم وقالوا: السنة أن يصلي صاحب البيت. قال ابن المنذر روينا عن الأشعث بن قيس أنه قدم غلاما وقال إنما أقدم القرآن وممن قال يؤم القوم أقرؤهم ابن سيرين والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي قال ابن المنذر بهذا نقول لأنه موافق للسنة وقال مالك يتقدم القوم أعلمهم إذا كانت حاله حسنة وإن للسن حقا وقال الأوزاعي يؤمهم أفقههم وكذلك قال الشافعي وأبو ثور إذا كان يقرأ القرآن وذلك لان الفقيه أعرف بما ينوبه من الحوادث في الصلاة وتأولوا الحديث بأن الاقرأ من الصحابة كان الأفقه لأنهم كانوا يتفقهون في القرآن وقد كان من عرفهم الغالب تسميتهم الفقهاء بالقراء واستدلوا بتقديم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي مات فيه أبا بكر لفضله وعلمه.
وقال إسحاق إنما قدمه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليدل على أنه خليفته بعده ذكره أبو عمر في التمهيد.
وروى أبو بكر البزار بإسناد حسن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سافرتم فليؤمكم أقرؤكم وإن كان أصغركم وإذا أمكم فهو أميركم» قال: لا نعلمه يروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا من رواية أبي هريرة بهذا الاسناد.
قلت: إمامة الصغير جائزة إذا كان قارئا ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن سلمة قال: كنا بماء ممر الناس وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه كذا! أوحى إليه كذا! فكنت أحفظ ذلك الكلام فكأنما يقر في صدري وكانت العرب تلوم بإسلامها فيقولون اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال: جئتكم والله من عند نبي الله حقا، قال: «صلوا صلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرانا». فنظروا فلم يكن أحد أكثر منى قرآنا لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا است قارئكم! فاشتروا فقطعوا لي قميصا فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص. وممن أجاز إمامة الصبي غير البالغ الحسن البصري وإسحاق بن راهويه واختاره ابن المنذر إذا عقل الصلاة وقام بها لدخوله في جملة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يؤم القوم أقرؤهم» ولم يستثن ولحديث عمرو بن سلمة وقال الشافعي في أحد قوليه يؤم في سائر الصلوات ولا يؤم في الجمعة وقد كان قبل يقول ومن أجزأت إمامته في المكتوبة أجزأت إمامته في الأعياد غير أنى أكره فيها إمامة غير الوالي وقال الأوزاعي: لا يؤم الغلام في الصلاة المكتوبة حتى يحتلم إلا أن يكون قوم ليس معهم من القرآن شيء فإنه يؤمهم الغلام المراهق وقال الزهري إن اضطروا إليه أمهم. ومنع ذلك جملة مالك والثوري وأصحاب الرأي.
السابعة عشرة: الإتمام بكل إمام بالغ مسلم حر على استقامة جائز من غير خلاف إذا كان يعلم حدود الصلاة ولم يكن يلحن في أم القرآن لحنا يخل بالمعنى مثل أن يكسر الكاف من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ويضم التاء في: {أَنْعَمْتَ} ومنهم من راعى تفريق الطاء من الضاد وإن لم يفرق بينهما لا تصح إمامته لان معناهما يختلف. ومنهم من رخص في ذلك كله إذا كان جاهلا بالقراءة وام مثله ولا يجوز الإتمام بامرأة ولا خنثى مشكل ولا كافر ولا مجنون ولا أمي ولا يكون واحد من هؤلاء إماما بحال من الأحوال عند أكثر العلماء على ما يأتي ذكره إلا الأمي لمثله قال علماؤنا: لا تصح إمامة الأمي الذي لا يحسن القراءة مع حضور القارئ له ولا لغيره وكذلك قال الشافعي. فإن أم أميا مثله صحت صلاتهم عندنا وعند الشافعي.
وقال أبو حنيفة إذا صلى الأمي بقوم يقرءون وبقوم أميين فصلاتهم كلهم فاسدة. وخالقه أبو يوسف فقال صلاة الامام ومن لا يقرأ تامة وقالت فرقة صلاتهم كلهم جائزة لان كلا مؤد فرضه وذلك مثل المتيمم يصلي بالمتطهرين بالماء والمصلي قاعدا يصلي بقوم قيام صلاتهم مجزئة في قول من خالفنا لان كلا مؤد فرضي نفسه.
قلت: وقد يحتج لهذا القول بقول عليه السلام: «ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي فإنما يصلي لنفسه» أخرجه مسلم وإن صلاة المأموم ليست مرتبطة بصلاة الامام والله أعلم وكان عطاء بن أبي رباح يقول إذا كانت امرأته تقرأ كبر هي وتقرأ هي فإذا فرغت من القراءة كبر وركع وسجد وهى خلفه تصلى وروي هذا المعنى عن قتادة.
الثامنة عشرة ولا بأس بإمامة الأعمى والأعرج والأشل والأقطع والخصى والعبد إذا كان كل واحد منهم عالما بالصلاة وقال ابن وهب لا أرى أن يؤم الأقطع والأشل لأنه منتقص عن درجه الكمال وكرهت إمامته لأجل النقص. وخالفه جمهور أصحابه وهو الصحيح لأنه عضو لا يمنع فقده فرضا من فروض الصلاة فجازت الامامة الراتبة مع فقده كالعين وقد روى أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى، وكذا الأعرج والأقطع والأشل والخصى قياسا ونظرا والله أعلم وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال في الأعمى: وما حاجتهم إليه! وكان ابن عباس وعتبان بن مالك يؤمان وكلاهما أعمى، وعليه عامة العلماء.
التاسعة عشرة: واختلفوا في إمامة ولد الزنى فقال مالك أكره أن يكون إماما راتبا وكره ذلك عمر بن عبد العزيز وكان عطاء بن أبي رباح يقول له أن يؤم إذا كان مرضيا وهو قول الحسن البصري والزهري والنخعي وسفيان الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وتجزئ الصلاة خلفه عند أصحاب الرأي وغيره أحب إليهم وقال الشافعي أكره أن ينصب إماما راتبا من لا يعرف أبوه ومن صلى خلفه أجزأه وقال عيسى بن دينار لا أقول بقول مالك في إمامة ولد الزنى وليس عليه من ذنب أبويه شيء ونحوه قال ابن عبد الحكم إذا كان في نفسه أهلا للإمامة قال ابن المنذر يؤم لدخوله في جملة قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يؤم القوم أقرؤهم» وقال أبو عمر ليس في شيء من الآثار الواردة في شرط الامامة ما يدل على مراعاة نسب وإنما فيها دلالة على الفقه والقراءة والصلاح في الدين العشرون: وأما العبد فروى البخاري عن ابن عمر قال: لما قدم المهاجرون الأولون العصبة- موضع بقباء- قبل مقدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنا. وعنه قال: كان سالم مولى أبي حذيفة يؤو المهاجرين الأولين وأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجد قباء فهم أبو بكر وعمر وزيد وعامر بن ربيعة وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف. قال ابن المنذر: وام أبو سعيد مولى أبي أسيد وه


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 4:20 pm
المشاركة رقم: #11
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)}
فيه تسع مسائل:
الأولى قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} هذا استفهام معناه التوبيخ والمراد في قول أهل التأويل علماء اليهود. قال ابن عباس: كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين اثبت على الذي أنت عليه وما يأمرك به هذا الرجل يريدون محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن أمره حق فكانوا يأمرون الناس بذلك ولا يفعلونه. وعن ابن عباس أيضا: كان الأحبار يأمرون مقلديهم وأتباعهم باتباع التوراة وكانوا يخالفونها في جحدهم صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن جريج كان الأحبار يحضون في طاعة الله وكانوا هم يواقعون المعاصي وقالت فرقة كانوا يحضون على الصدقة ويبخلون والمعنى متقارب وقال بعض أهل الإشارات المعنى أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم تخالفون عن ظواهر رسومها! الثانية: في شدة عذاب من هذه صفته روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليلة أسرى بي مررت على ناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الخطباء من أهل الدنيا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» وروى أبو أمامة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجرون قصبهم في نار جهنم فيقال لهم من أنتم؟ فيقولون نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا».
قلت: وهذا الحديث وإن كان فيه لين، لأن في سنده الخصيب بن جحدر كان الامام أحمد يستضعفه وكذلك ابن معين يرويه عن أبي غالب عن أبى أمامة صدى بن عجلان الباهلي وأبو غالب هو فيما حكى يحيى بن معين حزور القرشي مولى خالد بن عبد الله بن أسيد وقيل: مولى باهلة وقيل: مولى عبد الرحمن الحضرمي كان يختلف إلى الشام في تجارته. قال يحيى بن معين: هو صالح الحديث فقد رواه مسلم في صحيحه بمعناه عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه». القصب بضم القاف المعى وجمعه أقصاب. والأقتاب: الأمعاء واحدها قتب. ومعنى: «فتندلق»: فتخرج بسرعة. وروينا: «فتنفلق».
قلت: فقد دل الحديث الصحيح وألفاظ الآية على أن عقوبة من كان عالما بالمعروف وبالمنكر وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه وانما ذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله تعالى ومستخف بأحكامه وهو ممن لا ينتفع بعلمه قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه». أخرجه ابن ماجه في سننه.
الثالثة: اعلم وفقك الله تعالى أن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر لا بسبب الامر بالبر ولهذا ذم الله تعالى في كتابه قوما كانوا يأمرون بأعمال البر ولا يعملون بها وبخهم به توبيخا يتلى على طول الدهر إلى يوم القيامة فقال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} الآية.
وقال منصور الفقيه فأحسن:
إن قوما يأمرونا *** بالذي لا يفعلونا
لمجانين وإن هم *** لم يكونوا يصرعونا
وقال أبو العتاهية:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى *** وريح الخطايا من ثيابك تسطع
وقال أبو الأسود الدؤلي:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم
وابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإن انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى *** بالقول منك وينفع التعليم
وقال أبو عمرو بن مطر: حضرت مجلس أبي عثمان الحيري الزاهد فخرج وقعد على موضعه الذي كان يقعد عليه للتذكير، فسكت حتى طال سكوته، فناداه رجل كان يعرف بأبي العباس: ترى أن تقول في سكوتك شيئا؟ فأنشأ يقول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي والطبيب مريض
قال: فارتفعت الأصوات بالبكاء والضجيج.
الرابعة: قال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات، قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة: 44] الآية، وقوله: {لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]، وقوله: {وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].
وقال سلم بن عمرو:
ما أقبح التزهيد من واعظ *** يزهد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقا *** أضحى وأمسى بيته المسجد
إن رفض الدنيا فما باله *** يستمنح الناس ويسترفد
والرزق مقسوم على من ترى *** يناله الأبيض والأسود
وقال الحسن لمطرف بن عبد الله: عظ أصحابك، فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال: يرحمك الله! وأينا يفعل ما يقول! ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر.
وقال مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شي، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق، من ذا الذي ليس فيه شي!.
الخامسة: قوله تعالى: {بِالْبِرِّ} البر هنا الطاعة والعمل الصالح. والبر: الصدق. والبر: ولد الثعلب. والبر: سوق الغنم، ومنه قولهم: لا يعرف هرا من بر أي لا يعرف دعاء الغنم من سوقها. فهو مشترك، وقال الشاعر:
لا هم ربّ إن بكرا دونكا *** يبرّك الناس ويفجرونكا
أراد بقوله يبرك الناس: أي يطيعونك. ويقال: إن البر الفؤاد في قوله:
أكون مكان البر منه ودونه *** وأجعل مالي دونه وأوامره
والبر بضم الباء معروف، وبفتحها الإجلال والتعظيم، ومنه ولد بر وبار، أي يعظم والديه ويكرمهما.
السادسة: قوله تعالى: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أي تتركون. والنسيان بكسر النون يكون بمعنى الترك، وهو المراد هنا، وفي قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، وقوله: {فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44]، وقوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]. ويكون خلاف الذكر والحفظ، ومنه الحديث: «نسي آدم فنسيت ذريته». وسيأتي. يقال: رجل نسيان بفتح النون: كثير النسيان للشيء. وقد نسيت الشيء نسيانا، ولا تقل نسيانا بالتحريك، لأن النسيان إنما هو تثنية نسا العرق. وأنفس: جمع نفس، جمع قلة. والنفس: الروح، يقال: خرجت نفسه، قال أبو خراش:
نجا سالم والنفس منه بشدقه *** ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
أي بجفن سيف ومئزر. ومن الدليل في أن النفس الروح قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} [الزمر: 42] يريد الأرواح في قول جماعة من أهل التأويل على ما يأتي. وذلك بين في قول بلال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ابن شهاب: أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك. وقوله عليه السلام في حديث زيد بن أسلم: «إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا». رواهما مالك وهو أولى ما يقال به. والنفس أيضا الدم يقال سالت نفسه قال الشاعر:
تسيل على حد السيوف نفوسنا *** وليست على غير الظبات تسيل
وقال إبراهيم النخعي ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه. والنفس أيضا الجسد قال الشاعر:
نبئت أن بني سحيم أدخلوا *** أبياتهم تامور نفس المنذر
والتامور أيضا: الدم.
السابعة: قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ} توبيخ عظيم لمن فهم. {وتَتْلُونَ}: تقرءون. {الْكِتابَ}: التوراة. وكذا من فعل فعلهم كان مثلهم واصل التلاوة الاتباع ولذلك استعمل في القراءة لأنه يتبع بعض الكلام ببعض في حروفه حتى يأتي على نسقه يقال: تلوته إذا تبعته تلوا وتلوت القرآن تلاوة. وتلوت الرجل تلوا إذا خذلته. والتلية والتلاوة بضم التاء: البقية يقال: تليت لي من حقي تلاوة وتليه أي بقيت. وأتليت: أبقيت. وتتليت حقي إذا تتبعته حتى تستوفيه قال أبو زيد: تلى الرجل إذا كان بآخر رمق.
الثامنة: قوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم. والعقل: المنع ومنه عقال البعير لأنه يمنع عن الحركة ومنه العقل للدية لأنه يمنع ولي المقتول عن قتل الجاني ومنه اعتقال البطن واللسان ومنه يقال للحصن: معقل. والعقل. نقيض الجهل والعقل ثوب أحمر تتخذه نساء العرب تغشي به الهوادج قال علقمة:
عقلا ورقما تكاد الطير تخطفه *** كأنه من دم الأجواف مدموم
المدموم بالدال المهملة الأحمر وهو المراد هنا. والمدموم الممتلئ شحما من البعير وغيره ويقال: هما ضربان من البرود. قال ابن فارس: والعقل من شيات الثياب ما كان نقشه طولا وما كان نقشه مستديرا فهو الرقم.
وقال الزجاج: العاقل من عمل بما أوجب الله عليه فمن لم يعمل فهو جاهل.
التاسعة: اتفق أهل الحق على أن العقل كائن موجود ليس بقديم ولا معدوم لأنه لو كان معدوما لما اختص بالإنصاف به بعض الذوات دون بعض وإذا ثبت وجوده فيستحيل القول بقدمه، إذ الدليل قد قام على أن لا قديم إلا الله تعالى على ما يأتي بيانه في هذه السورة وغيرها إن شاء الله تعالى. وقد صارت الفلاسفة إلى أن العقل قديم ثم منهم من صار إلى أنه جوهر لطيف في البدن ينبث شعاعه منه بمنزلة السراج في البيت يفصل به بين حقائق المعلومات. ومنهم من قال إنه جوهر بسيط أي غير مركب. ثم اختلفوا في محله فقالت طائفة منهم: محله الدماغ لان الدماغ محل الحس. وقالت طائفة أخرى محله القلب لان القلب معدن الحياة ومادة الحواس. وهذا القول في العقل بأنه جوهر فاسد من حيث إن الجواهر متماثلة فلو كان جوهر عقلا لكان كل جوهر عقلا.
وقيل: إن العقل هو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق المعاني. وهذا القول وإن كان أقرب مما قبله فيبعد عن الصواب من جهة أن الإدراك من صفات الحي والعقل عرض يستحيل ذلك منه كما يستحيل أن يكون ملتذا ومشتهيا وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري والأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني وغيرهما من المحققين العقل هو العلم بدليل أنه لا يقال عقلت وما علمت أو علمت وما عقلت وقال القاضي أبو بكر العقل علوم ضرورية بوجوب الواجبات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وهو اختيار أبى المعالي في الإرشاد واختار في البرهان أنه صفة يتأتى بها درك العلوم واعترض على مذهب القاضي واستدل على فساد مذهبه وحكي في البرهان عن المحاسبي أنه قال العقل غريزة وحكى الأستاذ أبو بكر عن الشافعي وأبي عبد الله بن مجاهد أنهما قالا العقل آلة التمييز وحكى عن أبي العباس القلانسي أنه قال العقل قوة التمييز وحكي عن المحاسبي أنه قال العقل أنوار وبصائر ثم رتب هذه الأقوال وحملها على محامل فقال والأولى ألا يصح هذا النقل عن الشافعي ولا عن ابن مجاهد فان الآلة إنما تستعمل في الآلة المثبتة واستعمالها في الاعراض مجاز. وكذلك قول من قال إنه قوة فإنه لا يعقل من القوة إلا القدرة والقلانسي أطلق ما أطلقه توسعا في العبارات وكذلك المحاسبي. والعقل ليس بصورة ولا نور ولكن تستفاد به الأنوار والبصائر وسيأتي في هذه السورة بيان فائدته في آية التوحيد إن شاء الله تعالى.

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45)}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} الصبر: الحبس في اللغة وقتل فلان صبرا أي امسك وحبس حتى أتلف وصبرت نفسي على الشيء حبستها. والمصبورة التي نهي عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت وهي المجثمة.
وقال عنترة:
فصبرت عارفة لذلك حرة *** ترسو إذا نفس الجبان تطلع
الثانية: أمر تعالى بالصبر على الطاعة وعن المخالفة في كتابه فقال: {وَاصْبِرُوا} يقال فلان صابر عن المعاصي وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة هذا أصح ما قيل قال النحاس: ولا يقال لمن صبر على المصيبة: صابر إنما يقال صابر على كذا. فإذا قلت صابر مطلقا فهو على ما ذكرنا قال الله تعالى: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} [الزمر: 10] الثالثة: قوله تعالى: {وَالصَّلاةِ} خص الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويها بذكرها وكان عليه السلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس نعي له أخوه قثم- وقيل بنت له- وهو في سفر فاسترجع وقال: عورة سترها الله، ومئونة كفاها الله، واجر ساقه الله. ثم تنحى عن الطريق وصلي ثم أنصرف إلى راحلته وهو يقرأ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية.
وقال قوم: هي الدعاء على عرفها في اللغة فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى: {إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال 45] لان الثبات هو الصبر والذكر هو الدعاء وقول ثالث قال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصوم ومنه قيل لرمضان شهر الصبر فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسبا في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة والله أعلم.
الرابعة: الصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين قال يحيى بن اليمان الصبر ألا تتمنى حالة سوى ما رزقك الله والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك.
وقال الشعبي قال علي رضي الله عنه الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد قال الطبري وصدق علي رضي الله عنه وذلك أن الايمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الايمان بالإطلاق. فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للإنسان الذي لا تمام له إلا به.
الخامسة: وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية وحدا فقال: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} [الانعام 160] وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] الآية. وجعل أجر الصابرين بغير حساب ومدح أهله فقال: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} [الزمر: 10] وقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] وقد قيل: أن المراد بالصابرين في قوله: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} [الزمر: 10] أي الصائمون لقوله تعالى في صحيح السنة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصيام لي وأنا أجزى به» فلم يذكر ثوابا مقدرا كما لم يذكره في الصبر. والله أعلم.
السادسة: من فضل الصبر وصف الله تعالى نفسه به كما في حديث أبي موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ليس أحد أو ليس شيء أصبر على أذى سمعه من الله تعالى إنهم ليدعون له ولدا وإنه ليعافيهم ويرزقهم» أخرجه البخاري. قال علماؤنا: وصف الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم ومعنى وصفه تعالى بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها ووصفه تعالى بالصبر لم يرد في التنزيل وانما ورد في حديث أبي موسى وتأوله أهل السنة على تأويل الحلم قاله ابن فورك وغيره. وجاء في أسمائه الصبور للمبالغة في الحلم عمن عصاه.
السابعة: قوله تعالى: {وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ} اختلف المتأولون في عود الضمير من قوله: {وَإِنَّها}، فقيل: على الصلاة وحدها خاصة لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم والصبر هنا: الصوم فالصلاة فيها سجن النفوس والصوم إنما فيه منع الشهوة فليس من منع شهوة واحدة أو شهوتين كمن منع جميع الشهوات. فالصائم إنما منع شهوة النساء والطعام والشراب ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق فيتسلى بتلك الأشياء عما منع. والمصلى يمتنع من جميع ذلك فجوارحه كلها مقيدة بالصلاة عن جميع الشهوات. وإذا كان ذلك كانت الصلاة أصعب على النفس ومكابدتها أشد فلذلك قال: {وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ} وقيل: عليهما ولكنه كنى عن الأغلب وهو الصلاة كقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] وقوله: {وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها} [الجمعة: 11] فرد الكناية إلى الفضة لأنها الأغلب والأعم وإلى التجارة لأنها الأفضل والاهم وقيل: إن الصبر لما كان داخل في الصلاة أعاد عليها كما قال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ولم يقل: يرضوهما لان رضا الرسول داخل في رضا الله عز وجل ومنه قول الشاعر:
إن شرخ الشباب والشعر الاس *** ود ما لم يعاص كان جنونا
ولم يقل يعاصيا رد إلى الشباب لان الشعر داخل فيه.
وقيل: رد الكناية إلى كل واحد منهما لكن حذف اختصارا قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ولم يقل آيتين ومنه قول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله *** فإني وقيار بها لغريب
وقال آخر:
لكل هم من الهموم سعة *** والصبح والمسي لا فلاح معه
أراد: لغريبان، لا فلاح معهم وقيل: على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة.
وقيل: على المصدر وهى الاستعانة التي يقتضيها قوله: {وَاسْتَعِينُوا} وقيل على إجابة محمد عليه السلام لان الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه وقيل على الكعبة لان الامر بالصلاة أنما هو إليها {وكبيرة} معناه ثقيلة شاقة خبر إن ويجوز في غير القرآن: وانه لكبيرة {إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ} فإنها خفيفة عليهم. قال أرباب المعاني إلا على من أيد في الأزل بخصائص الاجتباء والهدى.
الثامنة: قوله تعالى: {عَلَى الْخاشِعِينَ} الخاشعون جمع خاشع وهو المتواضع. والخشوع: هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع.
وقال قتادة: الخشوع في القلب وهو الخوف وغض البصر في الصلاة قال الزجاج: الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الإقواء هذا هو الأصل قال النابغة:
رماد ككحل العين لأيا أبينه *** ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
ومكان خاشع: لا يهتدى له. وخشعت الأصوات أي سكنت. وخشعت خراشي صدره إذا ألقى بصاقا لزجا. وخشع ببصره إذا غضه. والخشعة: قطعة من الأرض رخوة وفي الحديث: «كانت خشعة على الماء ثم دحيت بعد» وبلدة خاشعة: مغبرة لا منزل بها قال سفيان الثوري سألت الأعمش عن الخشوع فقال يا ثوري أنت تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع! سألت إبراهيم النخعي عن الخشوع فقال: أعيمش! تريد أن تكون إماما للناس ولا تعرف الخشوع! ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس! لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء وتخشع لله في كل فرض أفترض عليك ونظر عمر بن الخطاب إلى شاب قد نكس رأسه فقال يا هذا! ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب.
وقال علي بن أبي طالب: الخشوع في القلب، وأن تلين كفيك للمرء المسلم وألا تلتفت في صلاتك. وسيأتي هذا المعنى مجودا عند قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} [المؤمنون: 1- 2] فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا علو نفاق قال سهل بن عبد الله لا يكون خاشعا حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23].
قلت: هذا هو الخشوع المحمود لان الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه فتراه مطرقا متأدبا متذللا وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليروا بعين البر والإجلال وذلك خدع من الشيطان وتسويل من نفس الإنسان. روى الحسن أن رجلا تنفس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر أو قال لكمه. وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلم أسمع وإذا مشى أسرع وإذا ضرب أوجع وكان ناسكا صدقا وخاشعا حقا وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال الخاشعون هم المؤمنون حقا.

{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} {الذين} في موضع خفض على النعت للخاشعين، ويجوز الرفع على القطع. والظن هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ} [الحاقة: 20] وقوله: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها} [الكهف: 53]. قال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج *** سراتهم في الفارسي المسرد
وقال أبو داود:
رب هم فرجته بغريم *** وغيوب كشفتها بظنون
وقد قيل: إن الظن في الآية يصح أن يكون على بابه ويضمر في الكلام بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين ذكر المهدوي والماوردي قال ابن عطية: وهذا تعسف. وزعم الفراء أن الظن قد يقع بمعنى الكذب ولا يعرف ذلك البصريون. واصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه وقد يوقع موقع اليقين كما في هذه الآية وغيرها لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس لا تقول العرب في رجل مرئي حاضر أظن هذا إنسانا وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس بمعنى كهذه الآية والشعر وكقوله تعالى: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها} وقد يجئ اليقين بمعنى الظن وقد تقدم بيانه أول السورة وتقول سؤت به ظنا وأسأت به الظن يدخلون الألف إذا جاءوا بالألف واللام. ومعنى: {مُلاقُوا رَبِّهِمْ} جزاء ربهم.
وقيل: جاء على المفاعلة وهو من واحد، مثل عافاه الله. {وَأَنَّهُمْ} بفتح الهمزة عطف على الأول ويجوز وإنهم بكسرها على القطع. {إِلَيْهِ} أي إلى ربهم وقيل إلى جزائه. {راجِعُونَ} إقرار بالبعث والجزاء والعرض على الملك الأعلى.

************


{يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)}
قوله تعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} تقدم و{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} يريد على عالمي زمانهم، وأهل كل زمان عالم.
وقيل: على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء وهذا خاصة لهم وليست لغيرهم.

{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} أمر معناه الوعيد وقد مضى الكلام في التقوى. {يَوْماً} يريد عذابه وهوله وهو يوم القيامة. وانتصب على المفعول بـ {اتَّقُوا} ويجوز في غير القرآن يوم لا تجزى على الإضافة. وفى الكلام حذف بين النحويين فيه اختلاف. قال البصريون: التقدير يوما لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا ثم حذف فيه كما قال:
يوما شهدناه سليما وعامرا ***
أي شهدنا فيه وقال الكسائي هذا خطأ لا يجوز حذف فيه ولكن التقدير واتقوا يوما لا تجزيه نفس ثم حذف الهاء وإنما يجوز حذف الهاء لان الظروف عنده لا يجوز حذفها قال لا يجوز أن تقول هذا رجلا قصدت ولا رأيت رجلا أرغب وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه قال ولو جاز ذلك لجاز الذي تكلمت زيد بمعنى تكلمت فيه زيد.
وقال الفراء يجوز أن تحذف الهاء وفيه وحكى المهدوي أن الوجهين جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج ومعنى: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً}: أي لا تؤاخذ نفس بذنب أخرى ولا تدفع عنها شيئا تقول جزى عني هذا الامر يجزي كما تقول قضى عني واجتزأت بالشيء اجتزاء إذا اكتفيت به قال الشاعر:
فإن الغدر في الأقوام عار *** وأن الحر يجزأ بالكراع
أي يكتفي بها.
وفي حديث عمر: «إذا أجريت الماء على الماء جزى عنك» يريد إذا صببت الماء على البول في الأرض فجرى عليه طهر المكان ولا حاجة بك إلى غسل ذلك الموضع وتنشيف الماء بخرقة أو غيرها كما يفعل كثير من الناس وفي صحيح الحديث عن أبي بردة بن نيار في الأضحية: «لن تجزي عن أحد بعدك» أي لن تغني فمعنى لا تجزي: لا تقضي ولا تغني ولا تكفي إن لم يكن عليها شيء فإن كان فإنها تجزي وتقضي وتغني بغير اختيارها من حسناتها ما عليها من الحقوق كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه». خرجه البخاري. ومثله حديثه الآخر في المفلس وقد ذكرناه في التذكرة خرجه مسلم. وقرئ {تجزئ} بضم التاء والهمز. ويقال: جزى وأجزى بمعنى واحد. وقد فرق بينهما قوم فقالوا جزى بمعنى قضى وكافأ وأجزى بمعنى أغنى وكفى أجزأني الشيء يجزئني أي كفاني قال الشاعر:
وأجزأت أمر العالمين ولم يكن *** ليجزئ إلا كامل وابن كامل
الثالثة- قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ} الشفاعة مأخوذة من الشفع وهما الاثنان تقول كان وترا فشفعته شفعا والشفعة منه لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك. والشفيع صاحب الشفعة وصاحب الشفاعة وناقة شافع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها تقول منه: شفعت الناقة شفعا وناقة شفوع وهي التي تجمع بين محلبين في حلبة واحدة. واستشفعته إلى فلان: سألته أن يشفع لي إليه. وتشفعت إليه في فلان فشفعني فيه فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال منفعته للمشفوع.
الرابعة: مذهب أهل الحق أن الشفاعة حق وأنكرها المعتزلة وخلدوا المؤمنين من المذنبين الذين دخلوا النار في العذاب. والاخبار متظاهرة بأن من كان من العصاة المذنبين الموحدين من أمم النبيين هم الذين تنالهم شفاعة الشافعين من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين. وقد تمسك القاضي عليهم في الرد بشيئين أحدهما الاخبار الكثيرة التي تواترت في المعنى. والثاني الإجماع من السلف على تلقي هذه الاخبار بالقبول ولم يبد من أحد منهم في عصر من الاعصار نكير فظهور روايتها وإطباقهم على صحتها وقبولهم لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل الحق وفساد دين المعتزلة فإن قالوا قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب رد هذه الاخبار مثل قوله: {ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ} [غافر: 18]. قالوا: وأصحاب الكبائر ظالمون. وقال: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] {وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ} [البقرة: 48] قلنا ليست هذه الآيات عامة في كل ظالم والعموم لا صيغة له فلا تعم هذه الآيات كل من يعمل سوءا وكل نفس وإنما المراد بها الكافرون دون المؤمنين بدليل الاخبار الواردة في ذلك وأيضا فان الله تعالى أثبت شفاعة لأقوام ونفاها عن أقوام فقال في صفة الكافرين {فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] وقال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى} [الأنبياء: 28] وقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]. فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ} النفس الكافرة لا كل نفس. ونحن وإن قلنا بعموم العذاب لكل ظالم عاص فلا نقول إنهم مخلدون فيها بدليل الاخبار التي رويناها وبدليل قوله: {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} [النساء: 48] وقوله: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} [يوسف: 87]. فإن قالوا: فقد قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى} والفاسق غير مرتضى قلنا لم يقل لمن لا يرضى وإنما قال: {لِمَنِ ارْتَضى} ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحدون بدليل قوله: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} [مريم 87]. وقيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما عهد الله مع خلقه قال: «أن يؤمنوا ولا يشركوا به شيئا».
وقال المفسرون: إلا من قال لا إله إلا الله. فإن قالوا المرتضى هو التائب الذي اتخذ عند الله عهدا بالإنابة إليه بدليل أن الملائكة استغفروا لهم وقال: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] وكذلك شفاعة الأنبياء عليهم السلام إنما هي لأهل التوبة دون أهل الكبائر قلنا: عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة فإذا قبل الله توبة المذنب فلا يحتاج إلى الشفاعة ولا إلى الاستغفار. وأجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا} أي من الشرك {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أي سبيل المؤمنين. سألوا الله تعالى أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم كما قال تعالى: {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} [النساء: 48] فإن قالوا جميع الامة يرغبون في شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلو كانت لأهل الكبائر خاصة بطل سؤالهم. قلنا: إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول ويرغب إلى الله في أن تناله لاعتقاده أنه غير سالم من الذنوب ولا قاسم لله سبحانه بكل ما افترض عليه بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا ينجو أحد إلا برحمة الله تعالى فقيل ولا أنت يا رسول الله؟ فقال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» الخامسة: قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو {تقبل} بالتاء لان الشفاعة مؤنثة. وقرأ الباقون بالياء على التذكير لأنها بمعنى الشفيع.
وقال الأخفش: حسن التذكير لأنك قد فرقت كما تقدم في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ} [البقرة: 37].
السادسة: قوله تعالى: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ} أي فداء والعدل بفتح العين الفداء وبكسرها المثل يقال عدل وعديل للذي يماثلك في الوزن والقدر ويقال عدل الشيء هو الذي يساويه قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه والعدل بالكسر هو الذي يساوي الشيء من جنسه وفى جرمه وحكى الطبري: أن من العرب من يكسر العين من معنى الفدية فأما واحد الأعدال فبالكسر لا غير قوله تعالى: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي يعانون. والنصر العون والأنصار الأعوان ومنه قوله: {مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] أي من يضم نصرته إلى نصرتي وأنتصر الرجل: أنتقم والنصر: الإتيان يقال: نصرت أرض بني فلان أتيتها قال الشاعر:
إذا دخل الشهر الحرام فودعي *** بلاد تميم وانصري أرض عامر
والنصر المطر يقال نصرت الأرض مطرت والنصر العطاء قال:
إني وأسطار سطرن سطرا *** لقائل يا نصر نصرا نصرا
وكان سبب هذه الآية فيما ذكروا أن بني إسرائيل قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه وأبناء أنبيائه وسيشفع لنا آباؤنا فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تقبل قيه الشفاعات ولا يؤخذ فيه فدية. وإنما خص الشفاعة والفدية والنصر بالذكر لأنها هي المعاني التي اعتادها بنو آدم في الدنيا فان الواقع في الشدة لا يتخلص إلا بأن يشفع له أو ينصر أو يفتدي.

{وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}
فيه ثلاث عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} إذ في موضع نصب عطف على {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ}. وهذا وما بعده تذكير ببعض النعم التي كانت له عليهم أي اذكروا نعمتي بإنجائكم من عدوكم وجعل الأنبياء فيكم والخطاب للموجودين والمراد من سلف من الآباء كما قال: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} [الحاقة: 11] أي حملنا آباءكم وقيل إنما قال: {نَجَّيْناكُمْ} لان نجاة الآباء كانت سببا لنجاة هؤلاء الموجودين ومعنى: {نَجَّيْناكُمْ} ألقيناكم على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها هذا هو الأصل ثم سمى كل فائز ناجيا. فالناجي من خرج من ضيق إلى سعة وقرئ {وإذ نجيتكم} على التوحيد.
الثانية: قوله تعالى: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} {آل فرعون} قومه وأتباعه وأهل دينه. وكذلك آل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هو على دينه وملته في عصره وسائر الاعصار سواء كان نسيبا له أو لم يكن. ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه خلافا للرافضة حيث قالت إن آل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاطمة والحسن والحسين فقط. دليلنا قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 50] {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} [غافر: 46] أي آل دينه إذ لم يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عم ولا أخ ولا عصبة. ولأنه لا خوف أن من ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريبا له ولأجل هذا يقال إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ولا من أهله وإن كان بينهما وبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرابة ولأجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ} [هود: 46].
وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهارا غير سر يقول: «ألا إن آل أبي- يعني فلانا ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين» وقالت طائفة آل محمد أزواجه وذريته خاصة لحديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» رواه مسلم وقالت طائفة من أهل العلم الأهل معلوم والآل الاتباع والأول أصح لما ذكرناه ولحديث عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهم صل عليهم» فأتاه أبي بصدقته فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى».
الثالثة: اختلف النحاة هل يضاف الآل إلى البلدان أو لا؟ فقال الكسائي إنما يقال آل فلان وآل فلانة ولا يقال في البلدان هو من آل حمص ولا من آل المدينة. قال الأخفش إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة. قال وقد سمعناه في البلدان قالوا: أهل المدينة وآل المدينة.
الرابعة: واختلف النحاة أيضا هل يضاف الآل إلى المضمر أو لا؟ فمنع من ذلك النحاس والزبيدي والكسائي فلا يقال إلا اللهم صل على محمد وآل محمد ولا يقال وآله والصواب أن يقال: أهله. وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك يقال منهم ابن السيد وهو الصواب لان السماع الصحيح يعضده فإنه قد جاء في قول عبد المطلب:
لاهمّ إن العبد يمن *** ع رحله فامنع حلالك
وانصر على آل الصلي *** ب وعابديه اليوم آلك
وقال ندبة:
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي *** وآلي كما تحمي حقيقة آلكا
الحقيقة بقافين: ما يحق على الإنسان أن يحميه أي تجب عليه حمايته.
الخامسة: واختلفوا أيضا في أصل آل فقال النحاس أصله أهل ثم أبدل من الهاء ألفا فإن صغرته رددته إلى أصله فقلت: أهيل.
وقال المهدوي: أصله أول.
وقيل: أهل قلبت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفا. وجمعه آلون وتصغيره أويل فيما حكى الكسائي.
وحكى غيره أهيل وقد ذكرناه عن النحاس.
وقال أبو الحسن بن كيسان: إذا جمعت ألا قلت آلون فإن جمعت آلا الذي هو السراب قلت آوال مثل مال وأموال.
السادسة: قوله تعالى: {فِرْعَوْنَ} {فرعون} قيل إنه اسم ذلك الملك بعينه. وقيل اسم كل ملك من ملوك العمالقة مثل كسرى للفرس وقيصر للروم والنجاشي للحبشة وأن اسم فرعون موسى قابوس في قول أهل الكتاب.
وقال وهب أسمه الوليد بن مصعب بن الريان ويكنى أبا مرة وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. قال السهيلي وكل من ولى القبط ومصر فهو فرعون. وكان فارسيا من أهل إصطخر. قال المسعودي لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية. قال الجوهري: فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر وكل عات فرعون والعتاة الفراعنة وقد تفر عن وهو ذو فرعنة أي دهاء ونكر. وفى الحديث: «أخذنا فرعون هذه الامة». {وفرعون} في موضع خفض إلا أنه لا ينصرف لعجمته السابعة: قوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ} قيل: معناه يذيقونكم ويلزمونكم إياه.
وقال أبو عبيدة: يولونكم يقال: سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ومنه قول عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا *** أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل: يديمون تعذيبكم. والسوم: الدوام ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي. قال الأخفش: وهو في موضع رفع على الابتداء وإن شئت كان في موضع نصب غلى الحال أي سائمين لكم.
الثامنة: قوله تعالى: {سُوءَ الْعَذابِ} مفعول ثان ل {يَسُومُونَكُمْ} ومعناه أشد العذاب. ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب. وقد يجوز أن يكون نعتا بمعنى سوما سيئا. فروى أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا وصنفهم في أعماله فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يتخدمون وكان قومه جندا ملوكا ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال ضربت عليه الجزية فذلك سوء العذاب التاسعة: قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ}... {يُذَبِّحُونَ} بغير واو على البدل من قوله: {يَسُومُونَكُمْ} كما قال أنشده سيبويه:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا *** تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
قال الفراء وغيره {يُذَبِّحُونَ} بغير واو على التفسير لقوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ} [البقرة: 49] كما تقول أتاني القوم زيد وعمرو فلا تحتاج إلى الواو في زيد ونظيره: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ} [الفرقان: 68- 69] وفي سورة إبراهيم {وَيُذَبِّحُونَ} بالواو لان المعنى يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح فقوله: {وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ} جنس آخر من العذاب لا تفسير لما قبله. والله أعلم.
قلت: قد يحتمل أن يقال: إن الواو زائدة بدليل سورة البقرة والواو قد تزاد كما قال:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ***
أي قد انتحى وقال آخر:
إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة وهو كثير العاشرة: قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ} قراءة الجماعة بالتشديد على التكثير وقرأ ابن محيضن {يذبحون} بفتح الباء. والذبح: الشق. والذبح: المذبوح. والذباح: تشقق في أصول الأصابع وذبحت الدن بزلته أي كشفته وسعد الذابح: أحد السعود. والمذابح: المحاريب. والمذابح: جمع مذبح وهو إذا جاء السيل فخد في الأرض فما كان كالشبر ونحوه سمي مذبحا فكان فرعون يذبح الأطفال ويبقي البنات وعبر عنهم باسم النساء بالمال وقالت طائفة {يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ} يعني الرجال وسموا أبناء لما كانوا كذلك واستدل هذا القائل بقوله: {نِساءَكُمْ} والأول أصح لأنه الأظهر والله أعلم.
الحادية عشرة: نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله. قال الطبري ويقتضي أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به.
قلت: وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال يقتلان جميعا هذا بأمره والمأمور بمباشرته هكذا قال النخعي وقاله الشافعي ومالك في تفصيل لهما قال الشافعي: إذا أمر السلطان رجلا بقتل رجل والمأمور يعلم أنه أمر بقتله ظلما كان عليه وعلى الامام القود كقاتلين معا وإن أكرهه الامام عليه وعلم أنه يقتله ظلما كان على الامام القود وفى المأمور قولان أحدهما أن عليه القود والآخر لا قود عليه وعليه نصف الدية حكاه ابن المنذر وقال علماؤنا لا يخلو المأمور أن يكون ممن تلزمه طاعة الآمر ويخاف شره كالسلطان والسيد لعبده فالقود في ذلك لازم لهما أو يكون ممن لا يلزمه ذلك فيقتل المباشر وحده دون الآمر وذلك كالأب يأمر ولده أو المعلم بعض صبيانه أو الصانع بعض متعلميه إذا كان محتلما فان كان غير محتلم فالقتل على الآمر وعلى عاقلة الصبي نصف الدية وقال ابن نافع: لا يقتل السيد إذا أمر عبده وإن كان أعجميا بقتل إنسان قال ابن حبيب وبقول ابن القاسم أقول إن القتل عليهما فأما أمر من لا خوف على المأمور في مخالفته فإنه لا يلحق بالإكراه بل يقتل المأمور دون الآمر ويضرب الآمر ويحبس.
وقال أحمد في السيد يأمر عبده أن يقتل رجلا: يقتل السيد. وروي هذا القول عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهما.
وقال علي ويستودع العبد السجن.
وقال أحمد ويحبس العبد ويضرب ويؤدب وقال الثوري يعزر السيد وقال الحكم وحماد يقتل العبد وقال قتادة: يقتلان جميعا.
وقال الشافعي إن كان العبد فصيحا يعقل قتل العبد وعوقب السيد وإن كان العبد أعجميا فعلى السيد القود وقال سليمان بن موسى لا يقتل الآمر ولكن تقطع يديه ثم يعاقب ويحبس وهو القول الثاني ويقتل المأمور للمباشرة. كذلك قال عطاء والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق في الرجل يأمر الرجل بقتل الرجل وذكره ابن المنذر وقال زفر لا يقتل واحد منهما وهو القول الثالث حكاه أبو المعالي في البرهان وراي أن الآمر والمباشر ليس كل واحد منهما مستقلا في القود فلذلك لا يقتل واحد منهما عنده والله أعلم الثانية عشرة: قرأ الجمهور {يُذَبِّحُونَ} بالتشديد على المبالغة وقرأ ابن محيصن {يذبحون} بالتخفيف والأولى أرجح إذ الذبح متكرر وكان فرعون على ما روي قد رأى في منامه نارا خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر فأولت له رؤياه أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ فيكون خراب ملكه على يديه وقيل غير هذا والمعنى متقارب.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَفِي ذلِكُمْ} إشارة إلى جملة الامر إذ هو خبر فهو كمنفرد حاضر أي وفي فعلهم ذلك بكم بلاء أي امتحان واختبار و{بلاء} نعمة ومنه قوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} [الأنفال: 17] قال أبو الهيثم البلاء يكون حسنا ويكون سيئا وأصله المحنة والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره فقيل للحسن بلاء وللسيئ بلاء حكاه الهروي وقال قوم الإشارة ب {ذلِكُمْ} إلى التنجية فيكون البلاء على هذا في الخير أي تنجيتكم نعمة من الله عليكم وقال الجمهور: الإشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء هنا في الشر والمعنى: وفى الذبح مكروه و- امتحان.
وقال ابن كيسان ويقال في الخير أبلاه الله وبلاه وأنشد:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم *** وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
فجمع بين اللغتين والأكثر في الخير أبليته وفي الشر بلوته وفى الاختبار ابتليته وبلوته قاله النحاس.

يتبع........


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 4:21 pm
المشاركة رقم: #12
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}
قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ} إذ في موضع نصب و{فرقنا} فلقنا فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي الجبل العظيم. واصل الفرق الفصل ومنه فرق الشعر ومنه الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل أي يفصل ومنه: {فَالْفارِقاتِ فَرْقاً} [المرسلات: 4] يعني الملائكة تنزل بالفرق بين الحق والباطل ومنه: {يَوْمَ الْفُرْقانِ} [الأنفال: 41] يعني يوم بدر كان فيه فرق بين الحق والباطل ومنه: {وَقُرْآناً فَرَقْناهُ} [الإسراء: 106] أي فصلناه وأحكمناه وقرأ الزهري: {فرقنا} بتشديد الراء أي جعلناه فرقا ومعنى: {بِكُمُ} أي لكم فالباء بمعنى اللام وقيل الباء في مكانها أي فرقنا البحر بدخولكم إياه أي صاروا بين الماءين فصار الفرق بهم وهذا أولى يبينه {فَانْفَلَقَ}.
قوله تعالى: {الْبَحْرَ} البحر معروف سمي بذلك لاتساعه. ويقال: فرس بحر إذا كان واسع الجري أي كثيره. ومن ذلك قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مندوب فرس أبى طلحة: «وإن وجدناه لبحرا» والبحر: الماء الملح. ويقال: أبحر الماء: ملح قال نصيب:
وقد عاد ماء الأرض بحرا فزادني *** إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب
والبحر: البلدة يقال: هذه بحرتنا أي بلدتنا. قاله الأموي. والبحر: السلال يصيب الإنسان. ويقولون: لقيته صحرة بحرة أي بارزا مكشوفا. وفي الخبر عن كعب الأحبار قال: إن لله ملكا يقال له: صندفاييل البحار كلها في نقرة إبهامه. ذكره أبو نعيم عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن كعب قوله تعالى: {فَأَنْجَيْناكُمْ} أي أخرجناكم منه يقال نجوت من كذا نجاء ممدود ونجاة مقصور والصدق منجاة وأنجيت غيري ونجيته وقرى بهما {وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ}... {فَأَنْجَيْناكُمْ}.
قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ} يقال: غرق في الماء غرقا فهو غرق وغارق أيضا ومنه قول أبي النجم:
من بين مقتول وطاف غارق ***
وأغرقه غيره وغرقه فهو مغرق وغريق. ولجام مغرق بالفضة أي محلى. والتغريق: القتل قال الأعشى:
ألا ليت قيسا عرقته القوابل ***
وذلك أن القابلة كانت تغرق المولود في ماء السلى عام القحط ذكرا كان أو أنثى حتى يموت ثم جعل كل قتل تغريقا ومنه قول ذي الرمة:
إذا غرقت أرباضها ثنى بكرة *** بتيهاء لم تصبح رءوما سلوبها
والارباض: الحبال. والبكرة: الناقة الفتية وثنيها: بطنها الثاني وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب.
القول في اختلاف العلماء في كيفية إنجاء بني إسرائيل:
فذكر الطبري أن موسى عليه السلام أوحى إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط وأحل الله ذلك لبني إسرائيل فسرى بهم موسى من أول الليل فأعلم فرعون فقال: لا يتبعهم أحد حتى تصيح الديكة فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك وأمات الله تلك الليلة كثيرا من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الاتباع مشرقين كما قال تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60]. وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه. وكانت عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف.
وقيل: إن فرعون اتبعه في ألف ألف حصان سوى الإناث وقيل دخل إسرائيل- وهو يعقوب عليه السلام مصر في ستة وسبعين نفسا من ولده وولد ولده فأنمي الله عددهم وبارك في ذريته حتى خرجوا إلى البحر يوم فرعون وهم ستمائة ألف من المقاتلة سوى الشيوخ والذرية والنساء وذكر أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة قال حدثنا شبابة بن سوار عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى إسرائيل بلغ فرعون فأمر بشاة فذبحت ثم قال: لا والله لا يفرغ من سلخها حتى تجتمع لي ستمائة ألف من القبط قال: فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر فقال له أفرق فقال له البحر: لقد استكبرت يا موسى! وهل فرقت لاحد من ولد آدم فأفرق لك! قال: ومع موسى رجل على حصان له قال فقال له ذلك الرجل أين أمرت يا نبي الله؟ قال ما أمر ت إلا بهذا الوجه قال: فأقحم فرسه فسبح فخرج. فقال أين أمرت يا نبي الله؟ قال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال: والله ما كذبت ولا كذبت ثم أقتحم الثانية فسبح به حتى خرج فقال أين أمرت يا نبي الله؟ فقال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال: والله ما كذبت ولا كذبت قال فأوحى الله إليه {أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ} [الأعراف 160] فضربه موسى بعصاه {فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء 63] فكان فيه اثنا عشر فرقا لاثني عشر سبطا لكل سبط طريق يتراءون وذلك أن أطواد الماء صار فيها طيقانا وشبابيك يرى منها بعضهم بعضا فلما خرج أصحاب موسى وقام أصحاب فرعون التطم البحر عليهم فأغرقهم ويذكر أن البحر هو بحر القلزم وأن الرجل الذي كان مع موسى على الفرس هو فتاه يوشع بن نون. وأن الله تعالى أوحى إلى البحر أن انفرق لموسى إذا ضربك فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب البحر وكناه أبا خالد. ذكره ابن أبي شيبة أيضا. وقد أكثر المفسرون في قصص هذا المعنى وما ذكرناه كاف وسيأتي في سورة يونس والشعراء زيادة بيان إن شاء الله تعالى فصل ذكر الله تعالى الإنجاء والإغراق ولم يذكر اليوم الذي كان ذلك فيه فروى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما هذا اليوم الذي تصومونه» فقالوا هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم» فصامه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمر بصيامه. وأخرجه البخاري أيضا عن أبن عباس وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه: «أنتم أحق بموسى منهم فصوموا».
مسألة في صوم يوم عاشوراء:
ظاهر هذه الأحاديث تدل على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما صام عاشوراء وأمر بصيامه اقتداء بموسى عليه السلام على ما أخبر به اليهود وليس كذلك لما روته عائشة رضي الله عنها قالت كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه أخرجه البخاري ومسلم.
فإن قيل يحتمل أن تكون قريش إنما صامتة بإخبار اليهود لها لأنهم كانوا يسمعون منهم لأنهم كانوا عندهم أهل علم فصامه النبي عليه السلام كذلك في الجاهلية أي بمكة فلما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه قال: «نحن أحق وأولى بموسى منكم» فصامه اتباعا لموسى وأمر بصيامه أي أوجبه وأكد أمره حتى كانوا يصومونه الصغار. قلنا: هذه شبهة من قال إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعله كان متعبدا بشريعة موسى وليس كذلك على ما يأتي بيانه في الأنعام عند قول تعالى: {فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
مسألة: اختلف في يوم عاشوراء هل هو التاسع من المحرم أو العاشر؟
فذهب الشافعي إلى أنه التاسع لحديث الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء فقال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما.
قلت: هكذا كان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصومه؟ قال نعم خرجه مسلم. وذهب سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وجماعة من السلف إلى أنه العاشر. وذكر الترمذي حديث الحكم ولم يصفه بصحة ولا حسن ثم أردفه: أنبأنا قتيبة أنبأنا عبد الوارث عن يونس عن الحسن عن ابن عباس قال أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصوم عاشوراء يوم العاشر. قال أبو عيسى: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح. قال الترمذي: وروي عن ابن عباس أنه قال: صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود. وبهذا الحديث يقول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق. قال غيره وقول ابن عباس للسائل: فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما ليس فيه دليل على ترك صوم العاشر بل وعد أن يصوم التاسع مضافا إلى العاشر. قالوا: فصيام اليومين جمع بين الأحاديث. وقول ابن عباس للحكم لما قال له: هكذا كان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصومه؟ قال نعم معناه أن لو عاش وإلا فما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صام التاسع قط. يبينه ما خرجه ابن ماجه في سننه ومسلم في صحيحه عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع».
فضيلة:
- روى أبو قتادة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» أخرجه مسلم والترمذي وقال لا نعلم في شيء من الروايات أنه قال: «صيام يوم عاشوراء كفارة سنة» إلا في حديث أبي قتادة.
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} جملة في موضع الحال ومعناه بأبصاركم فيقال إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم يغرقون وإلى أنفسهم ينجون ففي هذا أعظم المنة وقد قيل إنهم أخرجوا لهم حتى رأوهم فهذه منة بعد منة وقيل المعنى: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} أي ببصائركم الاعتبار لأنهم كانوا في شغل عن الوقوف والنظر بالأبصار وقيل المعنى وأنتم بحال من ينظر لو نظر كما تقول هذا الامر منك بمرأى ومسمع أي بحال تراه وتسمعه إن شئت. وهذا القول والأول أشبه بأحوال بني إسرائيل لتوالي عدم الاعتبار فيما صدر من بني إسرائيل بعد خروجهم من البحر وذلك أن الله تعالى لما أنجاهم وغرق عدوهم قالوا يا موسى إن قلوبنا لا تطمئن إن فرعون قد غرق! حتى أمر الله البحر فلفظه فنظروا إليه. ذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن قيس بن عباد أن بني إسرائيل قالت: ما مات فرعون وما كان ليموت أبدا! قال فلما أن سمع الله تكذيبهم نبيه عليه السلام رمى به على ساحل البحر كأنه ثور أحمر يتراءاه بنو إسرائيل فلما اطمأنوا وبعثوا من طريق البر إلى مدائن فرعون حتى نقلوا كنوزه وغرقوا في النعمة رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حتى زجرهم موسى وقال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين أي عالمي زمانه. ثم أمرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة التي كانت مساكن آبائهم ويتطهروا من أرض فرعون. وكانت الأرض المقدسة في أيدي الجبارين قد غلبوا عليها فاحتاجوا إلى دفعهم عنها بالقتال فقالوا أتريد أن تجعلنا لحمة للجبارين! فلو أنك تركتنا في يد فرعون كان خيرا لنا قال: {يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] إلى قوله: {قاعِدُونَ} حتى دعا عليهم وسماهم فاسقين فبقوا في التيه أربعين سنة عقوبة ثم رحمهم فمن عليهم بالسلوى وبالغمام على ما يأتي بيانه ثم سار موسى إلى طور سيناء ليجيئهم بالتوراة فاتخذوا العجل- على ما يأتي بيانه- ثم قيل لهم: قد وصلتم إلى بيت المقدس ف ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ على ما يأتي وكان موسى عليه السلام شديد الحياء ستيرا فقالوا: إنه آدر. فلما أغتسل وضع على الحجر ثوبه فعدا الحجر بثوبه إلى مجالس بني إسرائيل وموسى على أثره عريان وهو يقول يا حجر ثوبي! فذلك قول تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا} [الأحزاب: 69] على ما يأتي بيانه ثم لما مات هارون قالوا له: أنت قتلت هارون وحسدته حتى نزلت الملائكة بسريره وهارون ميت عليه- وسيأتي في المائدة- ثم سألوه أن يعلموا أية في قبول قربانهم فجعلت نار تجئ من السماء فتقبل قربانهم ثم سألوه أن بين لنا كفارات ذنوبنا في الدنيا فكان من أذنب ذنبا أصبح على بابه مكتوب: «عملت كذا وكفارته قطع عضو من أعضائك» يسميه له ومن أصابه بول لم يطهر حتى يقرضه ويزيل جلدته من بدنه ثم بدلوا التوراة وافتروا على الله وكتبوا بأيديهم واشتروا به عرضا ثم صار أمرهم إلى أن قتلوا أنبياءهم ورسلهم. فهذه معاملتهم مع ربهم وسيرتهم في دينهم وسوء أخلاقهم. وسيأتي بيان كل فصل من هذه الفصول مستوفى في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال الطبري: وفي أخبار القرآن على لسان محمد عليه السلام بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب ولا وقعت إلا في حق بني إسرائيل دليل واضح عند بني إسرائيل قائم عليهم بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

{وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} قرأ أبو عمرو {وعدنا} بغير ألف، واختاره أبو عبيد ورجحه وأنكر {واعَدْنا} قال: لان المواعدة إنما تكون من البشر فأما الله عز وجل فإنما هو المنفرد بالوعد والوعيد. على هذا وجدنا القرآن، كقوله عز وجل: {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} [الفتح: 29] وقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ} [الأنفال: 7]. قال مكي: وأيضا فإن ظاهر اللفظ فيه وعد من الله تعالى لموسى، وليس فيه وعد من موسى، فوجب حمله على الواحد، لظاهر النص أن الفعل مضاف إلى الله تعالى وحده، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمر، وبه قرأ قتادة وابن أبي إسحاق. قال أبو حاتم: قراءة العامة عندنا {وعدنا} بغير ألف، لأن المواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين، كل واحد منهما يعد صاحبه. قال الجوهري: الميعاد: المواعدة والوقت والموضع. قال مكي: المواعدة أصلها من اثنين، وقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب، قالوا: طارقت النعل، وداويت العليل، وعاقبت اللص، والفعل من واحد. فيكون لفظ المواعدة من الله خاصة لموسى كمعنى وعدنا، فتكون القراءتان بمعنى واحد. والاختبار {واعَدْنا} بالألف لأنه بمعنى وعدنا في أحد معنييه، ولأنه لأبد لموسى من وعد أو قبول يقوم مقام الوعد فتصح المفاعلة. قال النحاس: وقراءة {واعَدْنا} بالألف أجود وأحسن، وهي قراءة مجاهد والأعرج وابن كثير ونافع والأعمش وحمزة والكسائي، وليس قوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} من هذا في شي، لآن {واعَدْنا مُوسى} إنما هو من باب الموافاة، وليس هذا من الوعد والوعيد في شي، وإنما هو من قولك: موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا. والفصيح في هذا أن يقال: واعدته. قال أبو إسحاق الزجاج: {واعَدْنا} هاهنا بالألف جيد، لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فمن الله عز وجل وعد، ومن موسى قبول واتباع يجري مجرى المواعدة. قال ابن عطية. ورجح أبو عبيدة وعدنا وليس بصحيح، لأن قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة.
الثانية: قوله تعالى: {مُوسى} موسى اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف. والقبط على- ما يروي- يقولون للماء: مو، وللشجر: شا. فلما وجد موسى في التابوت عند ماء وشجر سمى موسى. قال السدي: لما خافت عليه أمه جعلته في التابوت وألقته في اليم- كما أوحى الله إليها- فألقته في اليم بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه، فسمي باسم المكان. وذكر النقاش وغيره: أن اسم الذي التقطته صابوث. قال ابن إسحاق: وموسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث ابن لاوى بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
الثالثة: قوله تعالى: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أربعين نصب على المفعول الثاني، وفي الكلام حذف قال الأخفش: التقدير وإذ واعدنا موسى تمام أربعين ليلة كما قال: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} والأربعون كلها داخلة في الميعاد. والأربعون في قول أكثر المفسرين ذو القعدة وعشرة من ذي الحجة وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وسأل قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله فخرج إلى الطور في سبعين من خيار بني إسرائيل وصعدوا الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة فعدوا فيما ذكر المفسرين عشرين يوما وعشرين ليلة وقالوا قد أخلفنا موعده. فاتخذوا العجل وقال لهم السامري: هذا إلهكم واله موسى فاطمأنوا إلى قوله ونهاهم هارون وقال: {يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي. قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى} [طه: 90]. فلم يتبع هارون ولم يطعه في ترك عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فيما روي في الخبر. وتهافت في عبادته سائرهم وهم أكثر من ألفي ألف فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال ألقى الألواح فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد وهو الحلال والحرام وما يحتاجون وأحرق العجل وذراه في البحر فشربوا من مائه حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرة وورمت بطونهم فتابوا ولم تقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم فذلك قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] فقاموا بالخناجر والسيوف بعضهم إلى بعض من لدن طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى فقتل بعضهم بعضا لا يسأل والد عن ولده ولا ولد عن والده ولا أخ عن أخيه ولا أحد عن أحد كل من أستقبله ضربه بالسيف وضربه الآخر بمثله حتى عج موسى إلى الله صارخا: يا رباه قد فنيت بنو إسرائيل! فرحمهم الله وجاد عليهم بفضله فقبل توبة من بقي وجعل من قتل في الشهداء على ما يأتي.
الرابعة: إن قيل لم خص الليالي بالذكر دون الأيام؟ قيل له: لان الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة ولذلك وقع بها التاريخ فالليالي أول الشهور والأيام تبع لها.
الخامسة: قال النقاش: في هذه الآية إشارة إلى صلة الصوم لأنه تعالى لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين يوما بلياليها. قال ابن عطية: سمعت أبي يقول: سمعت الشيخ الزاهد الامام الواعظ أبا الفضل الجوهري رحمه الله يعظ الناس في الخلوة بالله والدنو منه في الصلاة ونحوه وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول أين حال موسى في القرب من الله! ووصال ثمانين من الدهر من قول حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم {آتِنا غَداءَنا} [الكهف: 62].
قلت: وبهذا أستدل علماء الصوفية على الوصال وأن أفضله أربعون يوما. وسيأتي الكلام في الوصال في أي الصيام من هذه السورة إن شاء الله تعالى. ويأتي في الأعراف زيادة أحكام لهذه الآية عند قوله تعالى: {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] ويأتي لقصة العجل ببان في كيفيته وخوارة وفي طه إن شاء الله تعالى.
السادسة: قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} أي اتخذتموه إلها من بعد موسى. وأصل اتخذتم ائتخذتم من الأخذ ووزنه افتعلتم سهلت الهمزة الثانية لامتناع همزتين فجاء إيتخذتم فاضطربت الياء في التصريف جاءت ألفا في ياتخذ وواوا في موتخذ فبدلت بحرف جلد ثابت من جنس ما بعدها وهي التاء وأدغمت ثم أجلبت ألف الوصل للنطق وقد يستغنى عنها إذا كان معنى الكلام التقرير كقوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} [البقرة: 80] فاستغنى عن ألف الوصل بألف التقرير قال الشاعر:
استحدث الركب عن أشياعهم خبرا *** أم راجع القلب من أطرابه طرب
ونحوه في القرآن {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} [مريم: 78] {أَصْطَفَى الْبَناتِ} [الصافات: 153] {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ} [ص: 75]. ومذهب أبي علي الفارسي أن {اتَّخَذْتُمُ} من تخذلا من أخذ. {وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ} جملة في موضع الحال. وقد تقدم معنى الظلم. والحمد لله.

{ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ} العفو: عفو الله عز وجل عن خلقه وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف الغفران فإنه لا يكون معه عقوبة البتة. وكل من أستحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه فالعفو: محو الذنب أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم مأخوذ من قولك: عفت الريح الأثر أي أذهبته وعفا الشيء كثر فهو من الأضداد ومنه قوله تعالى: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف 95].
الثانية: قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} أي من بعد عبادتكم العجل. وسمي العجل عجلا لاستعجالهم عبادته. والله أعلم. والعجل ولد البقرة. والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة. عن أبي الجراح.
الثالثة: قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} كي تشكروا عفو الله عنكم. وقد تقدم معنى لعل. وأما الشكر فهو في اللغة الظهور من قول دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف وحقيقته الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه. كما تقدم في الفاتحة قال الجوهري: الشكر: الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف يقال: شكرته وشكرت له وباللام أفصح. والشكران: خلاف الكفران. وتشكرت له مثل شكرت له.
وروى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» قال الخطابي هذا الكلام يتأول على معنيين أحدهما أن من كان من طبعه كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله عز وجل وترك الشكر له. والوجه الآخر أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذ كان العبد لا يشكر إحسان الناس إليه ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر.
الرابعة: في عبارات العلماء في معنى الشكر فقال سهل بن عبد الله: الشكر: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية وقالت فرقة أخرى: الشكر هو الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم ولذلك قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً} [سبأ: 13] فقال داود: كيف أشكرك يا رب والشكر نعمة منك! قال: الآن قد عرفتني وشكرتني إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة قال يا رب فأرني أخفى نعمك علي قال يا داود تنفس فتنفس داود فقال الله تعالى من يحصي هذه النعمة الليل والنهار.
وقال موسى عليه السلام: كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازى بها عملي كله! فأوحى الله إليه يا موسى الآن شكرتني وقال الجنيد حقيقة الشكر العجز عن الشكر وعنه قال كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي يا غلام ما الشكر؟ فقلت ألا يعصى الله بنعمه فقال لي: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك. قال الجنيد فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي.
وقال الشبلي الشكر التواضع والمحافظة على الحسنات ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات ومراقبة جبار الأرض والسموات وقال ذو النون المصري أبو الفيض الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة ولمن دونك بالإحسان والإفضال.

***********


{وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}
إذا اسم للوقت الماضي وإذا اسم للوقت المستقبل و{آتينا} أعطينا. وقد تقدم جميع هذا. والكتاب: التوراة بإجماع من المتأولين. واختلف في الفرقان فقال الفراء وقطرب: المعنى آتينا موسى التوراة ومحمدا عليه السلام الفرقان قال النحاس: هذا خطاء الاعراب والمعنى أما الاعراب فإن المعطوف على الشيء مثله وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشيء خلافه. وأما المعنى فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ}. قال أبو إسحاق الزجاج: يكون الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره ياسمين تأكيدا. وحكي عن الفراء ومنه قول الشاعر:
وقدمت الأديم لراهشيه *** وألفى قولها كذبا ومينا
وقال آخر:
ألا حبذا هند وأرض بها هند *** وهند أتى من دونها النأي والبعد
فنسق البعد على النأي والمين على الكذب لاختلاف اللفظين تأكيدا ومنه قول عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده *** أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
قال النحاس وهذا إنما يجئ في الشعر وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد فرقا بين الحق والباطل أي الذي علمه إياه.
وقال ابن زيد: الفرقان انفراق البحر له حتى صار فرقا فعبروا.
وقيل: الفرقان الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ومنه قوله تعالى: {لآإِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً} [الأنفال: 29] أي فرجا ومخرجا.
وقيل: إنه الحجة والبيان. قاله ابن بحر. وقيل الواو صلة والمعنى آتينا موسى الكتاب الفرقان والواو قد تزاد في النعوت كقولهم فلان حسن وطويل وأنشد:
إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة ودليل هذا التأويل قوله عز وجل: {ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 154] أي بين الحرام والحلال والكفر والايمان والوعد والوعيد وغير ذلك.
وقيل: الفرقان الفرق بينهم وبين قوم فرعون أنجى هؤلاء وأغرق أولئك. ونظيره: {يَوْمَ الْفُرْقانِ}. فقيل: يعني به يوم بدر نصر الله فيه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وأهلك أبا جهل وأصحابه. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكي تهتدوا من الضلالة وقد تقدم.

{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ} القوم: الجماعة الرجال دون النساء قال الله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] ثم قال: {وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ} [الحجرات: 11] وقال زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء
وقال تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ} [الأعراف: 80] أراد الرجال دون النساء. وقد يقع القوم على الرجال والنساء قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ} [نوح: 1] وكذا كل نبي مرسل إلى النساء والرجال جميعا قوله تعالى: {يا قَوْمِ} منادى مضاف وحذفت الياء في: {يا قَوْمِ} لأنه موضع حذف والكسرة تدل عليها وهي بمنزلة التنوين فحذفتها كما تحذف التنوين من المفرد ويجوز في غير القرآن إثباتها ساكنة فتقول يا قومي لأنها اسم وهي في موضع خفض وإن شئت فتحتها وإن شئت ألحقت معها هاء فقلت يا قوميه. وإن شئت أبدلت منها ألفا لأنها أخف فقلت يا قوما وإن شئت قلت يا قوم بمعنى يا أيها القوم وإن جعلتهم نكرة نصبت ونونت وواحد القوم امرؤ على غير اللفظ وتقول قوم وأقوام وأقاوم جمع الجمع. والمراد هنا بالقوم عبدة العجل وكانت مخاطبته عليه السلام لهم بأمر من الله تعالى.
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أستغنى بالجمع القليل عن الكثير والكثير نفوس وقد يوضع الجمع الكثير موضع جمع القلة والقليل موضع الكثرة قال الله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وقال: {وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} [الزخرف: 71]. ويقال لكل من فعل فعلا يعود عليه ضرره: إنما أسأت إلى نفسك. وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه. ثم قال تعالى: {بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ} قال بعض أرباب المعاني عجل كل إنسان نفسه فمن أسقطه وخالف مراده فقد برئ من ظلمه. والصحيح أنه هنا عجل على الحقيقة عبدوه كما نطق به التنزيل والحمد لله قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ} لما قال لهم: فتوبوا إلى بارئكم قالوا: كيف؟ قال: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قال أرباب الخواطر: ذللوها بالطاعات وكفوها عن الشهوات. والصحيح أنه قل على الحقيقة هنا. والقتل: إماتة الحركة. وقتلت الخمر: كسرت شدتها بالماء. قال سفيان بن عيينة: التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الامة دون غيرها من الأمم وكانت توبة بني إسرائيل القتل. وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده قال الزهري لما قيل لهم {فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم كفوا فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحي على ما تقدم وقال بعض المفسرين أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك وقيل وقف الذين عبدوا العجل صفا ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم وقيل: قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا إذ لم يعبدوا العجل من عبد العجل. ويروى أن يوشع بن نون خرج عليهم وهم محتبون فقال ملعون من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو أتقاه بيد أو رجل فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم يعني من قتل وأقبل الرجل يقتل من يليه. ذكره النحاس وغيره. وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم على القول الأول لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوه وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده. وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع. روى جرير قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب». أخرجه ابن ماجه في سننه. وسيأتي الكلام في هذا المعنى إن شاء الله تعالى. فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفا عفا الله عنهم قاله ابن عباس وعلي رضي الله عنهما. وإنما رفع الله عنهم القتل لأنهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم فما أنعم الله على هذه الامة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة. وقرأ قتادة: فأقيلوا أنفسكم من الإقالة أي استقبلوها من العثرة بالقتل.
قوله تعالى: {بارِئِكُمْ} البارئ: الخالق وبينهما فرق وذلك أن البارئ هو المبدع المحدث. والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال. والبرية الخلق وهي فعيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تهمز وقرأ أبو عمرو {بارئكم} بسكون الهمزة ويشعركم وينصركم ويأمركم. واختلف النحاة في هذا فمنهم من يسكن الضمة والكسرة في الوصل وذلك في الشعر.
وقال أبو العباس المبرد: لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الاعراب في كلام ولا شعر وقراءة أبي عمرو لحن قال النحاس وغيره وقد أجاز ذلك النحويون القدماء الأئمة وأنشدوا:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم *** بالدوّ أمثال السفين العوم
وقال امرؤ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب *** إثما من الله ولا واغل
وقال آخر:
قالت سليمى أشتر لنا سويقا ***
وقال الآخر:
رحت وفي رجليك ما فيهما *** وقد بدا هنك من المئزر
فمن أنكر التسكين في حرف الاعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علما للأعراب. قال أبو على: وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات. واصل برأ من تبري الشيء من الشيء وهو انفصاله منه. فالخلق قد فصلوا من العدم إلى الوجود ومنه برأت من المرض برءا بالفتح كذا يقول أهل الحجاز. وغيرهم يقول برئت من المرض برءا بالضم وبرئت منك ومن الديون والعيوب براءة ومنه المبارأة للمرأة. وقد بارأ شريكه وامرأته قوله تعالى: {فَتابَ عَلَيْكُمْ} في الكلام حذف تقديره ففعلتم فتاب عليكم أي فتجاوز عنكم أي على الباقين منكم. {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} تقدم معناه والحمد لله.

{وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ} معطوف {يا مُوسى} نداء مفرد {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} أي نصدقك {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} قيل: هم السبعون الذين اختارهم موسى وذلك أنهم لما أسمعهم كلام الله تعالى قالوا له بعد ذلك {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} [البقرة: 55] والايمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم فأرسل الله عليهم نارا من السماء فأحرقهم ثم دعا موسى ربه فأحياهم كما قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56] وستأتي قصة السبعين في الأعراف إن شاء الله تعالى قال ابن فورك يحتمل أن تكون معاقبتهم لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقة بقولهم لموسى {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] وليس ذلك من مقدور موسى عليه السلام. وقد اختلف في جواز رؤية الله تعالى فأكثر المبتدعة على إنكارها في الدنيا والآخرة. وأهل السنة والسلف على جوازها فيهما ووقوعها في الآخرة فعلى هذا لم يطلبوا من الرؤية محالا وقد سألها موسى عليه السلام وسيأتي الكلام في الرؤية في الأنعام والأعراف إن شاء الله تعالى الثانية: قوله تعالى: {جَهْرَةً} مصدر في موضع الحال ومعناه علانية وقيل عيانا قاله ابن عباس. واصل الجهر الظهور ومنه الجهر بالقراءة إنما هو إظهارها. والمجاهرة بالمعاصي: المظاهرة بها. ورأيت الأمير جهارا وجهرة أي غير مستتر بشيء وقرأ ابن عباس {جهرة} بفتح الهاء. وهما لغتان مثل زهرة وزهرة.
وفي الجهر وجهان: أحدهما- أنه صفة لخطابهم لموسى أنهم جهروا به وأعلنوا فيكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: وإذ قلتم جهرة يا موسى.
الثاني- أنه صفة لما سألوه من رؤية الله تعالى أن يروه جهرة وعيانا فيكون الكلام عله نسقه لا تقديم فيه ولا تأخير. وأكد بالجهر فرقا بين رؤية العيان ورؤية المنام.
الثالثة: قوله تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} قد تقدم في أول السورة معنى الصاعقة وقرأ عمر وعثمان وعلي {الصعقة} وهي قراءة ابن محيصن في جميع القرآن. {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} جملة في موضع الحال. ويقال: كيف يموتون وهم ينظرون؟ فالجواب أن العرب تقول: دور آل فلان تراءى أي يقابل بعضها بعضا وقيل المعنى: {تنظرون} أي إلى حالكم وما نزل بكم من الموت وآثار الصعقة.
الرابعة: قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} أي أحييناكم قال قتادة ماتوا وذهبت أرواحهم ثم ودوا لاستيفاء آجالهم قال النحاس وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبعث من قريش واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا والمعنى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ما فعل بكم من البعث بعد الموت وقيل ماتوا موت همود يعتبر به الغير ثم أرسلوا واصل البعث الإرسال.
وقيل: بل أصله إثارة الشيء من محله يقال: بعثت الناقة: أثرتها أي حركتها قال امرؤ القيس:
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة *** فقاموا جميعا بين عاث ونشوان
وقال عنترة:
وصحابة شم الأنوف بعثتهم *** ليلا وقد مال الكرى بطلاها
وقال بعضهم {بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56] علمناكم من بعد جهلكم.
قلت: والأول أصح لان الأصل الحقيقة، وكان موت عقوبة ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ} على ما يأتي [البقرة: 243].
الخامسة: قال الماوردي: واختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ومعاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين: أحدهما- بقاء تكليفهم لئلا يخلو عاقل من تعبد.
الثاني: سقوط تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار.
قلت: والأول أصح فإن بني إسرائيل قد رأوا الجبل في الهواء ساقطا عليهم والنار محيطة بهم وذلك مما اضطرهم إلى الايمان وبقاء التكليف ثابت عليهم ومثلهم قوم يونس. ومحال أن يكونوا غير مكلفين. والله أعلم.

يتبع....





الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 4:23 pm
المشاركة رقم: #13
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)




{وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}
فيه ثماني مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ} أي جعلناه عليكم كالظلة. والغمام جمع غمامة كسحابة وسحاب قاله الأخفش سعيد. قال الفراء: ويجوز غمائم وهي السحاب لأنها تغم السماء أي تسترها وكل مغطى فهو مغموم ومنه المغموم على عقله. وغم الهلال إذا غطاه الغيم والغين مثل الغيم ومنه قوله عليه السلام: «إنه ليغان على قلبي». قال صاحب العين: غين عليه: غطى عليه. والغين: شجر ملتف.
وقال السدي: الغمام السحاب الأبيض. وفعل هذا بهم ليقيهم حر الشمس نهارا وينجلي في آخره ليستضيئوا بالقمر ليلا. وذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم وقالوا لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا} [المائدة: 42]. فعوقبوا في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في خمسة فراسخ أو ستة. روي أنهم كانوا يمشون النهار كله وينزلون للمبيت فيصبحون حيت كانوا بكرة أمس. وإذا كانوا بأجمعهم في التيه قالوا لموسى: من لنا بالطعام! فأنزل الله عليهم المن والسلوى. قالوا: من لنا من حر الشمس! فظلل عليهم الغمام. قالوا: فبم نستصبح! فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم وذكر مكي عمود من نار. قالوا من لنا بالماء! فأمر موسى بضرب الحجر قالوا من لنا باللباس! فأعطوا ألا يبلى لهم ثوب ولا يخلق ولا يدرن وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان. والله أعلم.
الثانية: قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى} اختلف في المن ما هو وتعيينه على أقوال فقيل الترنجبين- بتشديد الراء وتسكين النون ذكره النحاس ويقال الطرنجبين بالطاء وعلى هذا أكثر المفسرين وقيل صمغة حلوة وقيل عسل: وقيل شراب حلو.
وقيل: خبز الرقاق عن وهب بن منبه.
وقيل: {المن} مصدر يعم جميع ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ومنه قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: «الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين» في رواية: «من المن الذي أنزل الله على موسى» رواه مسلم قال علماؤنا: وهذا الحديث يدل على أن الكمأة مما أنزل الله على بنى إسرائيل أي مما خلقه الله لهم في التيه. قال أبو عبيد: إنما شبهها بالمن لأنه لا مئونة فيها ببذر ولا سقي ولا علاج فهي منه أي من جنس من بني إسرائيل في أنه كان دون تكلف. روى أنه كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس كالثلج فيأخذ الرجل ما يكفيه ليومه فإن ادخر منه شيئا فسد عليه إلا في يوم الجمعة فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت فلا يفسد عليهم لان يوم السبت يوم عبادة وما كان ينزل عليهم يوم السبت شي.
الثالثة: لما نص عليه السلام على أن ماء الكمأة شفاء للعين قال بعض أهل العلم بالطب: أما لتبريد العين من بعض ما يكون فيها من الحرارة فتستعمل بنفسها مفردة واما لغير ذلك فمركبة مع غيرها. وذهب أبو هريرة رضي الله عنه إلى استعمالها بحتا في جميع مرض العين. وهذا كما أستعمل أبو وجزة العسل في جميع الأمراض كلها حتى في الكحل على ما يأتي بيانه في سورة النحل إن شاء الله تعالى.
وقال أهل اللغة: الكمء واحد وكمأن اثنان وأكمؤ ثلاثة فإذا زادوا قالوا- كمأة- بالتاء- على عكس شجرة وشجر. والمن اسم جنس لا واحد له من لفظه الخير والشر قاله الأخفش.
الرابعة: قوله تعالى: {وَالسَّلْوى} اختلف في السلوى فقيل هو السماني بعينه قاله الضحاك. قال ابن عطية: السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي فقال:
وقاسمها بالله جهدا لأنتم *** ألذ من السلوى إذا ما نشورها
ظن السلوى العسل.
قلت: ما ادعاه من الإجماع لا يصح وقد قال المؤرج أحد علماء اللغة والتفسير: إنه العسل واستدل ببيت الهذلي وذكر أنه كذلك بلغة كنانة سمى به لأنه يسلى به ومنه عين السلوان، وأنشد:
لو أشرب السلوان ما سليت *** ما بي غنى عنك وإن غنيت
وقال الجوهري: والسلوى العسل وذكر بيت الهذلي:
ألذ من السلوى إذا ما نشورها ***
ولم يذكر غلطا. والسلوانة بالضم: خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا قال:
شربت على سلوانة ماء مزنة *** فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو
واسم ذلك الماء السلوان.
وقال بعضهم: السلوان دواء يسقاه الحزين فيسلو والأطباء يسمونه المفرح. يقال: سليت وسلوت لغتان. وهو في سلوة من العيش أي في رغد عن أبى زيد.
الخامسة: واختلف في السلوى هل هو جمع أو مفرد فقال الأخفش: جمع لا واحد له من لفظه مثل الخير والشر وهو يشبه أن يكون واحده سلوي مثل جماعته كما قالوا: دفلى للواحد والجماعة وسماني وشكاعي في الواحد والجميع.
وقال الخليل: واحده سلواة وأنشد:
وإني لتعروني لذكرك هزة *** كما انتفض السلواة من بلل القطر
وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوى.
السادسة: {السلوى} عطف على {المن} ولم يظهر فيه الاعراب لأنه مقصور. ووجب هذا في المقصور كله لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف. قال الخليل: والألف حرف هوائي لا مستقر له فأشبه الحركة فاستحالت حركته.
وقال الفراء: لو حركت الألف صارت همزة.
السابعة: قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ}... {كُلُوا} فيه حذف تقديره وقلنا كلوا فحذف اختصار الدلالة الظاهر عليه. والطيبات هنا قد جمعت الحلال واللذيذ.
الثامنة: قوله تعالى: {وَما ظَلَمُونا} يقدر قبله فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر. {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لمقابلتهم النعم بالمعاصي.

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}
فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} حذفت الألف من {قُلْنَا} لسكونها وسكون الدال بعدها والألف التي يبتدأ بها قبل الدال ألف وصل لأنه من يدخل.
الثانية: قوله تعالى: {هذِهِ الْقَرْيَةَ} أي المدينة سميت بذلك لأنها تقرت أي اجتمعت ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته واسم ذلك الماء قرى بكسر القاف مقصور. وكذلك ما قري به الضيف قاله الجوهري. والمقراة للحوض. والقري لمسيل الماء. والقرا للظهر ومنه قوله:
لاحق بطن بقرا سمين ***
والمقاري: الجفان الكبار قال:
عظام المقاري ضيفهم لا يفزع ***
وواحد المقاري مقراة وكله بمعنى الجمع غير مهموز. والقرية بكسر القاف لغة اليمن. واختلف في تعيينها فقال الجمهور: هي بيت المقدس.
وقيل: أريحاء من بيت المقدس. قال عمر بن شبة: كانت قاعدة ومسكن ملوك. ابن كيسان الشام. الضحاك: الرملة والأردن وفلسطين وتدمر. وهذه نعمه أخرى وهى أنه أباح لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه.
الثالثة: قوله تعالى: {فَكُلُوا} إباحة. و{رَغَداً} كثيرا واسعا وهو نعت لمصدر محذوف أي أكلا رغد. ويجوز أن يكون في موضع الحال على ما تقدم وكانت أرضا مباركة عظيمة الغلة فلذلك قال: {رَغَداً} الرابعة: قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً} الباب يجمع أبوابا وقد قالوا: أبوبه للازدواج قال الشاعر:
هتاك أخبية ولاج أبوبه *** يخلط بالبر منه الجد واللينا
ولو أفرده لم يجز. ومثله قول عليه السلام: «مرحبا بالقوم- أو بالوفد- غير خزايا ولا ندامى». وتبوبت بوابا اتخذته وأبواب مبوبة كما قالوا أصناف مصنفة. وهذا شيء من بابتك أي يصلح لك. وقد تقدم معنى السجود فلا معنى لإعادته. والحمد لله. والباب الذي أمروا بدخول هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بـ باب حطه عن مجاهد وغيره.
وقيل: باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل و{سُجَّداً} قال ابن عباس: منحنين ركوعا. وقيل متواضعين خشوعا لا على هية متعينة.
الخامسة: قوله تعالى: {وَقُولُوا} عطف على أدخلوا. {حِطَّةٌ} بالرفع قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ أي مسألتنا حطة أو يكون حكاية. قال الأخفش: وقرئت {حطة} بالنصب على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة. قال النحاس: الحديث عن ابن عباس أنه قيل لهم: قولوا لا إله إلا الله وفي حديث آخر عنه قيل لهم قولوا مغفرة تفسير للنصب أي قولوا شيئا يحط ذنوبكم كما يقال قل خيرا والأئمة من القراء على الرفع وهو أولى في اللغة لما حكى عن العرب في معنى بدل قال أحمد بن يحيى: يقال بدلته أي غيرته ولم أزل عينه. وأبدلته أزلت عينه وشخصه كما قال:
عزل الأمير للأمير المبدل ***
وقال الله عز وجل: {قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15]. وحديث ابن مسعود قالوا {حِطَّةٌ} تفسير على الرفع. هذا كله قول النحاس.
وقال الحسن وعكرمة: {حِطَّةٌ} بمعنى حط ذنوبنا أمروا أن يقولوا: لا إله إلا الله ليحط بها ذنوبهم وقال ابن جبير: معناه الاستغفار. أبان بن تغلب: التوبة قال الشاعر:
فاز بالحطة التي جعل اللَّ *** هـ بها ذنب عبده مغفورا
وقال ابن فارس في المجمل {حِطَّةٌ} كلمة أمر بها بنو إسرائيل لو قالوها لحطت أوزارهم. وقاله الجوهري أيضا في الصحاح.
قلت: يحتمل أن يكونوا تعبدوا بهذا اللفظ بعينه وهو الظاهر من الحديث روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قيل لبني إسرائيل ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة». وأخرجه البخاري وقال: «فبدلوا وقالوا حطة حبة في شعرة». في غير الصحيحين: «حنطة في شعر».
وقيل: قالوا هطاسمهاثا. وهي لفظة عبرانية تفسيرها: حنطة حمراء حكاها ابن قتيبة وحكاه الهروي عن السدي ومجاهد. وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به فعصوا وتمردوا واستهزءوا فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب.
وقال ابن زيد: كان طاعونا أهلك منهم سبعين ألفا. وروي أن الباب جعل قصيرا ليدخلوه ركعا فدخلوه متوركين على أستاههم. والله أعلم.
السادسة: استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها أو بمعناها فإن كان التعبد وقع بلفظها فلا يجوز تبديلها لذم الله تعالى من بدل ما أمره بقوله. وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه.
وقد اختلف العلماء في هذا المعنى فحكي عن مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى لكن بشرط المطابقة للمعنى بكمال وهو قول الجمهور. ومنع ذلك جمع كثير من العلماء منهم ابن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة.
وقال مجاهد: انقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه. وكان مالك بن أنس يشدد في حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التاء والياء ونحو هذا. وعلى هذا جماعة من أئمة الحديث لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره حتى إنهم يسمعون ملحونا ويعلمون ذلك ولا يغيرونه.
وروى أبو مجلز عن قيس بن عباد قال قال عمر بن الخطاب: من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم.
وروى نحوه عن عبد الله بن عمرو وزيد بن أرقم. وكذا الخلاف في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان فإن منهم من يعتد بالمعنى ولا يعتد باللفظ ومنهم من يشدد في ذلك ولا يفارق اللفظ. وذلك هو الأحوط في الدين والأتقى والأولى ولكن أكثر العلماء على خلافه والقول بالجواز هو الصحيح إن شاء الله تعالى وذلك أن المعلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم هو أنهم كانوا يروون الوقائع المتحدة بألفاظ مختلفة وما ذاك إلا أنهم كانوا يصرفون عنايتهم للمعاني ولم يلتزموا التكرار على الأحاديث ولا كتبها وروي عن واثلة بن الأسقع أنه قال: ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقلناه إليكم حسبكم المعنى.
وقال قتادة عن زرارة بن أوفى: لقيت عدة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاختلفوا علي في اللفظ واجتمعوا في المعنى. وكان النخعي والحسن والشعبي رحمهم الله يأتون بالحديث على المعاني وقال الحسن: إذا أصبت المعنى أجزأك.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: إذا قلت لكم إنى أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى.
وقال وكيع رحمه الله إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس. واتفق العلماء على جواز نقل الشرع للعجم بلسانهم وترجمته لهم وذلك هو النقل بالمعنى. وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص من أنباء ما قد سلف فقص قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلقة والمعنى واحد ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والحذف والإلغاء والزيادة والنقصان وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلان يجوز بالعربية أولى. احتج بهذا المعنى الحسن والشافعي وهو الصحيح في الباب. فإن قيل: فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نضر الله امرا سمع مقالتي فبلغها كما سمعها» وذكر الحديث. وما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أمر رجلا أن يقول عند مضجعه في دعاء علمه: «آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت» فقال الرجل: ورسولك الذي أرسلت فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ونبيك الذي أرسلت». قالوا: أفلا ترى أنه لم يسوغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ وقال: «فأداها كما سمعها». قيل لهم: أما قوله: «فأداها كما سمعها» فالمراد حكمها لا لفظها لان اللفظ غير معتد به. ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله: «فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه». ثم إن هذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن يكون جميع الألفاظ قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أوقات مختلفة لكن الأغلب أنه حديث واحد نقل بألفاظ مختلفة وذلك أدل دليل على الجواز. وأما رده عليه السلام الرجل من قوله: «ورسولك إلى قوله ونبيك» لان لفظ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمدح ولكل نعت من هذين النعتين موضع. ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة واسم النبي لا يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام! وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة. فلما قال: «ونبيك» جاء بالنعت الامدح ثم قيده بالرسالة بقوله: «الذي أرسلت». وأيضا فإن نقله من قوله: «ورسولك إلى قوله ونبيك» ليجمع بين النبوة والرسالة. ومستقبح في الكلام أن تقول: هذا رسول فلان الذي أرسله وهذا قتيل زيد الذي قتله لأنك تجتزئ بقولك: رسول فلان وقتيل فلان عن إعادة المرسل و- القاتل إذ كنت لا تفيد به إلا المعنى الأول. وإنما يحسن أن تقول: هذا رسول عبد الله الذي أرسله إلى عمرو وهذا قتيل زيد الذي قتله بالأمس أو في وقعة كذا. والله ولي التوفيق.
فإن قيل: إذا جاز للراوي الأول تغيير ألفاظ الرسول عليه السلام جاز للثاني تغير ألفاظ الأول ويؤدي ذلك إلى طمس الحديث بالكلية لدقة الفروق وخفائها. قيل له: الجواز مشروط بالمطابقة والمساواة كما ذكرنا فإن عدمت لم يجز. قال ابن العربي: الخلاف في هذه المسألة إنما يتصور بالنظر إلى عصر الصحابة والتابعين لتساويهم في معرفة اللغة الجبلية الذوقية وأما من بعدهم فلا نشك في أن ذلك لا يجوز إذ الطباع قد تغيرت والفهوم قد تباينت والعوائد قد اختلفت وهذا هو الحق. والله أعلم. قال بعض علمائنا: لقد تعاجم ابن العربي رحمه الله فإن الجواز إذا كان مشروطا بالمطابقة فلا فرق بين زمن الصحابة والتابعين وزمن غيرهم ولهذا لم يفصل أحد من الأصوليين ولا أهل الحديث هذا التفصيل. نعم لو قال: المطابقة في زمنه أبعد كان أقرب والله أعلم.
السابعة: قوله تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ} قراءة نافع بالياء مع ضمها. وابن عامر بالتاء مع ضمها وهى قراءة مجاهد. وقرأها الباقون بالنون مع نصبها وهي أبينها لان قبلها {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا} فجرى {نغفر} على الاخبار عن الله تعالى والتقدير وقلنا ادخلوا الباب سجدا نغفر ولان بعده {وَسَنَزِيدُ} بالنون. و{خَطاياكُمْ} أتباعا للسواد وأنه على بابه. ووجه من قرأ بالتاء أنه أنث لتأنيث لفظ الخطايا لأنها جمع خطيئة على التكسير. ووجه القراءة بالياء أنه ذكر لما حال بين المؤنث وبين فعله على ما تقدم في قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ} [البقرة: 37]. وحسن الياء والتاء وإن كان قبله إخبار عن الله تعالى في قوله: {وَإِذْ قُلْنَا} لأنه قد علم أن ذنوب الخاطئين لا يغفرها إلا الله تعالى فاستغنى عن النون ورد الفعل إلى الخطايا المغفورة.
الثامنة: واختلف في أصل خطايا جمع خطيئة بالهمزة فقال الخليل: الأصل في خطايا أن يقول: خطايئ ثم قلب فقيل: خطائي بهمزة بعدها ياء ثم تبدل من الياء ألفا بدلا لازما فتقول: خطاء فلما اجتمعت ألفان بينهما همزة والهمزة من جنس الألف صرت كأنك جمعت بين ثلاث ألفات فأبدلت من الهمزة ياء فقلت: خطايا. وأما سيبويه فمذهبه أن الأصل مثل الأول خطايئ ثم وجب بهذه أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن فتقول:
خطائئ ولا تجتمع همزتان في كلمة فأبدلت من الثانية ياء فقلت: خطائي ثم عملت كما عملت في الأول.
وقال الفراء: خطايا جمع خطية بلا همز، كما تقول: هدية وهدايا. قال الفراء: ولو جمعت خطيئة مهموزة لقلت: خطاء.
وقال الكسائي: لو جمعتها مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة كما قلت: دواب.
التاسعة: قوله تعالى: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} أي في إحسان من لم يعبد العجل. ويقال: يغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد وسنزيد في إحسان من لم يرفع للغد. ويقال: يغفر خطايا من هو عاص وسيزيد في إحسان من هو محسن أي نزيدهم إحسانا على الإحسان المتقدم عندهم وهو اسم فاعل من أحسن. والمحسن من صحح عقد توحيده وأحسن سياسة نفسه وأقبل على أداء فرائضه وكفى المسلمين شره. وفي حديث جبريل عليه السلام: «ما الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال صدقت» وذكر الحديث. خرجه مسلم.

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا}... {الَّذِينَ} في موضع رفع أي فبدل الظالمون منهم قولا غير الذي قيل لهم. وذلك أنه قيل لهم: قولوا حطة فقالوا حنطة على ما تقدم فزادوا حرفا في الكلام فلقوا من البلاء ما لقوا تعريفا أن الزيادة في الدين والابتداع في الشريعة عظيمة الخطر شديدة الضرر. هذا في تغيير كلمة هي عبارة عن التوبة أوجبت كل ذلك من العذاب فما ظنك بتغيير ما هو من صفات المعبود! هذا والقول أنقص من العمل فكيف بالتبديل والتغيير في الفعل.
الثانية: قوله تعالى: {فَبَدَّلَ} تقدم معنى بدل وأبدل وقرى {عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا} على الوجهين. قال الجوهري: وأبدلت الشيء بغيره. وبدله الله من الخوف أمنا. وتبديل الشيء أيضا تغييره وإن لم يأت ببدل. واستبدل الشيء بغيره وتبدله به إذا أخذه مكانه. والمبادلة التبادل. والابدال: قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه بآخر. قال ابن دريد: الواحد بديل. والبديل: البدل. وبدل الشيء: غيره يقال: بدل وبدل لغتان مثل شبه وشبه ومثل ومثل ونكل ونكل قال أبو عبيد: لم يسمع في فعل وفعل غير هذه الاربعة الأحرف. والبدل: وجع يكون في اليدين والرجلين. وقد بدل بالكسر يبدل بدلا الثالثة: قوله تعالى: {فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} كرر لفظ {ظَلَمُوا} ولم يضمره تعظيما للأمر. والتكرير يكون على ضربين أحدهما استعماله بعد تمام الكلام كما في هذه الآية وقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] ثم قال بعد {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} ولم يقل مما كتبوا وكرر الويل تغليظا لفعلهم ومنه قول الخنساء:
تعرقني الدهر نهسا وحزا *** وأوجعني الدهر قرعا وغمزا
أرادت أن الدهر أوجعها بكبريات نوائبه وصغرياتها. والضرب الثاني: مجيء تكرير الظاهر في موضع المضمر قبل أن يتم الكلام كقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1- 2] و{الْقارِعَةُ. مَا الْقارِعَةُ} [القارعة: 1- 2] كان القياس لولا ما أريد به من التعظيم والتفخيم: الحاقة ما هي والقارعة ما هي ومثله {فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ}. كرر {فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ} تفخيما لما ينيلهم من جزيل الثواب وكرر لفظ {أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ} لما ينالهم من أليم العذاب. ومن هذا الضرب قول الشاعر:
ليت الغراب غداة ينعب دائبا *** كان الغراب مقطع الأوداج
وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء *** نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فكرر لفظ الموت ثلاثا وهو من الضرب الأول ومنه قول الآخر:
ألا حبذا هند وأرض بها هند *** وهند أتى من دونها الناي والبعد
فكرر ذكر محبوبته ثلاثا تفخيما لها الرابعة: قوله تعالى: {رِجْزاً} قراءة الجماعة {رِجْزاً} بكسر الراء وابن محيصن بضم الراء. والرجز: العذاب بالزاي وبالسين: النتن والقذر ومنه قول تعالى: {فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] أي نتنا إلى نتنهم قال الكسائي.
وقال الفراء: الرجز هو الرجس قال أبو عبيد كما يقال السدغ والزدغ وكذا رجس ورجز بمعنى. قال الفراء: وذكر بعضهم أن الرجز بالضم اسم صنم كانوا يعبدونه وقرى بذلك في قول تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} والرجز بفتح الراء والجيم: نوع من الشعر وأنكر الخليل أن يكون شعرا. وهو مشتق من الرجز وهو داء يصيب الإبل في أعجازها فإذا ثارت ارتعشت أفخاذها. {بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} أي بفسقهم. والفسق الخروج وقد تقدم. وقرأ ابن وثاب والنخعي: {يفسقون} بكسر السين.


**********

{وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}
فيه ثمان مسائل: الأولى قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ} كسرت الذال لالتقاء الساكنين. والسين سين السؤال مثل: أستعلم واستخبر واستنصر ونحو ذلك أي طلب وسأل السقي لقومه. والعرب تقول: سقيته وأسقيته لغتان بمعنى، قال:
سقى قومي بني مجد وأسقى *** نميرا والقبائل من هلال
وقيل: سقيته من سقى الشفة وأسقيته دللته على الماء.
الثانية: الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر وإذا كان كذلك فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح. وقد استسقى نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرج إلى المصلى متواضعا متذللا متخشعا مترسلا متضرعا وحسبك به! فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد فأنى نسقي! لكن قد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ابن عمر: «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا» الحديث. وسيأتي بكماله إن شاء الله.
الثالثة: سنة الاستسقاء الخروج إلى المصلى- على الصفة التي ذكرنا- والخطبة والصلاة وبهذا قال جمهور العلماء. وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس من سنته صلاة ولا خروج وإنما هو دعاء لا غير. واحتج بحديث أنس الصحيح أخرجه البخاري ومسلم. ولا حجة له فيه فإن ذلك كان دعاء عجلت إجابته فاكتفي به عما سواه ولم يقصد بذلك بيان سنة ولما قصد البيان بين بفعله حسب ما رواه عبد الله بن زيد المازني قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه ثم صلى ركعتين. رواه مسلم. وسيأتي من أحكام الاستسقاء زيادة في سورة هود إن شاء الله.
الرابعة: قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ} العصا: معروف وهو اسم مقصور مؤنث والفة منقلبة عن واو، قال:
على عصويها سابري مشبرق ***
والجمع عصى وعصى، وهو فعول وإنما كسرت العين لما بعدها من الكسرة وأعص أيضا مثله مثل زمن وأزمن وفي المثل العصا من العصية أي بعض الامر من بعض. وقولهم ألقى عصاه أي أقام وترك الاسفار وهو مثل. قال:
فألقت عصاها واستقر بها النوى *** كما قر عينا بالإياب المسافر
وفي التنزيل: {وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى. قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها} [طه: 17- 18]. وهناك يأتي الكلام في منافعها إن شاء الله تعالى قال الفراء أول لحن سمع بالعراق هذه عصاتي. وقد يعبر بالعصا عن الاجتماع والافتراق ومنه يقال في الخوارج: قد شقوا عصا المسلمين أي اجتماعهم وائتلافهم. وانشقت العصا أي وقع الخلاف قال الشاعر:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا *** فحسبك والضحاك سيف مهند
أي يكفيك ويكفي الضحاك. وقولهم: لا ترفع عصاك عن أهلك براد به الأدب. والله أعلم. والحجر معروف وقياس جمعه في أدنى العدد أحجار وفي الكثير حجار وحجارة والحجارة نادر. وهو كقولنا: جمل وجمالة وذكر وذكارة كذا قال ابن فارس والجوهري.
قلت: وفي القرآن {فَهِيَ كَالْحِجارَةِ} [البقرة: 74]. {وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ} [البقرة: 74]. {قُلْ كُونُوا حِجارَةً} [الإسراء: 50]. {تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ} [الفيل: 4]. {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً} [الحجر: 74] فكيف يكون نادرا إلا أن يريدا أنه نادر في القياس كثير في الاستعمال فصيح. والله أعلم.
قوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ} في الكلام حذف تقديره فضرب فانفجرت. وقد كان تعالى قادرا على تفجير الماء وفلق الحجر من غير ضرب لكن أراد أن يربط المسببات بالأسباب حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في المعاد. والانفجار: الانشقاق ومنه انشق الفجر. وانفجر الماء انفجارا انفتح. والفجرة: موضع تفجر الماء والانبجاس أضيق من الانفجار لأنه يكون انبجاسا ثم يصير انفجارا.
وقيل: انبجس وتبجس وتفجر وتفتق بمعنى واحد حكاه الهروي وغيره.
الخامسة: قوله تعالى: {اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً}... {اثْنَتا} في موضع رفع بـ {فَانْفَجَرَتْ} وعلامة الرفع فيها الألف وأعربت دون نظائرها لان التثنية معربة أبدا لصحة معناها. {عَيْناً} نصب على البيان. وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى {عشرة} بكسر الشين وهى لغة بني تميم وهذا من لغتهم نادر لان سبيلهم التخفيف. ولغة أهل الحجاز {عَشْرَةَ} وسبيلهم التثقيل. قال جميعه النحاس. والعين من الأسماء المشتركة يقال: عين الماء وعين الإنسان وعين الركبة وعين الشمس. والعين: سحابة تقبل من ناحية القبلة. والعين: مطر يدوم خمسا أو ستا لا يقلع. وبلد قليل العين أي قليل الناس وما بها عين محركة الياء والعين: الثقب في المزادة. والعين من الماء مشبهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها كخروج الدمع من عين الحيوان.
وقيل: لما كان عين الحيوان أشرف ما فيه شبهت به عين الماء لأنها أشرف ما في الأرض.
السادسة: لما استسقى موسى عليه السلام لقومه أمر أن يضرب عند استسقائه بعصاه حجرا قبل: مربعا طوريا من الطور على قدر رأس الشاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به فإذا نزلوا وضع في وسط محلتهم وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته من المرحلة الأولى وهذا أعظم في الآية والاعجاز.
وقيل: إنه أطلق له اسم الحجر ليضرب موسى أي حجر شاء وهذا أبلغ في الاعجاز.
وقيل: إن الله تعالى أمره أن يضرب حجرا بعينه بينه لموسى عليه السلام ولذلك ذكر بلفظ التعريف. قال سعيد بن جبير هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه لما اغتسل وفر بثوبه حتى برأه الله مما رماه به قومه. قال ابن عطية: ولا خلاف أنه كان حجرا منفصلا مربعا تطرد من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى وإذا استغنوا عن الماء ورحلوا جفت العيون.
قلت: ما أوتى نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نبع الماء وانفجاره من يده وبين أصابعه أعظم في المعجزة فإنا نشاهد الماء يتفجر من الأحجار آناء الليل وآناء النهار ومعجزة نبينا عليه السلام لم تكن لنبي قبل نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج الماء من بين لحم ودم! روى الأئمة الثقات والفقهاء الإثبات عن عبد الله قال: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم نجد ماء فأتي بتور فأدخل يده فيه: فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه ويقول: «حي على الطهور». قال الأعمش: فحدثني سالم بن أبي الجعد قال قلت لجابر كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفا وخمسمائة. لفظ النسائي.
السابعة: قوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ} يعني أن لكل سبط منهم عينا قد عرفها لا يشرب من غيرها. والمشرب موضع الشرب.
وقيل: المشروب. والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب وهم ذرية الاثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام وكان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها. قال عطاء: كان للحجر أربعة أوجه يخرج من كل وجه ثلاث أعين لكل سبط عين لا يخالطهم سواهم. وبلغنا أنه كان في كل سبط خمسون ألف مقاتل سوى خيلهم ودوابهم. قال عطاء: كان يظهر على كل موضع من ضربة موسى مثل ثدي المرأة على الحجر فيعرق أولا ثم يسيل.
الثامنة: قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} في الكلام حذف تقديره وقلنا لهم كلوا المن والسلوى وأشربوا الماء المتفجر من الحجر المنفصل. {وَلا تَعْثَوْا} أي لا تفسدوا. والعيث: شدة الفساد نهاهم عن ذلك. يقال: عثى يعثى عثيا وعثا يعثو عثوا وعاث يعيث عيثا وعيوثا ومعاثا والأول لغة القرآن. ويقال: عث يعث في المضاعف: أفسد ومنه العثة وهي السوسة التي تلحس الصوف. و{مُفْسِدِينَ} حال وتكرر المعنى تأكيدا لاختلاف اللفظ.
وفي هذه الكلمات إباحة النعم وتعدادها والتقدم في المعاصي والنهي عنها.

{وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ} كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى وتذكروا عيشهم الأول بمصر. قال الحسن: كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ. وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد وهما اثنان لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر فلذلك قالوا: طعام واحد.
وقيل: لتكرارهما في كل يوم غذاء كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة هو على أمر واحد لملازمته لذلك. وقيل المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد منا بنفسه. وكذلك كانوا فهم أول من اتخذ العبيد والخدم.
قوله تعالى: {عَلى طَعامٍ} الطعام يطلق على ما يطعم ويشرب قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} وقال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا} [المائدة: 93] أي ما شربوه من الخمر على ما يأتي بيانه. وإن كان السلوى العسل- كما حكى المؤرج- فهو مشروب أيضا. وربما خص بالطعام البر والتمر كما في حديث أبى سعيد الخدري قال: كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاعا من طعام أو صاعا من شعير، الحديث. والعرف جار بأن القائل: ذهبت إلى سوق الطعام فليس يفهم منه إلا موضع بيعه دون غيره مما يؤكل أو يشرب. والطعم بالفتح هو ما يؤديه الذوق يقال طعمه مر. والطعم أيضا: ما يشتهى منه يقال ليس له طعم وما فلان بذي طعم إذا كان غثا. والطعم بالضم: الطعام قال أبو خراش:
أرد شجاع البطن لو تعلمينه *** وأوثر غيري من عيالك بالطعم
واغتبق الماء القراح فأنتهي *** إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم
أراد بالأول الطعام وبالثاني ما يشتهى منه وقد طعم يطعم فهو طاعم إذا أكل وذاق ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] أي من لم يذقه.
وقال: {فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب: 53] أي أكلتم.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زمزم: «إنها طعام طعم وشفاء سقم». وأستطعمني فلان الحديث إذا أراد أن تحدثه.
وفي الحديث: «إذا استطعمكم الامام فأطعموه». يقول: «إذا أستفتح فافتحوا عليه». وفلان ما يطعم النوم إلا قائما.
وقال الشاعر:
نعاما بوجرة صفر الخدو *** د ما تطعم النوم إلا صياما
قوله تعالى: {فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} لغة بني عامر {فَادْعُ} بكسر العين لالتقاء الساكنين يجرون المعتل مجرى الصحيح ولا يراعون المحذوف. و{يُخْرِجْ} مجزوم في معنى سله وقل له: أخرج يخرج.
وقيل: هو على معنى الدعاء على تقدير حذف اللام وضعفه الزجاج ومن في قوله: {مِمَّا} زائدة في قول الأخفش وغير زائدة في قول سيبويه لان الكلام موجب قال النحاس وإنما دعا الأخفش إلى هذا لأنه لم يجد مفعولا ل {يُخْرِجْ} فأراد أن يجعل {ما} مفعولا والأولى أن يكون المفعول محذوفا دل عليه سائر الكلام التقدير: يخرج لنا مما تنبت الأرض مأكولا. ف {من} الأولى على هذا للتبعيض والثانية للتخصيص. و{مِنْ بَقْلِها} بدل من ما بإعادة الحرف. والبقل {وَقِثَّائِها} عطف عليه وكذا ما بعده فاعلمه. والبقل معروف وهو كل نبات ليس له ساق والشجر: ما له ساق. والقثاء أيضا معروف وقد تضم قافه وهى قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف لغتان والكسر أكثر وقيل في جمع قثاء قثائي مثل علباء وعلابي إلا أن قثاء من ذوات الواو تقول: أقثأت القوم أي أطعمتهم ذلك. وقثأت القدر سكنت غليانها بالماء قال الجعدي:
تفور علينا قدرهم فنديمها *** ونفثؤها عنا إذا حميها غلا
وفثأت الرجل إذا كسرته عنك بقول أو غيره وسكنت غضبه وعدا حتى أفثأ أي أعيا وانبهر. وأفثأ الحر أي سكن وفتر. ومن أمثالهم في اليسير من البر قولهم: إن الرثيئة تفثأ في الغضب، وأصله أن رجلا كان غضب على قوم وكان مع غضبه جائعا فسقوه رثيئة فسكن غضبه وكف عنهم. الرثيئة: اللبن المحلوب على الحامض ليخثر رثأت اللبن رثا إذا حلبته على حامض فخثر والاسم الرثيئة. ورتثأ اللبن خثر.
وروى ابن ماجه حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا يونس بن بكير حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كانت أمي تعالجني للسمنة تريد أن تدخلني على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما استقام لها ذلك حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة. وهذا إسناد صحيح.
قوله تعالى: {وَفُومِها} اختلف في الفوم فقيل هو الثوم لأنه المشاكل للبصل. رواه جويبر عن الضحاك. والثاء تبدل من الفاء كما قالوا مغافير ومغاثير. وجدث وجدف للقبر. وقرأ ابن مسعود {ثومها} بالثاء المثلثة وروي ذلك عن ابن عباس.
وقال أمية بن أبي الصلت:
كانت منازلهم إذ ذال ظاهرة *** فيها الفراديس والفومان والبصل
الفراديس واحدها فرديس. وكرم مفردس أي معرش.
وقال حسان:
وأنتم أناس لئام الأصول *** طعامكم الفوم والحوقل
يعني الثوم والبصل وهو قول الكسائي والنضر بن شميل.
وقيل: الفوم الحنطة روى عن ابن عباس أيضا وأكثر المفسرين واختاره النحاس قال: وهو أولى ومن قال به أعلى وأسانيده صحاح وليس جويبر بنظير لروايته وإن كان الكسائي والفراء قد اختارا القول الأول لإبدال العرب الفاء من الثاء والابدال لا يقاس عليه وليس ذلك بكثير في كلام العرب. وأنشد ابن عباس لمن سأله عن الفوم وأنه الحنطة قول أحيحة بن الجلاح:
قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا *** ورد المدينة عن زراعة فوم
وقال أبو إسحاق الزجاج وكيف يطلب القوم طعاما لا بر فيه والبر أصل الغذاء! وقال الجوهري أبو نصر الفوم الحنطة وأنشد الأخفش:
قد كنت أحسبني كأغنى واجد *** نزل المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن دريد: الفومة السنبلة وأنشد:
وقال ربيئهم لما أتانا *** بكفه فومة أو فومتان
والهاء في كفه غير مشبعة وقال بعضهم الفوم الحمص لغة شامية وبائعه فامي، مغير عن فومى لأنهم قد يغيرون في النسب، كما قالوا سهلي ودهري. ويقال: فوموا لنا أي اختبزوا. قال القراء: هي لغة قديمة.
وقال عطاء وقتادة: الفوم كل حب يختبز. مسألة- اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول. فذهب جمهور العلماء إلى إباحة ذلك، للأحاديث الثابتة في ذلك. وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضا- إلى المنع، وقالوا: كل ما منع من إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به. واحتجوا بأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماها خبيثة، والله عز وجل قد وصف نبيه عليه السلام بأنه يحرم الخبائث. ومن الحجة للجمهور ما ثبت عن جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى ببدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا، قال: فأخبر بما فيها من البقول، فقال: «قربوها» إلى بعض أصحابه كان معه فلما راه كره أكلها، قال: «كل فإني أناجي من لا تناجي». أخرجه مسلم وأبو داود. فهذا بين في الخصوص له والإباحة لغيره.
وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي أيوب أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل على أبي أيوب، فصنع للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاما فيه ثوم، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل له: لم يأكل. ففزع وصعد إليه فقال: إحرام هو؟ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا ولكني أكرهه». قال فإني أكره ما تكره أو ما كرهت، قال: وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤتى يعني يأتيه الوحي فهذا نص على عدم التحريم. وكذلك ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أكلوا الثوم زمن خيبر وفتحها: «أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها». فهذه الأحاديث تشعر بان الحكم خاص به، إذ هو المخصوص بمناجاة الملك. لكن قد علمنا هذا الحكم في حديث جابر بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم حيث قال: «من أكل من هذه البقلة الثوم وقال مرة: من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم».
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث فيه طول: إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم. ولقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فاخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخا. خرجه مسلم.
قوله تعالى: {وَعَدَسِها وَبَصَلِها} العدس معروف. والعدسة: بثرة تخرج بالإنسان، وربما قتلت. وعدس: زجر للبغال، قال:
عدس ما لعباد عليك إمارة *** نجوت وهذا تحملين طليق
والعدس: شدة الوطي، والكدح أيضا، يقال: عدسة. وعدس في الأرض: ذهب فيها. وعدست إليه المنية أي سارت، قال الكميت:
أكلفها هول الظلام ولم أزل *** أخا الليل معدوسا إلي وعادسا
أي يسار إلي بالليل. وعدس: لغة في حدس، قاله الجوهري. ويؤثر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث على أنه قال: «عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس وإنه يرق القلب ويكثر الدمعة فإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى ابن مريم»، ذكره الثعلبي وغيره. وكان عمر بن عبد العزيز يأكل يوما خبزا بزيت، ويوما بلحم، ويوما بعدس. قال الحليمي: والعدس والزيت طعام الصالحين، ولو لم يكن له فضيلة إلا أنه ضيافة إبراهيم عليه السلام في مدينته لا تخلو منه لكان فيه كفاية. وهو مما يخفف البدن فيخف للعبادة، ولا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم. والحنطة من جملة الحبوب وهي الفوم على الصحيح، والشعير قريب منها وكان طعام أهل المدينة، كما كان العدس من طعام قرية إبراهيم عليه السلام، فصار لكل واحد من الحبتين بأحد النبيين عليهما السلام فضيلة. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشبع هو واهلة من خبز بر ثلاثة أيام متتابعة منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله عز وجل.
قوله تعالى: {قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} الاستبدال: وضع الشيء موضع الآخر، ومنه البدل، وقد تقدم. و{أَدْنى} مأخوذ عند الزجاج من الدنو أي القرب في القيمة، من قولهم: ثوب مقارب، أي قليل الثمن.
وقال علي بن سليمان: هو مهموز من الدنيء البين الدناءة بمعنى الأخس، إلا أنه خفف همزته.
وقيل: هو مأخوذ من الدون أي الأحط، فأصله أدون، أفعل، قلب فجاء أفلع، وحولت الواو ألفا لتطرفها. وقرى في الشواذ {أدنى}. ومعنى الآية: أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير. واختلف في الوجوه التي توجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه وهى خمسة: الأول- أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المن والسلوى كانا أفضل، قاله الزجاج.
الثاني- لما كان المن والسلوى طعاما من الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوه عار من هذه الخصائل كان أدنى في هذا الوجه.
الثالث- لما كان ما من الله به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة.
الرابع- لما كان ما أعطوا لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوه لا يجئ إلا بالحرث والزراعة والتعب كان أدنى.
الخامس- لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، الحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه، كانت أدنى من هذا الوجه.
مسألة: في هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب الحلوى والعسل، ويشرب الماء البارد العذب، وسيأتي هذا المعنى في المائدة والنحل إن شاء الله مستوفى.
قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْراً} تقدم معنى الهبوط، وهذا أمر معناه التعجيز، كقوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً} [الإسراء: 50] لأنهم كانوا في التيه وهذا عقوبة لهم.
وقيل: إنهم أعطوا ما طلبوه. و{مِصْراً} بالتنوين منكرا قراءة الجمهور، وهو خط المصحف. قال مجاهد وغيره: فمن صرفها أراد مصرا من الأمصار غير معين.
وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: {اهْبِطُوا مِصْرا} قال: مصرا من هذه الأمصار. وقالت طائفة ممن صرفها أيضا: أراد مصر فرعون بعينها. استدل الأولون بما اقتضاه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه. واستدل الآخرون بما في القرآن من أن الله أورث بني إسرائيل ديار ال فرعون وآثارهم، وأجازوا صرفها. قال الأخفش والكسائي: لخفتها وشبهها بهند ودعد، وأنشد:
لم تتلفع بفضل مئزرها *** دعد ولم تسق دعد في العلب
فجمع بين اللغتين. وسيبويه والخليل والفراء لا يجيزون هذا، لأنك لو سميت امرأة بزيد لم تصرف.
وقال غير الأخفش: أراد المكان فصرف. وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وطلحة: {مصر} بترك الصرف. وكذلك هي في مصحف أبى بن كعب وقراءة ابن مسعود. وقالوا: هي مصر فرعون. قال أشهب قال لي مالك: هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون، ذكره ابن عطية والمصر أصله في اللغة الحد. ومصر الدار: حدودها. قال ابن فارس ويقال: إن أهل هجر يكتبون في شروطهم اشترى فلان الدار بمصورها أي حدودها، قال عدي:
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به *** بين النهار وبين الليل قد فصلا
قوله تعالى: {فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ} {ما} نصب بإن، وقرأ ابن وثاب والنخعي {سألتم} بكسر السين، يقال: سألت وسلت بغير همز. وهو من ذوات الواو، بدليل قولهم: يتساولون. ومعنى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} أي ألزموهما وقضى عليهم بهما، مأخوذ من ضرب القباب، قال الفرزدق في جرير:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها *** وقضى عليك به الكتاب المنزل
وضرب الحاكم على اليد، أي حمل وألزم. والذلة: الذل والصغار. والمسكنة: الفقر. فلا يوجد يهودي وإن كان غنيا خاليا من زي الفقر وخضوعه ومهانته.
وقيل: الذلة فرض الجزية، عن الحسن وقتادة. والمسكنة الخضوع، وهى مأخوذة من السكون، أي قلل الفقر حركته، قاله الزجاج.
وقال أبو عبيدة: الذلة الصغار. والمسكنة مصدر المسكين.
وروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} قال: هم أصحاب القبالات.
قوله تعالى: {وَباؤُ} أي انقلبوا ورجعوا، أي لزمهم ذلك. ومنه قول عليه السلام في دعائه ومناجاته: «أبوء بنعمتك علي» أي أقر بها وألزمها نفسي. وأصله في اللغة الرجوع، يقال باء بكذا، أي رجع به، وباء إلى المباءة وهي المنزل أي رجع. والبواء: الرجوع بالقود. وهم في هذا الامر بواء، أي سواء، يرجعون فيه إلى معنى واحد.
وقال الشاعر:
ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي *** محارمنا لا يبوء الدم بالدم
أي لا يرجع الدم بالدم في القود. وقال:
فآبوا بالنهاب وب


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 4:55 pm
المشاركة رقم: #14
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)




{فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}
قوله تعالى: {فَجَعَلْناها نَكالًا} نصب على المفعول الثاني.
وفي المجعول نكالا أقاويل، قيل: العقوبة.
وقيل: القرية، إذ معنى الكلام يقتضيها.
وقيل: الامة التي مسخت.
وقيل: الحيتان، وفيه بعد. والنكال: الزجر والعقاب. والنكل والأنكال: القيود. وسميت القيود أنكالا لأنها ينكل بها، أي يمنع. ويقال للجام الثقيل: نكل ونكل، لأن الدابة تمنع به. ونكل عن الامر ينكل، ونكل ينكل إذا أمتنع. والتنكيل: إصابة الاعداء بعقوبة تنكل من وراءهم، أي تجبنهم.
وقال الأزهري: النكال العقوبة. ابن دريد: والمنكل: الشيء الذي ينكل بالإنسان، قال: فارم على أقفائهم بمنكل قوله: {لِما بَيْنَ يَدَيْها} قال ابن عباس والسدي: لما بين يدي المسخة ما قبلها من ذنوب القوم. {وَما خَلْفَها} لمن يعمل مثل تلك الذنوب. قال الفراء: جعلت المسخة نكالا لما مضى من الذنوب، ولما يعمل بعدها ليخافوا المسخ بذنوبهم. قال ابن عطية: وهذا قول جيد، والضميران للعقوبة.
وروى الحكم عن مجاهد عن ابن عباس: لمن حضر معهم ولمن يأتي بعدهم. واختاره النحاس، قال: وهو أشبه بالمعنى، والله أعلم. وعن ابن عباس أيضا: {لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها} من القرى.
وقال قتادة: {لِما بَيْنَ يَدَيْها} من ذنوبهم {وَما خَلْفَها} من صيد الحيتان.
قوله تعالى: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} عطف على نكال، ووزنها مفعلة من الاتعاظ والانزجار. والوعظ: التخويف. والعظة الاسم. قال الخليل: الوعظ التذكير بالخير فيما يرق له القلب. قال الماوردي: وخص المتقين وإن كانت موعظة للعالمين لتفردهم بها عن الكافرين المعاندين. قال ابن عطية: واللفظ يعم كل متق من كل أمة.
وقال الزجاج {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} لامة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينتهكوا من حرم الله عز وجل ما نهاهم عنه، فيصيبهم ما أصاب أصحاب السبت إذ انتهكوا حرم الله في سبتهم.

{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} حكي عن أبي عمرو أنه قرأ {يأمركم} بالسكون، وحذف الضمة من الراء لثقلها. قال أبو العباس المبرد: لا يجوز هذا لان الراء حرف الاعراب، وإنما الصحيح عن أبي عمرو أنه كان يختلس الحركة. {أَنْ تَذْبَحُوا} في موضع نصب بـ {يَأْمُرُكُمْ} أي بأن تذبحوا. {بَقَرَةً} نصب ب {تَذْبَحُوا}. وقد تقدم معنى الذبح فلا معنى لإعادته.
الثانية: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} مقدم في التلاوة وقوله: {قَتَلْتُمْ نَفْساً} مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة. ويجوز أن يكون قوله: {قَتَلْتُمْ} في النزول مقدما، والام بالذبح مؤخرا. ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع من أمر القتل، فأمروا أن يضربوه ببعضها، ويكون {وَإِذْ قَتَلْتُمْ} مقدما في المعنى على القول الأول حسب ما ذكرنا، لأن الواو لا توجب الترتيب. ونظيره في التنزيل في قصة نوح بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله: {حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} إلى قوله: {إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]. فذكر إهلاك من هلك منهم ثم عطف عليه بقوله: {وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها} [هود: 41]. فذكر الركوب متأخرا في الخطاب، ومعلوم أن ركوبهم كال قبل الهلاك. وكذلك قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً} [هود: 19]. وتقديره: أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، ومثله في القرآن كثير.
الثالثة: لا خلاف بين العلماء أن الذبح أولى في الغنم، والنحر أولى في الإبل، والتخير في البقر.
وقيل: الذبح أولى، لأنه الذي ذكره الله، ولقرب المنحر من المذبح. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا حرم أكل ما نحر مما يذبح، أو ذبح مما ينحر. وكره مالك ذلك. وقد يكره المرء الشيء ولا يحرمه. وسيأتي في سورة المائدة أحكام الذبح والذابح وشرائطهما عند قوله تعالى: {إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] مستوفى إن شاء الله تعالى. قال الماوردي: وإنما أمروا- والله أعلم- بذبح بقرة دون غيرها، لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كان يرونه من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته. وهذا المعنى علة في ذبح البقرة، وليس بعلة في جواب السائل، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حي، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها.
الرابعة: قوله تعالى: {بَقَرَةً} {بقرة} البقرة اسم للأنثى، والثور اسم للذكر مثل ناقة وجمل وامرأة ورجل.
وقيل: البقرة واحد البقر، الأنثى والذكر سواء. وأصله من قولك:
بقر بطنه، أي شقه، فالبقرة تشق الأرض بالحرث وتثيره. ومنه الباقر لابي جعفر محمد بن علي زين العابدين، لأنه بقر العلم وعرف أصله، أي شقه. والبقيرة: ثوب يشق فتلقيه المرأة في عنقها من غير كمين.
وفي حديث ابن عباس في شأن الهدهد: «فبقر الأرض». قال شمر: بقر نظر موضع الماء، فرأى الماء تحت الأرض. قال الأزهري: البقر اسم للجنس وجمعه باقر. ابن عرفة: يقال بقير وباقر وبيقور. وقرأ عكرمة وابن يعمر {إن الباقر}. والثور: واحد الثيران. والثور: السيد من الرجال. والثور القطعة من القط. والثور: الطحلب. وثور: جبل. وثور: قبيلة من العرب.
وفي الحديث: «ووقت العشاء ما لم يغب ثور الشفق» يعني انتشاره، يقال: ثار يثور ثورا وثورانا إذا انتشر في الأفق.
وفي الحديث: «من أراد العلم فليثور القرآن». قال شمر: تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء به.
قوله تعالى: {قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً} هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لما قال لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] وذلك أنهم وجدوا قتيلا بين أظهرهم قيل: أسمه عاميل- واشتبه أمر قاتله عليهم، ووقع بينهم خلاف، فقالوا: نقتتل ورسول الله بين أظهرنا، فأتوه وسألوه البيان- وذلك قبل نزول القسامة في التوراة، فسألوا موسى أن يدعو الله- فسأل موسى عليه السلام ربه فأمرهم بذبح بقرة، فلما سمعوا ذلك من موسى وليس في ظاهره جواب عما سألوه عنه واحتكموا فيه عنده، قالوا: أتتخذنا هزؤا؟ والهزء: اللعب والسخرية، وقد تقدم. وقرأ الجحدري {أيتخذنا} بالياء، أي قال ذلك بعضهم لبعض فأجابهم موسى عليه السلام بقوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} [البقرة: 67] لان الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل، فاستعاذ منه عليه السلام، لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء. والجهل نقيض العلم. فاستعاذ من الجهل، كما جهلوا في قولهم: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً، لمن يخبرهم عن الله تعالى، وظاهر هذا القول يدل على فساد اعتقاد من قاله. ولا يصح إيمان من قال لنبي قد ظهرت معجزته،- وقال: إن الله يأمرك بكذا-: أتتخذنا هزؤا؟ ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجب تكفيره. وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية، على نحو ما قال القائل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قسمة غنائم حنين: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله. وكما قال له الآخر: اعدل يا محمد.
وفي هذا كله أدل دليل على قبح الجهل، وأنه مفسد للدين.
قوله تعالى: {هُزُواً} مفعول ثان، ويجوز تخفيف الهمزة تجعلها بين الواو والهمزة. وجعلها حفص واوا مفتوحة، لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة فهي تجري على البدل، كقوله: السُّفَهاءُ وَلكِنْ. ويجوز حذف الضمة من الزاي كما تحذفها من عضد، فتقول: هزؤا، كما قرأ أهل الكوفة، وكذلك {ولم يكن له كفؤا أحد}.
وحكى الأخفش عن عيسى بن عمر أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ففيه لغتان: التخفيف والتثقيل، نحو العسر واليسر والهزء. ومثله ما كان من الجمع على فعل ككتب وكتب، ورسل ورسل، وعون وعون. وأما قوله تعالى: {وجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً} [الزخرف: 15] فليس مثل هزء وكفء، لأنه على فعل من الأصل. على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. مسألة: في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه، وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد. وليس المزاح من الاستهزاء بسبيل، ألا ترى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمزح والأئمة بعده. قال ابن خويز منداد: وقد بلغنا أن رجلا تقدم إلى عبيد الله بن الحسن وهو قاضي الكوفة فمازحه عبيد الله فقال: جبتك هذه من صوف نعجة أو صوف كبش؟ فقال له: لا تجهل أيها القاضي! فقال له عبيد الله: وأين وجدت المزاج جهلا! فتلا عليه هذه الآية، فأعرض عنه عبيد الله، لأنه راه جاهلا لا يعرف المزح من الاستهزاء، وليس أحدهما من الآخر بسبيل.

{قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68)}
قوله تعالى: {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ} هذا تعنيت منهم وقلة طواعية، ولو امتثلوا الامر وذبحوا أي بقرة كانت لحصل المقصود، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. ونحو ذلك روى الحسن البصري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولغة بنى عامر {ادْعُ}. وقد تقدم. و{يبين} مجزوم على جواب الامر {ما هِيَ} ابتداء وخبر. وماهية الشيء: حقيقته وذاته التي هو عليها.
قوله تعالى: {قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ} في هذا دليل على جواز النسخ قبل وقت الفعل، لأنه لما أمر ببقرة اقتضى أي بقرة كانت، فلما زاد في الصفة نسخ الحكم الأول بغيره، كما لو قال: في ثلاثين من الإبل بنت مخاض، ثم نسخه بابنة لبون أو حقة. وكذلك هاهنا لما عين الصفة صار ذلك نسخا للحكم المتقدم. والفارض: المسنة. وقد فرضت تفرض فروضا، أي أسنت. ويقال للشيء القديم فارض، قال الراجز:
شيب أصداغي فراسي أبيض *** محامل فيها رجال فرض
يعنى هرمي، قال آخر:
لعمرك قد أعطيت جارك فارضا *** تساق إليه ما تقوم على رجل
أي قديما، وقال آخر:
يا رب ذي ضغن على فارض *** له قروء كقروء الحائض
أي قديم. و{لا فارِضٌ} رفع على الصفة لبقرة. {وَلا بِكْرٌ} عطف.
وقيل: {لا فارِضٌ} خبر مبتدأ مضمر، أي لا هي فارض وكذا {لا ذَلُولٌ}، وكذلك {لا تَسْقِي الْحَرْثَ} وكذلك {مُسَلَّمَةٌ} فاعلمه.
وقيل: الفارض التي قد ولدت بطونا كثيرة فيتسع جوفها لذلك، لأن معنى الفارض في اللغة الواسع، قاله بعض المتأخرين. والبكر: الصغيرة التي لم تحمل.
وحكى القتبي أنها التي ولدت. والبكر: الأول من الأولاد، قال:
يا بكر بكرين ويا خلب الكبد *** أصبحت منى كذراع من عضد
والبكر أيضا في إناث البهائم وبني آدم: ما لم يفتحله الفحل، وهي مكسورة الباء. وبفتحها الفتى من الإبل. والعوان: النصف التي قد ولدت بطنا أو بطنين، وهي أقوى ما تكون من البقر وأحسنه، بخلاف الخيل، قال الشاعر يصف فرسا:
كميت بهيم اللون ليس بفارض *** ولا بعوان ذات لون مخصف فرس
أخصف: إذا ارتفع البلق من بطنه إلى جنبه.
وقال مجاهد: العوان من البقرة هي التي قد ولدت مرة بعد مرة. وحكاه أهل اللغة. ويقال: إن العوان النخلة الطويلة، وهي فيما زعموا لغة يمانية. وحرب عوان: إذا كان قبلها حرب بكر، قال زهير:
إذا لقحت حرب عوان مضرة *** ضروس تهر الناس أنيابها عصل
أي لا هي صغيرة ولا هي مسنة، أي هي عوان، وجمعها عون بضم العين وسكون الواو وسمع عون بضم الواو كرسل. وقد تقدم.
وحكى الفراء من العوان عونت تعوينا.
قوله تعالى: {فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ} تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت فما تركوه. وهذا يدل على أن مقتضى الامر الوجوب كما تقوله الفقهاء، وهو الصحيح على ما هو مذكور في أصول الفقه، وعلى أن الامر على الفور، وهو مذهب أكثر الفقهاء أيضا. ويدل على صحة ذلك أنه تعالى استقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمروا به فقال: {فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71].
وقيل: لا، بل على التراخي، لأنه لم يعنفهم على التأخير والمراجعة في الخطاب. قال ابن خويز منداد.


*************


{قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)}
قوله تعالى: {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها} {ما} استفهام مبتدأة و{لَوْنُها} الخبر. ويجوز نصب {لونها} بـ {يبين}، وتكون {ما} زائدة. واللون واحد الألوان وهو هيئة كالسواد والبياض والحمرة. واللون: النوع. وفلان متلون: إذا كان لا يثبت على خلق واحد وحال واحد، قال:
كل يوم تتلون *** غير هذا بك أجمل
ولون البسر تلوينا: إذا بدا فيه أثر النضج. واللون: الدقل، وهو ضرب من النخل. قال الأخفش: هو جماعة، واحدها لينة. قوله: {صَفْراءُ} جمهور المفسرين أنها صفراء اللون، من الصفرة المعروفة. قال مكي عن بعضهم: حتى القرن والظلف.
وقال الحسن وابن جبير: كانت صفراء القرن والظلف فقط. وعن الحسن أيضا: {صَفْراءُ} معناه سوداء، قال الشاعر:
تلك خيلي منه وتلك ركابي *** هن صفر أولادها كالزبيب
قلت: والأول أصح لأنه الظاهر، وهذا شاذ لا يستعمل مجازا إلا في الإبل، قال الله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 33] وذلك أن السود من الإبل سوادها صفرة. ولو أراد السواد لما أكده بالفقوع، وذلك نعت مختص بالصفرة، وليس يوصف السواد بذلك تقول العرب: أسود حالك وحلكوك وحلكوك، ودجوجي وغربيب، وأحمر قانئ، وأبيض ناصع ولهق ولهاق ويقق، وأخضر ناضر، وأصفر فاقع، هكذا نص نقلة اللغة عن العرب. قال الكسائي: يقال فقع لونها يفقع فقوعا إذا خلصت صفرته. والافقاع: سوء الحال. وفواقع الدهر بوائقه. وفقع بأصابعه إذا صوت، ومنه حديث ابن عباس: نهى عن التفقيع في الصلاة، وهي الفرقعة، وهي غمز الأصابع حتى تنقض. ولم ينصرف {صَفْراءُ} في معرفة ولا نكرة، لأن فيها ألف التأنيث وهى ملازمة فخالفت الهاء، لأن ما فيه الهاء ينصرف في النكرة، كفاطمة وعائشة.
قوله تعالى: {فاقِعٌ لَوْنُها} يريد خالصا لونها لا لون فيها سوى لون جلدها. {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} قال وهب: كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها، ولهذا قال ابن عباس: الصفرة تسر النفس. وحض على لباس النعال الصفر، حكاه عنه النقاش.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من لبس نعلي جلد أصفر قل همه، لأن الله تعالى يقول: {صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} حكاه عنه الثعلبي. ونهى ابن الزبير ومحمد بن أبي كثير عن لباس النعال السود، لأنها تهم. ومعنى: {تَسُرُّ} تعجب.
وقال أبو العالية: معناه في سمتها ومنظرها فهي ذات وصفين، والله أعلم.

{قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)}
قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا} سألوا سؤالا رابعا، ولم يمتثلوا الامر بعد البيان. وذكر البقر لأنه بمعنى الجمع، ولذلك قال: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا} فذكره للفظ تذكير البقر. قال قطرب: جمع البقرة باقر وباقور وبقر.
وقال الأصمعي: الباقر جمع باقرة، قال: ويجمع بقر على باقورة، حكاه النحاس.
وقال الزجاج: المعنى إن جنس البقر. وقرأ الحسن فيما ذكر النحاس، والأعرج فيما ذكر الثعلبي {إن البقر تشابه} بالتاء وشد الشين، جعله فعلا مستقبلا وأنثه. والأصل تتشابه، ثم أدغم التاء في الشين. وقرأ مجاهد {تشبه} كقراءتهما، إلا أنه بغير ألف. وفى مصحف أبي {تشابهت} بتشديد الشين. قال أبو حاتم: وهو غلط، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلا في المضارعة. وقرأ يحيى بن يعمر {إن الباقر يشابه} جعله فعلا مستقبلا، وذكر البقر وأدغم. ويجوز {إن البقر تشابه} بتخفيف الشين وضم الهاء، وحكاها الثعلبي عن الحسن. النحاس: ولا يجوز {يشابه} بتخفيف الشين والياء، وإنما جاز في التاء لان الأصل تتشابه فحذفت لاجتماع. التائين. والبقر والباقر والبيقور والبقير لغات بمعنى، والعرب تذكره وتؤنثه، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في: {تَشابَهَ}.
وقيل: إنما قالوا: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا} لان وجوه البقر تتشابه، ومنه حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ذكر فتنا كقطع الليل تأتي كوجوه البقر. يريد أنها يشبه بعضها بعضا. ووجوه البقر تتشابه، ولذلك قالت بنو إسرائيل: إن البقر تشابه علينا.
قوله تعالى: {وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} استثناء منهم، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة ما وانقياد، ودليل ندم على عدم موافقة الامر. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لو ما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا». وتقدير الكلام وإنا لمهتدون إن شاء الله. فقدم على ذكر الاهتداء اهتماما به. و{شاءَ} في موضع جزم بالشرط، وجوابه عند سيبويه الجملة {إِنَّ} وما عملت فيه. وعند أبي العباس المبرد محذوف.

{قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)}
قوله تعالى: {قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} قرأ الجمهور {لا ذَلُولٌ} بالرفع على الصفة لبقرة. قال الأخفش: {لا ذَلُولٌ} نعته ولا يجوز نصبه. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {لا ذلول} بالنصب على النفي والخبر مضمر. ويجوز لا هي ذلول، لا هي تسقى الحرث، هي مسلمة. ومعنى: {لا ذَلُولٌ} لم يذللها العمل، يقال: بقرة مذللة بينة الذل بكسر الذال. ورجل ذليل بين الذل بضم الذال. أي هي بقرة صعبة غير ريضة لم تذلل بالعمل.
قوله تعالى: {تُثِيرُ الْأَرْضَ} {تُثِيرُ} في موضع رفع على الصفة للبقرة أي هي بقرة لا ذلول مثيرة. قال الحسن: وكانت تلك البقرة وحشية ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض ولا تسقى الحرث أي لا يسنى بها لسقي الزرع ولا يسقى عليها. والوقف هاهنا حسن.
وقال قوم: {تُثِيرُ} فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث لها وأنها كانت تحرث ولا تسقى. والوقف على هذا التأويل: {لا ذَلُولٌ} والقول الأول أصح لوجهين: أحدهما: ما ذكره النحاس عن علي بن سليمان أنه قال: لا يجوز أن يكون {تُثِيرُ} مستأنفا، لأن بعده {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ}، فلو كان مستأنفا لما جمع بين الواو و{لا}.
الثاني أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الاثارة قد ذللتها، والله تعالى قد نفى عنها الذل بقوله: {لا ذَلُولٌ}.
قلت: ويحتمل أن تكون {تُثِيرُ الْأَرْضَ} في غير العمل مرحا ونشاطا، كما قال امرؤ القيس:
يهيل ويذري تربه ويثيره *** إثارة نباث الهواجر مخمس
فعلى هذا يكون {تُثِيرُ} مستأنفا، {وَلا تَسْقِي} معطوف عليه، فتأمله. وإثارة الأرض: تحريكها وبحثها، ومنه الحديث: «أثيروا القرآن فإنه علم الأولين والآخرين» وفي رواية أخرى: «من أراد العلم فليثور القرآن» وقد تقدم.
وفي التنزيل: {وَأَثارُوا الْأَرْضَ} [الروم: 9] أي قلبوها للزراعة. والحرث: ما حرث وزرع. وسيأتي. مسألة: في هذه الآية أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السلم فيه. وبه قال مالك وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي. وكذلك كل ما يضبط بالصفة، لوصف الله تعالى البقرة في كتابه وصفا يقوم مقام التعيين، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها». أخرجه مسلم. فجعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصفة تقوم مقام الرؤية، وجعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دية الخطأ في ذمة من أوجبها عليه دينا إلى أجل ولم يجعلها على الحلول. وهو يرد قول الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح حيث قالوا: لا يجوز السلم في الحيوان. وروي عن ابن مسعود وحذيفة وعبد الرحمن بن سمرة، لأن الحيوان لا يوقف على حقيقة صفته من مشى وحركة، وكل ذلك يزيد في ثمنه ويرفع من قيمته. وسيأتي حكم السلم وشروطه في آخر السورة في آية الدين، إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {مُسَلَّمَةٌ} أي هي مسلمة. ويجوز أن يكون وصفا، أي أنها بقرة مسلمة من العرج وسائر العيوب، قاله قتادة وأبو العالية. ولا يقال: مسلمة من العمل لنفى الله العمل عنها.
وقال الحسن: يعني سليمة القوائم لا أثر فيها للعمل.
قوله تعالى: {لا شِيَةَ فِيها} أي ليس فيها لون يخالف معظم لونها، هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد، كما قال: {فاقِعٌ لَوْنُها}. وأصل {شِيَةَ} وشي حذفت الواو كما حذفت من يشي، والأصل يوشى، ونظيره الزنة والعدة والصلة. والشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين مختلفين. وثور موشى: في وجهه وقوائمه سواد. قال ابن عرفة: الشية اللون. ولا يقال لمن نم: واش، حتى يغير الكلام ويلونه فجعله ضروبا ويزين منه ما شاء. والوشي: الكثرة. ووشى بنو فلان: كثروا. ويقال: فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وغراب أبقع، وثور أشيه. كل ذلك بمعنى البلقة، هكذا نص أهل اللغة. وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم، ودين الله يسر، والتعمق في سؤال الأنبياء وغيرهم من العلماء مذموم، نسأل الله العافية. وروي في قصص هذه البقرة روايات تلخيصها: أن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن، وكانت له عجلة فأرسلها في غيضة وقال: اللهم إنى أستودعك هذه العجلة لهذا الصبى. ومات الرجل، فلما كبر الصبي قالت له أمه وكان برا بها: إن أباك استودع الله عجلة لك فاذهب فخذها، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها وكانت مستوحشة فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل ووجدوا بقرة على الصفة التي أمروا بها، فساموه فاشتط عليهم. وكان قيمتها على ما روي عن عكرمة ثلاثة دنانير، فأتوا به موسى عليه السلام وقالوا: إن هذا اشتط علينا، فقال لهم: أرضوه في ملكه، فاشتروها منه بوزنها مرة، قاله عبيدة. السدي: بوزنها عشر مرات.
وقيل: بملء مسكها دنانير. وذكر مكي: أن هذه البقرة نزلت من السماء ولم تكن من بقر الأرض فالله أعلم.
قوله تعالى: {قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي بينت الحق، قاله قتادة.
وحكى الأخفش: {قالُوا الْآنَ} قطع ألف الوصل، كما يقال: يا الله.
وحكى وجها آخر {قالوا لان} بإثبات الواو. نظيره قراءة أهل المدينة وأبى عمرو {عادا لولى} وقرأ الكوفيون {قالوا الآن} بالهمز. وقراءة أهل المدينة {قال لان} بتخفيف الهمز مع حذف الواو لالتقاء الساكنين. قال الزجاج: {الْآنَ} مبني على الفتح لمخالفته سائر ما فيه الألف واللام، لأن الألف واللام دخلتا لغير عهد، تقول: أنت إلى الآن هنا، فالمعنى إلى هذا الوقت. فبنيت كما بنى هذا، وفتحت النون لالتقاء الساكنين. وهو عبارة عما بين الماضي والمستقبل.
قوله تعالى: {وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} أجاز سيبويه: كاد أن يفعل، تشبيها بعسى. وقد تقدم أول السورة. وهذا إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلة مبادرتهم إلى أمر الله.
وقال القرظي محمد بن كعب: لغلاء ثمنها.
وقيل: خوفا من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم، قاله وهب بن منبه.

*************

{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها} هذا الكلام مقدم على أول القصة، التقدير: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها. فقال موسى: إن الله يأمركم بكذا. وهذا كقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً} [الكهف: 1- 2] أي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، ومثله كثير، وقد بيناه أول القصة.
وفي سبب قتله قولان: أحدهما: لابنة له حسناء أحب أن يتزوجها ابن عمها فمنعه عمه، فقتله وحمله من قريته إلى قرية أخرى فألقاه هناك.
وقيل: ألقاه بين قريتين.
الثاني: قتله طلبا لميراثه، فإنه كان فقيرا وأدعى قتله على بعض الأسباط. قال عكرمة: كان لبنى إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا لكل باب قوم يدخلون منه، فوجدوا قتيلا في سبط من الأسباط، فادعى هؤلاء على هؤلاء، وأدعى هؤلاء على هؤلاء، ثم أتوا موسى يختصمون إليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] الآية. ومعنى: {فَادَّارَأْتُمْ} [البقرة: 72] الآية. اختلفتم وتنازعتم، قاله مجاهد. وأصله تدارأتم ثم أدغمت التاء في الدال، ولا يجوز الابتداء بالمدغم، لأنه ساكن فزيد ألف الوصل. {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ} ابتداء وخبر. {ما كُنْتُمْ} في موضع نصب بـ {مُخْرِجٌ}، ويجوز حذف التنوين على الإضافة. {تَكْتُمُونَ} جمله في موضع خبر كان والعائد محذوف التقدير تكتمونه. وعلى القول بأنه قتله طلبا لميراثه لم يرث قاتل عمد من حينئذ، قاله عبيدة السلماني. قال ابن عباس: قتل هذا الرجل عمه ليرثه. قال ابن عطية: وبمثله جاء شرعنا.
وحكى مالك رحمه الله في موطئه أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي كانت سبب ألا يرث قاتل، ثم ثبت ذلك الإسلام كما ثبت كثيرا من نوازل الجاهلية. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يرث قاتل العمد من الدية ولا من المال، إلا فرقة شذت عن الجمهور كلهم أهل بدع. ويرث قاتل الخطأ من المال ولا يرث من الدية في قول مالك والأوزاعي وأبي ثور والشافعي، لأنه لا يهتم على أنه قتله ليرثه ويأخذ ماله.
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي في قول له آخر: لا يرث القاتل عمدا ولا خطأ شيئا من المال ولا من الدية. وهو قول شريح وطاوس والشعبي والنخعي. ورواه الشعبي عن عمر وعلي وزيد قالوا: لا يرث القاتل عمدا ولا خطا شيئا. وروي عن مجاهد القولان جميعا. وقالت طائفة من البصريين: يرث قاتل الخطأ من الدية ومن المال جميعا، حكاه أبو عمر. وقول مالك أصح، على ما يأتي بيانه في آية المواريث إن شاء الله تعالى.

{فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}
قوله تعالى: {فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها}
قيل: باللسان لأنه آلة الكلام.
وقيل: بعجب الذنب، إذ فيه يركب خلق الإنسان.
وقيل: بالفخذ.
وقيل: بعظم من عظامها، والمقطوع به عضو من أعضائها، فلما ضرب به حيي وأخبر بقاتله ثم عاد ميتا كما كان. مسألة: استدل مالك رحمه الله في رواية ابن وهب وابن القاسم على صحة القول بالقسامة بقول المقتول: دمى عند فلان، أو فلان قتلني. ومنعه الشافعي وجمهور العلماء، قالوا: وهو الصحيح، لأن قول المقتول: دمي عند فلان، أو فلان قتلني، خبر يحتمل الصدق والكذب. ولا خلاف أن دم المدعى عليه معصوم ممنوع إباحته إلا بيقين، ولا يقين مع الاحتمال، فبطل اعتبار قول المقتول دمى عند فلان. وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة وأخبر تعالى أنه يحييه، وذلك يتضمن الاخبار بقاتله خبرا جزما لا يدخله احتمال، فافترقا. قال ابن العربي: المعجزة كانت في إحيائه، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد. وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه، فلعله أمرهم بالقسامة معه واستبعد ذلك البخاري والشافعي وجماعة من العلماء فقالوا: كيف يقبل قوله في الدم وهؤلاء لا يقبل قوله في درهم. مسألة: اختلف العلماء في الحكم بالقسامة، فروي عن سالم وأبى قلابة وعمر بن عبد العزيز والحكم بن عيينة التوقف في الحكم بها. وإليه مال البخاري، لأنه أتى بحديث القسامة في غير موضعه.
وقال الجمهور: الحكم بالقسامة ثابت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم اختلفوا في كيفية الحكم بها، فقالت طائفة: يبدأ فيها المدعون بالايمان فإن حلفوا استحقوا، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرءوا. هذا قول أهل المدينة والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور. وهو مقتضى حديث حويصة ومحيصة، خرجه الأئمة مالك وغيره. وذهبت طائفة إلى أنه يبدأ بالايمان المدعى عليهم فيحلفون ويبرءون. روي هذا عن عمر بن الخطاب والشعبي والنخعي، وبه قال الثوري والكوفيون، واحتجوا بحديث شعبة بن عبيد عن بشير بن يسار، وفيه: فبدأ بالايمان المدعى عليهم وهم اليهود. وبما رواه أبو داود عن الزهري عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن رجال من الأنصار أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لليهود وبدأ بهم: «أيحلف منكم خمسون رجلا». فأبوا، فقال للأنصار: «استحقوا» فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله! فجعلها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دية على يهود، لأنه وجد بين أظهرهم. وبقوله عليه السلام: «ولكن اليمين على المدعى عليه» فعينوا. قالوا: وهذا هو الأصل المقطوع به في الدعاوى الذي نبه الشرع على حكمته بقوله عليه السلام: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه» رد عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا: حديث سعيد بن عبيد في تبديه اليهود وهم عند أهل الحديث، وقد أخرجه النسائي وقال: ولم يتابع سعيد في هذه الرواية فيما أعلم، وقد أسند حديث بشير عن سهل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدأ بالمدعين يحيى بن سعيد وابن عيينة وحماد بن زيد وعبد الوهاب الثقفي وعيسى بن حماد وبشر بن المفضل، فهؤلاء سبعة. وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد. قال أبو محمد الاصيلي: فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة، مع أن سعيد بن عبيد قال في حديثه: فوداه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مائة من إبل الصدقة، والصدقة لا تعطى في الديات ولا يصالح بها عن غير أهلها، وحديث أبي داود مرسل فلا تعارض به الأحاديث الصحاح المتصلة، وأجابوا عن التمسك بالأصل بأن هذا الحكم أصل بنفسه لحرمة الدماء. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، والحكم بظاهر ذلك يجب، إلا أن يخص الله في كتابه أو على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكما في شيء من الأشياء فيستثنى من جملة هذا الخبر. فمما دل عليه الكتاب إلزام القاذف حد المقذوف إذا لم يكن معه أربعة شهداء يشهدون له على صدق ما رمى به المقذوف وخص من رمى زوجته بأن أسقط عنه الحد إذا شهد أربع شهادات. ومما خصته السنة حكم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقسامة. وقد روي ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة». خرجه الدارقطني. وقد احتج مالك لهذه المسألة في موطئة بما فيه كفاية، فتأمله هناك. مسالة: واختلفوا أيضا في وجوب القود بالقسامة، فأوجبت طائفة القود بها، وهو قول مالك والليث وأحمد وأبي ثور، لقوله عليه السلام لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم».
وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل رجلا بالقسامة من بنى نضر بن مالك. قال الدارقطني: نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيحة، وكذلك أبو عمر بن عبد البر يصحح حديث عمرو بن شعيب، ويحتج به، وقال البخاري: رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون به قاله الدارقطني في السنن. وقالت طائفة: لا قود بالقسامة، وإنما توجب الدية. روي هذا عن عمر وابن عباس، وهو قول النخعي والحسن، وإليه ذهب الثوري والكوفيون الشافعي وإسحاق، واحتجوا بما رواه مالك عن ابن أبي ليلى بن عبد الله عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله للأنصار: «إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب». قالوا: وهذا يدل على الدية لا على القود، قالوا: ومعنى قوله عليه السلام: «وتستحقون دم صاحبكم» دية دم قتيلكم لان اليهود ليسوا بأصحاب لهم، ومن استحق دية صاحبه فقد استحق دمه، لأن الدية قد تؤخذ في العمد فيكون ذلك استحقاقا للدم. مسألة: الموجب للقسامة اللوث ولا بد منه. واللوث: أمارة تغلب على الظن صدق مدعى القتل، كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل، أو يرى المقتول يتشحط في دمه، والمتهم نحوه أو قربه عليه آثار القتل. وقد اختلف في اللوث والقول به، فقال مالك: هو قول المقتول دمى عند فلان. والشاهد العدل لوث. كذا في رواية ابن القاسم عنه.
وروى أشهب عن مالك أنه يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة.
وروى ابن وهب أن شهادة النساء لوث. وذكر محمد عن ابن القاسم أن شهادة المرأتين لوث دون شهادة المرأة الواحدة. قال القاضي أبو بكر بن العربي: اختلف في اللوث اختلافا كثيرا، مشهور المذهب أنه الشاهد العدل.
وقال محمد: هو أحب إلي. قال: واخذ به ابن القاسم وابن عبد الحكم. وروي عن عبد الملك بن مروان: أن المجروح أو المضروب إذا قال دمى عند فلان ومات كانت القسامة. وبه قال مالك والليث بن سعد. واحتج مالك بقتيل بنى إسرائيل أنه قال: قتلني فلان.
وقال الشافعي: اللوث الشاهد العدل، أو يأتي ببينة وإن لم يكونوا عدولا. وأوجب الثوري والكوفيون القسامة بوجود القتيل فقط، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد، قالوا: إذا وجد قتيل في محلة قوم وبه أثر حلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه ويكون عقله عليهم، وإذا لم يكن به أثر لم يكن على العاقلة شيء إلا أن تقوم البينة على واحد.
وقال سفيان: وهذا مما أجمع عليه عندنا، وهو قول ضعيف خالقوا فيه أهل العلم، ولا سلف لهم فيه، وهو مخالف للقرآن والسنة، ولان فيه إلزام العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم. وذهب مالك والشافعي إلى أن القتيل إذا وجد في محلة قوم أنه هدر، لا يؤخذ به أقرب الناس دارا، لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به، فلا يؤاخذ بمثل ذلك حتى تكون الأسباب التي شرطوها في وجوب القسامة. وقد قال عمر بن عبد العزيز: هذا مما يؤخر فيه القضاء حتى يقضى الله فيه يوم القيامة. مسأله: قال القاسم بن مسعدة قلت للنسائي: لا يقول مالك بالقسامة إلا باللوث، فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه؟ قال النسائي: أنزل مالك العداوة التي كانت بينهم وبين اليهود بمنزلة اللوث، وأنزل اللوث أو قول الميت بمنزلة العداوة. قال ابن أبي زيد: واصل هذا في قصة بنى إسرائيل حين أحيا الله الذي ضرب ببعض البقرة فقال: قتلني فلان، وبأن العداوة لوث. قال الشافعي: ولا نرى قول المقتول لوثا، كما تقدم. قال الشافعي: إذا كان بين قوم وقوم عداوة ظاهرة كالعداوة التي كانت بين الأنصار واليهود، ووجد قتيل في أحد الفريقين ولا يخالطهم غيرهم وجبت القسامة فيه. مسألة: واختلفوا في القتيل بوجد في المحلة التي إكراها أربابها، فقال أصحاب الرأي: هو على أهل الخطة وليس على السكان شي، فإن باعوا دورهم ثم وجد قتيل فالدية على المشتري وليس على السكان شي، وإن كان أرباب الدور غيبا وقد أكروا دورهم فالقسامة والديه على أرباب الدور الغيب وليس على السكان الذين وجد القتيل بين أظهرهم شي. ثم رجع يعقوب من بينهم عن هذا القول فقال: القسامة والديه على السكان في الدور.
وحكى هذا القول عن ابن أبي ليلى، واحتج بأن أهل خيبر كانوا عمالا سكانا يعملون فوجد القتيل فيهم. قال الثوري ونحن نقول: هو على أصحاب الأصل، يعني أهل الدور.
وقال أحمد: القول قول ابن أبي ليلى في القسامة لا في الدية.
وقال الشافعي: وذلك كله سواء، ولا عقل ولا قود إلا ببينة تقوم، أو ما يوجب القسامة فيقسم الأولياء. قال ابن المنذر: وهذا أصح. مسالة: ولا يحلف في القسامة أقل من خمسين يمينا، لقوله عليه السلام في حديث حويصة ومحيصة: «يقسم خمسين منكم على رجل منهم». فإن كان المستحقون خمسين حلف كل واحد منهم يمينا واحدة، فإن كانوا أقل من ذلك أو نكل منهم من لا يجوز عفوه ردت الايمان عليهم بحسب عددهم. ولا يحلف في العمد أقل من اثنين من الرجال، لا يحلف فيه الواحد من الرجال ولا النساء، يحلف الأولياء ومن يستعين بهم الأولياء من العصبة خمسين يمينا. هذا مذهب مالك والليث والثوري والأوزاعي وأحمد وداود.
وروى مطرف عن مالك أنه لا يحلف مع المدعى عليه أحد ويحلف هم أنفسهم كما لو كانوا واحدا فأكثر خمسين يمينا يبرءون بها أنفسهم، وهو قول الشافعي. قال الشافعي: لا يقسم إلا وارث، كان القتل عمدا أو خطأ. ولا يحلف على مال ويستحقه إلا من له الملك لنفسه أو من جعل الله له الملك من الورثة، والورثة يقسمون على قدر مواريثهم. وبه قال أبو ثور واختاره ابن المنذر وهو الصحيح، لأن من لم يدع عليه لم يكن له سبب يتوجه عليه فيه يمين. ثم مقصود هذه الايمان البراءة من الدعوى ومن لم يدع عليه برئ.
وقال مالك في الخطأ: يحلف فيها الواحد من الرجال والنساء، فمهما كملت خمسين يمينا من واحد أو أكثر أستحق الحالف ميراثه، ومن نكل لم يستحق شيئا، فإن جاء من غاب حلف من الايمان ما كان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه. هذا قول مالك المشهور عنه، وقد روى عنه أنه لا يرى في الخطأ قسامة. وتتميم مسائل القسامة وفروعها وأحكامها مذكور في كتب الفقه والخلاف، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفق. مسألة: في قصة البقرة هذه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وقال به طوائف من المتكلمين وقوم من الفقهاء، واختاره الكرخي ونص عليه ابن بكير القاضي من علمائنا، وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: هو الذي تقتضيه أصول مالك ومنازعه في كتبه، وإليه مال الشافعي، وقد قال الله: {فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى} أي كما أحيا هذا بعد موته كذلك يحيى الله كل من مات فالكاف في موضع نصب، لأنه نعت لمصدر محذوف. {وَيُرِيكُمْ آياتِهِ} أي علاماته وقدرته. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} كي تعقلوا. وقد تقدم. أي تمتنعون من عصيانه. وعقلت نفسي عن كذا أي منعتها منه والمعاقل: الحصون.

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}
قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} القسوة: الصلابة والشدة واليبس وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى. قال أبو العالية وقتادة وغيرهما:
المراد قلوب جميع بني إسرائيل.
وقال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله، وقالوا: كذب، بعد ما رأوا هذه الآية العظمى، فلم يكونوا قط أعمى قلوبا، ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك، لكن نفذ حكم الله بقتله. روى الترمذي عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي». وفى مسند البزار عن أنس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا».
قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} {أو} قيل: هي بمعنى الواو كما قال: {آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24]. {عُذْراً أَوْ نُذْراً} وقال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا ***
أي وكانت.
وقيل: هي بمعنى بل، كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] المعنى بل يزيدون.
وقال الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى *** وصورتها أو أنت في العين أملح
أي بل أنت وقيل: معناها الإبهام على المخاطب، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:
أحب محمدا حبا شديدا *** وعباسا وحمزة أو عليا
فإن يك حبهم رشدا أصبه *** ولست بمخطئ إن كان غيا
ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر، وإنما قصد الإبهام. وقد قيل لابي الأسود حين قال ذلك: شككت! قال: كلا، ثم استشهد بقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] وقال: أو كان شاكا من أخبر بهذا! وقيل: معناها التخيير، أي شبهوها بالحجارة تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا، وهذا كقول القائل: جالس الحسن أو ابن سيرين، وتعلم الفقه أو الحديث أو النحو.
وقيل: بل هي على بابها من الشك، ومعناها عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم: أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة؟ وقد قيل هذا المعنى في قوله تعالى: {إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]. وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر،. وفيهم من قلبه أشد من الحجر. فالمعنى هم فرقتان.
قوله تعالى: {أَوْ أَشَدُّ} {أَشَدُّ} مرفوع بالعطف على موضع الكاف في قوله: {كَالْحِجارَةِ}، لأن المعنى فهي مثل الحجارة أو أشد. ويجوز أَوْ {أَشَدُّ} بالفتح عطف على الحجارة. و{قَسْوَةً} نصب على التمييز. وقرأ أبو حيوة {قساوة} والمعنى واحد.
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ} قد تقدم معنى الانفجار. ويشقق أصله يتشقق، أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا، أو عن الحجارة التي تتشقق وإن لم يجر ماء منفسح. وقرأ ابن مصرف {ينشقق} بالنون، وقرأ {لما يتفجر} {لما يتشقق} بتشديد {لما} في الموضعين. وهي قراءة غير متجهة. وقرأ مالك بن دينار {ينفجر} بالنون وكسر الجيم. قال قتادة: عذر الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم. قال أبو حاتم: يجوز لما تتفجر بالتاء، ولا يجوز لما تتشقق بالتاء، لأنه إذا قال تتفجر أنثه بتأنيث الأنهار، وهذا لا يكون في تشقق. قال النحاس: يجوز ما أنكره على المعنى، لأن المعنى وأن منها لحجارة تتشقق، وأما يشقق فمحمول على لفظ ما. والشق واحد الشقوق، فهو في الأصل مصدر، تقول: بيد فلان ورجليه شقوق، ولا تقل: شقاق، إنما الشقاق داء يكون بالدواب، وهو تشقق يصيب أرساغها وربما أرتفع إلى وظيفها، عن يعقوب. والشق: الصبح. وما في قوله: {لَما يَتَفَجَّرُ} في موضع نصب، لأنها اسم إن واللام للتأكيد. {مِنْهُ} على لفظ ما، ويجوز منها على المعنى، وكذلك {وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ}. وقرأ قتادة {وإن} في الموضعين، مخففة من الثقيلة قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} يقول إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم، لخروج الماء منها وترديها. قال مجاهد: ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله، نزل بذلك القرآن الكريم. ومثله عن ابن جريج.
وقال بعض المتكلمين في قوله: {وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}: البرد الهابط من السحاب.
وقيل: لفظة الهبوط مجاز، وذلك أن الحجارة لما كانت القلوب تعتبر بخلقها، وتخشع بالنظر إليها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب: ناقة تاجرة، أي تبعث من يراها على شرائها.
وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} وكما قال زيد الخيل:
لما أتى خبر الزبير تواضعت *** سور المدينة والجبال الخشع
وذكر ابن بحر أن الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْها} راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة أي من القلوب لما يخضع من خشيه الله.
قلت: كل ما قيل يحتمله اللفظ، والأول صحيح، فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل، كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خطب، فلما تحول عنه حن، وثبت عنه أنه قال: «إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن». وكما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قال لي ثبير اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله». فناداه حراء: إلي يا رسول الله. وفى التنزيل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ} [الأحزاب: 72] الآية. وقال: {لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] يعني تذللا وخضوعا، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة سبحان.
إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} {بِغافِلٍ} في موضع نصب على لغة أهل الحجاز، وعلى لغة تميم في موضع رفع. والياء توكيد. {عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي عن عملكم حتى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها عليكم، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. و


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 4:58 pm
المشاركة رقم: #15
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} هذا استفهام فيه معنى الإنكار، كأنه إياسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود، أي إن كفروا فلهم سابقة في ذلك. والخطاب لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم.
وقيل: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، عن ابن عباس. أي لا تحزن على تكذيبهم إياك، وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا. و{أن} في موضع نصب، أي في أن يؤمنوا، نصب بأن، ولذلك حذفت منه النون. يقال: طمع فيه طمعا وطماعية- مخفف- فهو طمع، على وزن فعل. وأطمعه فيه غيره. ويقال في التعجب: طمع الرجل- بضم الميم- أي صار كثير الطمع. والطمع: رزق الجند، يقال: أمر لهم الأمير بأطماعهم، أي بأرزاقهم. وامرأة مطماع: تطمع ولا تمكن.
الثانية: قوله تعالى: {وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه، وجمعه في أدنى العدد أفرقه، وفي الكثير أفرقاء. {يَسْمَعُونَ} في موضع نصب خبر {كانَ}. ويجوز أن يكون الخبر {مِنْهُمْ}، ويكون {يَسْمَعُونَ} نعتا لفريق، وفيه بعد. {كَلامَ اللَّهِ} قراءة الجماعة. وقرأ الأعمش {كلم الله} على جمع كلمة. قال سيبويه: وأعلم أن ناسا من ربيعة يقولون {منهم} بكسر الهاء اتباعا لكسرة الميم، ولم يكن المسكن حاجزا حصينا عنده. {كَلامَ اللَّهِ} مفعول بـ {يَسْمَعُونَ}. والمراد السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره، وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم. هذا قول الربيع وابن إسحاق، وفي هذا القول ضعف. ومن قال: إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ، وأذهب بفضيلة موسى واختصاصه بالتكليم. وقد قال السدي وغيره: لم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم، فلما فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان نبيهم موسى عليه السلام، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}. فإن قيل: فقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن قوم موسى سألوا موسى أن يسأل ربه أن يسمعهم كلامه، فسمعوا صوتا كصوت الشبور: {إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم أخرجتكم من مصر بيد رفيعة وذراع شديدة}.
قلت: هذا حديث باطل لا يصح، رواه ابن مروان عن الكلبي وكلاهما ضعيف لا يحتج به، وإنما الكلام شيء خص به موسى من بين جميع ولد آدم، فإن كان كلم قومه أيضا حتى أسمعهم كلامه فما فضل موسى عليهم، وقد قال وقوله الحق: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي}. وهذا واضح.
الثالثة: واختلف الناس بما ذا عرف موسى كلام الله ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه، فمنهم من قال: إنه سمع كلاما ليس بحروف وأصوات، وليس فيه تقطيع ولا نفس، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر وإنما هو كلام رب العالمين.
وقال آخرون: إنه لما سمع كلاما لا من جهة، وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست، علم أنه ليس من كلام البشر.
وقيل: إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام، فعلم أنه كلام الله. وقيل فيه: إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله، وذلك أنه قيل له: ألق عصاك، فألقاها فصارت ثعبانا، فكان ذلك علامة على صدق الحال، وأن الذي يقول له: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} هو الله عز وجل.
وقيل: إنه قد كان أضمر في نفسه شيئا لا يقف عليه إلا علام الغيوب، فأخبره الله تعالى في خطابه بذلك الضمير، فعلم أن الذي يخاطبه هو الله جل وعز. وسيأتي في سورة القصص بيان معنى قوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} إن شاء الله تعالى.
الرابعة: قوله تعالى: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} قال مجاهد والسدي: هم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة فيجعلون الحرام حلالا والحلال حراما اتباعا لأهوائهم. {مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ} أي عرفوه وعلموه. وهذا توبيخ لهم، أي إن هؤلاء اليهود قد سلفت لآبائهم أفاعيل سوء وعناد، فهؤلاء على ذلك السنن، فكيف تطمعون في إيمانهم!. ودل هذا الكلام أيضا على أن العالم بالحق المعاند فيه بعيد من الرشد، لأنه علم الوعد والوعيد ولم ينهه ذلك عن عناده.

{وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77)}
قوله تعالى: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا} هذا المنافقين. وأصل {لَقُوا} لقيوا، وقد تقدم. {وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ} الآية في اليهود، وذلك أن ناسا منهم أسلموا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به آباؤهم، فقالت لهم اليهود: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي حكم الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أكرم على الله منكم، عن ابن عباس والسدي.
وقيل: إن عليا لما نازل قريظة يوم خيبر سمع سب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى فانصرف إليه وقال: يا رسول الله، لا تبلغ إليهم، وعرض له، فقال: «أظنك سمعت شتمي منهم لو رأوني لكفوا عن ذلك» ونهض إليهم، فلما رأوه أمسكوا، فقال لهم: «أنقضتم العهد يا إخوة القردة والخنازير أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته» فقالوا: ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا، من حدثك بهذا؟ ما خرج هذا الخبر إلا من عندنا! روي هذا المعنى عن مجاهد.
قوله تعالى: {وَإِذا خَلا} الأصل في: {خَلا} خلو، قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وتقدم معنى: {خَلا} في أول السورة. ومعنى: {فَتَحَ} حكم. والفتح عند العرب: القضاء والحكم، ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ} أي الحاكمين، والفتاح: القاضي بلغة اليمن، يقال: بيني وبينك الفتاح، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم. والفتح: النصر، ومنه قوله: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}،، وقوله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ}. ويكون بمعنى الفرق بين الشيئين.
قوله تعالى: {لِيُحَاجُّوكُمْ} نصب بلام كي، وإن شئت بإضمار أن، وعلامة النصب، حذف النون. قال يونس: وناس من العرب يفتحون لام كي. قال الأخفش: لان الفتح الأصل. قال خلف الأحمر: هي لغة بني العنبر. ومعنى: {لِيُحَاجُّوكُمْ} ليعيروكم، ويقولوا نحن أكرم على الله منكم.
وقيل: المعنى ليحتجوا عليكم بقولكم، يقولون كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقه.
وقيل: إن الرجل من اليهود كان يلقي صديقه من المسلمين فيقول له: تمسك بدين محمد فإنه نبي حقا. {عِنْدَ رَبِّكُمْ} قيل في الآخرة، كما قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}.
وقيل: عند ذكر ربكم.
وقيل: {عِنْدَ} بمعنى في أي ليحاجوكم به في ربكم، فيكونوا أحق به منكم لظهور الحجة عليكم، وروي عن الحسن. والحجة: الكلام المستقيم على الإطلاق، ومن ذلك محجة الطريق. وحاججت فلانا فحججته، أي غلبته بالحجة. ومنه الحديث: «فحج آدم موسى». {أَفَلا تَعْقِلُونَ} قيل: هو من قول الأحبار للاتباع.
وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال. ثم وبخهم توبيخا يتلى فقال: {أَوَلا يَعْلَمُونَ} الآية. فهو استفهام معناه التوبيخ والتقريع. وقرأ الجمهور {يَعْلَمُونَ} بالياء، وابن محيصن بالتاء، خطابا للمؤمنين. والذي أسروه كفرهم، والذي أعلنوه الجحد به.

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي من اليهود.
وقيل: من اليهود والمنافقين أميون، أي من لا يكتب ولا يقرأ، واحدهم أمي، منسوب إلى الامة الأمية التي هي على أصل ولادة أمهاتها لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها، ومنه قوله عليه السلام: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» الحديث. وقد قيل لهم إنهم أميون لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب، عن ابن عباس.
وقال أبو عبيدة: إنما قيل لهم أميون لنزول الكتاب عليهم، كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب، فكأنه قال: ومنهم أهل الكتاب لا يعلمون الكتاب. عكرمة والضحاك: هم نصارى العرب.
وقيل: هم قوم من أهل الكتاب، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أميين. علي رضي الله عنه: هم المجوس.
قلت: والقول الأول أظهر، والله اعلم.
الثانية: قوله تعالى: {لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ} {إِلَّا} هاهنا بمعنى لكن، فهو استثناء منقطع، كقوله تعالى: {ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ}.
وقال النابغة:
حلفت يمينا غير ذي مثنوية *** ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج {إلا أماني} خفيفة الياء، حذفوا إحدى الياءين استخفافا. قال أبو حاتم: كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدد، فلك فيه التشديد والتخفيف، مثل أثافي وأغاني وأماني، ونحوه.
وقال الأخفش: هذا كما يقال في جميع مفتاح: مفاتيح ومفاتح، وهي ياء الجمع. قال النحاس: الحذف في المعتل أكثر، كما قال الشاعر:
وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى *** ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع
والأماني جمع أمنية وهي التلاوة، واصلها أمنوية على وزن أفعولة، فأدغمت الواو في الياء فانكسرت النون من أجل الياء فصارت أمنية، ومنه قوله تعالى: {إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.
وقال كعب بن مالك:
تمنى كتاب الله أول ليلة *** وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر:
تمنى كتاب الله آخر ليله *** تمني داود الزبور على رسل
والأماني أيضا الأكاذيب، ومنه قول عثمان رضي الله عنه: ما تمنيت منذ أسلمت، أي ما كذبت. وقول بعض العرب لابن دأب وهو يحدث: أهذا شيء رويته أم شيء تمنيته؟ أي افتعلته. وبهذا المعنى فسر ابن عباس ومجاهد {أَمانِيَّ} في الآية. والأماني أيضا ما يتمناه الإنسان ويشتهيه. قال قتادة: {إِلَّا أَمانِيَّ} يعني أنهم يتمنون على الله ما ليس لهم.
وقيل: الأماني التقدير، يقال: مني له أي قدر، قال الجوهري، وحكاه ابن بحر، وأنشد قول الشاعر:
لا تأمنن وإن أمسيت في حرم *** حتى تلاقي ما يمني لك الماني
أي يقدر لك المقدر.
الثالثة: قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} إِنْ بمعنى ما النافية، كما قال تعالى: {إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}. و{يَظُنُّونَ} يكذبون ويحدثون، لأنهم لا علم لهم بصحة ما يتلون، وإنما هم مقلدون لاحبارهم فيها يقرءون به. قال أبو بكر الأنباري: وقد حدثنا أحمد بن يحيى النحوي أن العرب تجعل الظن علما وشكا وكذبا، وقال: إذا قامت براهين العلم فكانت أكثر من براهين الشك فالظن يقين، وإذا اعتدلت براهين اليقين وبراهين الشك فالظن شك، وإذا زادت براهين الشك على براهين اليقين فالظن كذب، قال الله عز وجل: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} أراد إلا يكذبون.
الرابعة: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: نعت الله تعالى أحبارهم بأنه يبدلون ويحرقون فقال وقوله الحق: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ} الآية. وذلك أنه لما درس الامر فيهم، وساءت رعية علمائهم، وأقبلوا على الدنيا حرصا وطمعا، طلبوا أشياء تصرف وجوه الناس إليهم، فأحدثوا في شريعتهم وبدلوها، وألحقوا ذلك بالتوراة، وقالوا لسفهائهم: هذا من عند الله، ليقبلوها عنهم فتتأكد رئاستهم وينالوا به حطام الدنيا وأوساخها. وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل، وهم العرب، أي ما أخذنا من أموالهم فهو حل لنا. وكان مما أحدثوا فيه أن قالوا: لا يضرنا ذنب، فنحن أحباؤه وأبناؤه، تعالى الله عن ذلك! وإنما كان في التوراة* يا أحباري ويا أبناء رسلي* فغيروه وكتبوا* يا أحبائي ويا أبنائي* فأنزل الله تكذيبهم: {وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}. فقالت: لن يعذبنا الله، وإن عذبنا فأربعين يوما مقدار أيام العجل، فأنزل الله تعالى: {وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً}. قال ابن مقسم: يعني توحيدا، بدليل قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} يعني لا إله إلا الله {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}. ثم أكذبهم فقال: {بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}. فبين تعالى أن الخلود في النار والجنة إنما هو بحسب الكفر والايمان، لا بما قالوه.


{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله: {فَوَيْلٌ} اختلف في الويل ما هو، فروى عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه جبل من نار.
وروى أبو سعيد الخدري أن الويل واد في جهنم بين جبلين يهوى فيه الهاوي أربعين خريفا.
وروى سفيان وعطاء بن يسار: أن الويل في هذه الآية واد يجرى بفناء جهنم من صديد أهل النار.
وقيل: صهريج في جهنم.
وحكى الزهراوي عن آخرين: أنه باب من أبواب جهنم. وعن ابن عباس: الويل المشقة من العذاب.
وقال الخليل: الويل شدة الشر. الأصمعي: الويل تفجع، والويح ترحم. سيبويه: ويل لمن وقع في الهلكة، وويح زجر لمن أشرف على الهلكة. ابن عرفة: الويل الحزن، يقال: تويل الرجل إذا دعا بالويل، وإنما يقال ذلك عند الحزن والمكروه، ومنه قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ}.
وقيل: أصله الهلكة، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل، ومنه قوله تعالى: {يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ}. وهى الويل والويلة، وهما الهلكة، والجمع الويلات، قال:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ***
وقال أيضا:
فقالت لك الويلات إنك مرجلى ***
وارتفع {فَوَيْلٌ} بالابتداء، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لان فيه معنى الدعاء. قال الأخفش: ويجوز النصب على إضمار فعل، أي ألزمهم الله ويلا.
وقال الفراء: الأصل في الويل وي أي حزن، كما تقول: وى لفلان، أي حزن له، فوصلته العرب باللام وقدروها منه فأعربوها. والأحسن فيه إذا فصل عن الإضافة الرفع، لأنه يقتضى الوقوع. ويصح النصب على معنى الدعاء، كما ذكرنا. قال الخليل: ولم يسمع على بنائه إلا ويح وويس وويه وويك وويل وويب، وكله يتقارب في المعنى. وقد فرق بينها انتصاب المصادر ويله وعوله وويحه وويسه، إذا أدخلت اللام رفعت فقلت: ويل له، وويح له.
الثانية: قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ} الكأبة معروفة. وأول من كتب بالقلم وخط به إدريس عليه السلام، وجاء ذلك في حديث أبى ذر، خرجه الآجري وغيره. وقد قيل: إن آدم عليه السلام أعطى الخط فصار وراثة في ولده.
الثالثة: قوله تعالى: {بِأَيْدِيهِمْ} تأكيد، فإنه قد علم أن الكتب لا يكون إلا باليد، فهو مثل قوله: {وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ}، وقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ} وقيل: فائدة {بِأَيْدِيهِمْ} بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم، فإن من تولى الفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله وإن كان رأيا له.
وقال ابن السراج: {بِأَيْدِيهِمْ} كناية عن أنهم من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وإن لم تكن حقيقة في كتب أيديهم.
الرابعة: في هذه الآية والتي قبلها التحذير من التبديل والتغيير والزيادة في الشرع، فكل من بدل وغير أو ابتدع في دين الله ما ليس منه ولا يجوز فيه فهو داخل تحت هذا الوعيد الشديد، والعذاب الأليم، وقد حذر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته لما قد علم ما يكون في آخر الزمان فقال: «ألا من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الامة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» الحديث، وسيأتي. فحذرهم أن يحدثوا من تلقاء أنفسهم في الدين خلاف كتاب الله أو سنته أو سنة أصحابه فيضلوا به الناس، وقد وقع ما حدره وشاع،. كثر وذاع، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
الخامسة: قوله تعالى: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا} وصف الله تعالى ما يأخذونه بالقلة، إما لفنائه وعدم ثباته، وإما لكونه حراما، لأن الحرام لا بركة فيه ولا يربو عند الله. قال ابن إسحاق والكلبي: كانت صفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتابهم ربعة أسمر، فجعلوه آدم سبطا طويلا، وقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي يبعث في آخر الزمان ليس يشبهه نعت هذا، وكانت للأحبار والعلماء رئاسة ومكاسب، فخافوا إن بينوا أن تذهب مآكلهم ورئاستهم، فمن ثم غيروا. ثم قال تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} قيل من المآكل. وقيل من المعاصي. وكرر الويل تغليظا لفعلهم.

{وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80)}
فيه ثلاث مسائل: الأولى قوله تعالى: {وَقالُوا} يعني اليهود. {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} اختلف، في سبب نزولها، فقيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لليهود: «من أهل النار». قالوا: نحن، ثم تخلفونا أنتم. فقال: «كذبتم لقد علمتم أنا لا نخلفكم» فنزلت هذه الآية، قال ابن زيد.
وقال عكرمة عن ابن عباس: قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة واليهود تقول: إنما هذه الدنيا سبعة آلاف، وإنما يعذب الناس في النار لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم واحد في النار من أيام الآخرة، وإنما هي سبعة أيام، فأنزل الله الآية، وهذا قول مجاهد. وقالت طائفة: قالت اليهود إن في التوراة أن جهنم مسيرة أربعين سنة، وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم. ورواه الضحاك عن ابن عباس. وعن ابن عباس: زعم اليهود أنهم وجدوا في التوراة مكتوبا أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم. وقالوا: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك. وعن ابن عباس أيضا وقتادة: أن اليهود قالت إن الله أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل، فأكذبهم الله، كما تقدم.
الثانية: في هذه الآية رد على أبي حنيفة وأصحابه حيث استدلوا بقوله عليه السلام: «دعى الصلاة أيام أقرائك» في أن مدة الحيض ما يسمى أيام الحيض، وأقلها ثلاثة وأكثرها عشرة، قالوا: لان ما دون الثلاثة يسمى يوما ويومين، وما زاد على العشرة يقال فيه أحد عشر يوما ولا يقال فيه أيام، وإنما يقال أيام من الثلاثة إلى العشرة، قال الله تعالى: {فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} , {تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ}، {سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} فيقال لهم: فقد قال الله تعالى في الصوم: {أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ} يعني جميع الشهر، وقال: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ} يعني أربعين يوما. وأيضا فإذا أضيفت الأيام إلى عارض لم يرد به تحديد العدد، بل يقال: أيام مشيك وسفرك وإقامتك، وإن كان ثلاثين وعشرين وما شئت من العدد، ولعله أراد ما كان معتادا لها، والعادة ست أو سبع، فخرج الكلام عليه، والله اعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ} تقدم القول في أتخذ فلا معنى لإعادته {عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} أي أسلفتم عملا صالحا فآمنتم وأطعتم تستوجبون بذلك الخروج من النار أو هل عرفتم ذلك بويح الذي عهده إليكم {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} توبيخ وتقريع.

{بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {بَلى} أي الامر كما ذكرتم. قال سيبويه: ليس بلى ونعم اسمين. وإنما هما حرفان مثل بل وغيره، وهي رد لقولهم: إن تمسنا النار.
وقال الكوفيون: أصلها بل التي للإضراب عن الأول، زيدت عليها الياء ليحسن الوقف، وضمنت الياء معنى الإيجاب والانعام. ف بل تدل على رد الجحد، والياء تدل على الإيجاب لما بعد. قالوا: ولو قال قائل: ألم تأخذ دينارا؟ فقلت: نعم، لكان المعنى لا، لم آخذ، لأنك حققت النفي وما بعده. فإذا قلت: بلى، صار المعنى قد أخذت. قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك علي شي، فقال الأخر: نعم، كان ذلك تصديقا، لأن لا شيء له عليه، ولو قال: بلى، كان ردا لقوله، وتقديره: بلى لي عليك.
وفي التنزيل: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} ولو قالوا نعم لكفروا.
الثانية: قوله تعالى: {سَيِّئَةً} السيئة الشرك. قال ابن جريج قلت لعطاء: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}؟ قال: الشرك، وتلا {وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ}.
وكذا قال الحسن وقتادة، قالا: والخطيئة الكبيرة.
الثالثة: لما قال تعالى: {بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} دل على أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، ومثله قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} وقوله عليه السلام لسفيان بن عبد الله الثقفي وقد قال له: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: «قل آمنت بالله ثم استقم». رواه مسلم. وقد مضى القول في هذا المعنى وما للعلماء فيه عند قوله تعالى لآدم وحواء: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ}. وقرأ نافع {خطيئاته} بالجمع، الباقون بالإفراد، والمعنى الكثرة، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها}.

*************************

{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ} تقدم الكلام في بيان هذه الألفاظ. واختلف في الميثاق هنا، فقال مكي: هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر.
وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على ألسنة أنبيائهم.
وهو قوله: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} وعبادة الله إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه.
الثانية: قوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ} قال سيبويه: {لا تَعْبُدُونَ} متعلق بقسم، والمعنى وإذ استخلفناهم والله لا تعبدون، وأجازه المبرد والكسائي والفراء. وقرأ أبي وابن مسعود {لا تعبدوا} على النهي، ولهذا وصل الكلام بالأمر فقال: وقُومُوا، وقُولُوا، وأَقِيمُوا، وآتُوا.
وقيل: هو في موضع الحال، أي أخذنا ميثاقهم موحدين، أو غير معاندين، قاله قطرب والمبرد أيضا. وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي {يعبدون} بالياء من أسفل.
وقال الفراء والزجاج وجماعة: المعنى أخذنا ميثاقهم بألا يعبدوا إلا الله، وبأن يحسنوا للوالدين، وبالا يسفكوا الدماء، ثم حذفت أن والباء فارتفع الفعل لزوالهما، كقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي}. قال المبرد: هذا خطأ، لأن كل ما أضمر في العربية فهو يعمل عمله مظهرا، تقول: وبلد قطعت، أي رب بلد.
قلت: ليس هذا بخطإ، بل هما وجهان صحيحان وعليهما أنشد سيبويه:
ألا أيها ذا الزاجري أخضر الوغى *** وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
بالنصب والرفع، فالنصب على إضمار أن، والرفع على حذفها.
الثالثة: قوله تعالى: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} أي وأمرناهم بالوالدين إحسانا. وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد، لأن النشأة الأولى من عند الله، والنشء الثاني- وهو التربية- من جهة الوالدين، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ}. والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، وامتثال أمرهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما، وصلة أهل ودهما، على ما يأتي بيانه مفصلا في الإسراء إن شاء الله تعالى.
الرابعة: قوله تعالى: {وَذِي الْقُرْبى} عطف ذي القربى على الوالدين. والقربى: بمعنى القرابة، وهو مصدر كالرجعى والعقبى، أي وأمرناهم بالإحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم. وسيأتي بيان هذا مفصلا في سورة القتال إن شاء الله تعالى.
الخامسة: قوله تعالى: {وَالْيَتامى} اليتامى عطف أيضا، وهو جمع يتيم، مثل ندامى جمع نديم. واليتم في بني آدم بفقد الأب، وفي البهائم بفقد الام.
وحكى الماوردي أن اليتيم يقال في بني آدم في فقد الام، والأول المعروف. وأصله الانفراد، يقال: صبي يتيم، أي منفرد من أبيه. وبئت يتيم: أي ليس قبله ولا بعده شيء من الشعر. ودرة يتيمة: ليس لها نظير.
وقيل: أصله الإبطاء، فسمي به اليتيم، لأن البر يبطئ عنه. ويقال: يتم ييتم يتما، مثل عظم يعظم. ويتم ييتم يتما ويتما، مثل سمع يسمع، ذكر الوجهين الفراء. وقد أيتمه الله. ويدل هذا على الرأفة باليتيم والحض على كفالته وحفظ ماله، على ما يأتي بيانه في النساء.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة». وأشار مالك بالسبابة والوسطى، رواه أبو هريرة أخرجه مسلم. وخرج الامام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الحسن بن دينار أبي سعيد البصري وهو الحسن بن واصل قال حدثنا الأسود بن عبد الرحمن عن هصان عن أبي موسى الأشعري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فيقرب قصعتهم الشيطان». وخرج أيضا من حديث حسين بن قيس وهو أبو علي الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من ضم يتيما من بين ملمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عز وجل غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر ومن أذهب الله كريمتيه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه- قالوا: وما كريمتاه؟ قال:- عيناه ومن كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فأنفق عليهن وأحسن إليهن حتى يبن أو يمتن غفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملا لا يغفر». فناداه رجل من الاعراب ممن هاجر فقال: يا رسول الله أو اثنتين؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أو اثنتين». فكان ابن عباس إذا حدث بهذا الحديث قال: هذا والله من غرائب الحديث وغرره.
السادسة: السبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام، وكانت في الجاهلية تدعى بالسبابة، لأنهم كانوا يسبون بها، فلما جاء الله بالإسلام كرهوا هذا الاسم فسموها المشيرة، لأنهم كانوا يشيرون بها إلى الله في التوحيد. وتسمى أيضا بالسباحة، جاء تسميتها بذلك في حديث وائل بن حجر وغيره، ولكن اللغة سارت بما كانت تعرفه في الجاهلية فغلبت. وروي عن أصابع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن المشيرة منها كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثم البنصر أقصر من الوسطى. روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا عبد الله بن مقسم الطائفي قال حدثتني عمتي سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت: خرجت في حجة حجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على راحلته وسأله أبي عن أشياء، فلقد رأيتني أتعجب وأنا جارية من طول أصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه. فقوله عليه السلام: «أنا وهو كهاتين في الجنة»، وقوله في الحديث الأخر: «أحشر أنا وأبو بكر وعمر يوم القيامة هكذا» وأشار بأصابعه الثلاث، فإنما أراد ذكر المنازل والاشراف على الخلق فقال: نحشر هكذا ونحن مشرفون، وكذا كافل اليتيم تكون منزلته رفيعة. فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى حمل تأويل الحديث على الانضمام والاقتراب بعضهم من بعض في محل القربة. وهذا معنى بعيد، لأن منازل الرسل والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين مراتب متباينة، ومنازل مختلفة.
السابعة: قوله تعالى: {وَالْمَساكِينِ} المساكين عطف أيضا أي وأمرناهم بالإحسان إلى المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلتهم. وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمؤاساة وتفقد أحوال المساكين والضعفاء. روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله- وأحسبه قال- وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر». قال ابن المنذر: وكان طاوس يرى السعي على الأخوات أفضل من الجهاد في سبيل الله.
الثامنة: قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} {حُسْناً} نصب على المصدر على المعنى، لأن المعنى ليحسن قولكم.
وقيل: التقدير وقولوا للناس قولا ذا حسن، فهو مصدر لا على المعنى. وقرأ حمزة والكسائي {حسنا} بفتح الحاء والسين. قال الأخفش: هما بمعنى واحد، مثل البخل والبخل، والرشد والرشد.
وحكى الأخفش: {حسنى} بغير تنوين على فعلى. قال النحاس: وهذا لا يجوز في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام، نحو الفضلى والكبرى والحسنى، هذا قول سيبويه وقرأ عيسى بن عمر {حسنا} بضمتين، مثل الحلم. قال ابن عباس: المعنى قولوا لهم لا إله إلا الله ومروهم بها. ابن جريج: قولوا للناس صدقا في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتغيروا نعته. سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر. أبو العالية: قولوا لهم الطيب من القول، وجازوهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به. وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قول للناس لينا ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر، والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً}. فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه.
وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل! يقول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}. فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لعائشة: «لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلا لكان رجل سوء».
وقيل: أراد بالناس محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كقوله: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» فكأنه قال: قولوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسنا.
وحكى المهدوي عن قتادة أن قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} منسوخ بآية السيف. وحكاه أبو نصر عبد الرحيم عن ابن عباس. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الابتداء ثم نسختها آية السيف. قال ابن عطية: وهذا يدل على أن هذه الامة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه، والله أعلم.
التاسعة: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} تقدم القول فيه. والخطاب لبني إسرائيل. قال ابن عطية: وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها فتنزل النار على ما يتقبل، ولا تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاة أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قلت: وهذا يحتاج إلى نقل، كما ثبت ذلك في الغنائم. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص.
العاشرة: قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} الخطاب لمعاصري محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسند إليهم تولي أسلافهم إذ هم كلهم بتلك السبيل في إعراضهم عن الحق مثلهم، كما قال:
شنشنة أعرفها من أخزم ***
{إِلَّا قَلِيلًا} كعبد الله بن سلام وأصحابه. و{قَلِيلًا} نصب على الاستثناء، والمستثنى عند سيبويه منصوب، لأنه مشبه بالمفعول.
وقال محمد بن يزيد: هو مفعول على الحقيقة، المعنى استثنيت قليلا. {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} ابتداء وخبر. والاعراض والتولي بمعنى واحد، مخالف بينهما في اللفظ.
وقيل: التولي بالجسم، والاعراض بالقلب. قال المهدوي: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} حال، لأن التولي فيه دلالة على الاعراض.

{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ} تقدم القول فيه. {لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ} المراد بنو إسرائيل، ودخل فيه بالمعنى من بعدهم. {لا تَسْفِكُونَ} مثل: {لا تَعْبُدُونَ} في الاعراب. وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبى حمزة بضم الفاء وهى لغة، وأبو نهيك {تسفكون} بضم التاء وتشديد الفاء وفتح السين. والسفك: الصب. وقد تقدم. {وَلا تُخْرِجُونَ} معطوف. {أَنْفُسَكُمْ} النفس مأخوذة من النفاسة، فنفس الإنسان أشرف ما فيه. والدار: المنزل الذي فيه أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال.
وقال الخليل: كل موضع حله قوم فهو دار لهم وإن لم تكن فيه أبنية.
وقيل: سميت دارا لدورها على سكانها، كما سمي الحائط حائطا لإحاطته على ما يحويه. و{أَقْرَرْتُمْ} من الإقرار، أي بهذا الميثاق الذي أخذ عليكم وعلى أوائلكم. {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} من الشهادة، أي شهداء بقلوبكم على هذا وقيل: الشهادة بمعنى الحضور، أي تحضرون سفك دمائكم، وإخراج أنفسكم من دياركم.
الثانية: فإن قيل: وهل يسفك أحد دمه ويخرج نفسه من داره؟ قيل له لما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحد وكانوا في الأمم كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضا وإخراج بعضهم بعضا قتلا لأنفسهم ونفيا لها.
وقيل: المراد القصاص، أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصا، فكأنه سفك دمه. وكذلك لا يزني ولا يرتد، فإن ذلك يبيح الدم. ولا يفسد فينفي، فيكون قد أخرج نفسه من دياره. وهذا تأويل فيه بعد وإن كان صحيح المعنى. وإنما كان الامر أن الله تعالى قد أخذ على بنى إسرائيل في التوراة ميثاقا ألا يقتل بعضهم بعضا، ولا ينفيه ولا يسترقه، ولا يدعه يسرق، إلى غير ذلك من الطاعات.
قلت: وهذا كله محترم علينا، وقد وقع ذلك كله بالفتن فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وفى التنزيل: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} وسيأتي. قال ابن خويز منداد: وقد يجوز أن يراد به الظاهر، لا يقتل الإنسانية نفسه، ولا يخرج من داره سفها، كم تقتل الهند أنفسها. أو يقتل الإنسان نفسه من جهد وبلاء يصيبه، أو يهيم في الصحراء ولا يأوي البيوت جهلا في ديانته وسفها في حلمه: فهو عموم في جميع ذلك. وقد روى أن عثمان بن مظعون بايع في عشرة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعزموا أن يلبسوا المسوح، وأن يهيموا في الصحراء ولا يأووا البيوت: ولا يأكلوا اللحم ولا يغشوا النساء، فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء إلى دار عثمان بن مظعون فلم يجده، فقال لامرأته: «ما حديث بلغني عن عثمان؟» وكرهت أن تفشى سر زوجها، وأن تكذب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: يا رسول الله، إن كان قد بلغك شيء فهو كما بلغك، فقال: «قولي لعثمان أخلاف لسنتي أم على غير ملتي إنى أصلى وأنام وأصوم وأفطر وأغشى النساء واوي البيوت وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس منى» فرجع عثمان وأصحابه عما كانوا عليه.

{ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ} {أَنْتُمْ} في موضع رفع بالابتداء، ولا يعرب، لأنه مضمر. وضمت التاء من {أَنْتُمْ} لأنها كانت مفتوحة إذا خاطبت واحدا مذكرا، ومكسورة إذا خاطبت واحدة مؤنثة، فلما ثنيت أو جمعت لم يبق إلا الضمة. {هؤُلاءِ} قال القتبي: التقدير يا هؤلاء. قال النحاس: هذا خطأ على قول سيبويه، ولا يجوز هذا أقبل.
وقال الزجاج: هؤلاء بمعنى الذين. و{تَقْتُلُونَ} داخل في الصلة، أي ثم أنتم الذين تقتلون.
وقيل: {هؤُلاءِ} رفع بالابتداء، و{أَنْتُمْ} خبر مقدم، و{تَقْتُلُونَ} حال من أولاء.
وقيل: {هؤُلاءِ} نصب بإضمار أعني. وقرأ الزهري {تقتلون} بضم التاء مشددا، وكذلك {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ}. وهذه الآية خطاب للمواجهين لا يحتمل رده إلى الاسلاف. نزلت في بني قينقاع وقريظة والنضير من اليهود، وكانت بنو قينقاع أعداء قريظة، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء بني قريظة. والنضير والأوس والخزرج إخوان، وقريظة والنضير أيضا إخوان، ثم افترقوا فكانوا يقتتلون، ثم يرتفع الحرب فيفدون أساراهم، فعيرهم الله بذلك فقال: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ}.
قوله تعالى: {تَظاهَرُونَ} معنى: {تَظاهَرُونَ} تتعاونون، مشتق من الظهر، لأن بعضهم يقوي بعضا فيكون له كالظهر، ومنه قول الشاعر:
تظاهرتم أستاه بيت تجمعت *** على واحد لا زلتم قرن واحد
والإثم: الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم. والعدوان: الافراط في الظلم والتجاوز فيه. وقرأ أهل المدينة وأهل مكة {تظاهرون} بالتشديد، يدغمون التاء في الظاء لقربها منها، والأصل تتظاهرون. وقرأ الكوفيون {تَظاهَرُونَ} مخففا، حذفوا التاء الثانية لدلالة الأولى عليها، وكذا {وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ}. وقرأ قتادة {تظهرون عليهم} وكله راجع إلى معنى التعاون، ومنه: {وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً} وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ} فاعلمه.
قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى} شرط، وجوابه: {تُفادُوهُمْ} و{أُسارى} نصب على الحال. قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول: ما صار في أيديهم فهم الأسارى، وما جاء مستأسرا فهم الأسرى. ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو، إنما هو كما تقول: سكارى وسكرى. وقراءة الجماعة {أُسارى} ما عدا حمزة فإنه قرأ {أسرى} على فعلى، جمع أسير بمعنى مأسور، والباب- في تكسيره إذا كان كذلك- فعلى، كما تقول: قتيل وقتلى، وجريح وجرحى. قال أبو حاتم: ولا يجوز أسارى.
وقال الزجاج: يقال أسارى كما يقال سكارى، وفعالي هو الأصل، وفعالي داخلة عليها.
وحكى عن محمد بن يزيد قال: يقال أسير وأسراء، كظريف وظرفاء. قال ابن فارس: يقال في جمع أسير أسرى وأسارى، وقرئ بهما.
وقيل: أسارى بفتح الهمزة وليست بالعالية.
الثانية: الأسير مشتق من الإسار، وهو القد الذي يشد به المحمل فسمي أسيرا، لأنه يشد وثاقه، والعرب تقول: قد أسر قتبه، أي شده، ثم سمي كل أخيذ أسيرا وإن لم يؤسر، وقال الأعشى:
وقيدني الشعر في بيته *** كما قيد الآسرات الحمارا
أي أنا في بيته، يريد ذلك بلوغه النهاية فيه. فأما الأسر في قوله عز وجل: {وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ} فهو الخلق. وأسرة الرجل رهطه، لأنه يتقوى بهم.
الثالثة: قوله تعالى: {تُفادُوهُمْ} كذا قرأ نافع وحمزة والكسائي. والباقون {تفدوهم} من الفداء. والفداء: طلب الفدية في الأسير الذي في أيديهم. قال الجوهري: الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر، وإذا فتح فهو مقصور، يقال: قم فدى لك أبى. ومن العرب من يكسر فداء بالتنوين إذا جاور لام الجر خاصة، فيقول: فداء لك، لأنه نكرة يريدون به معنى الدعاء. وأنشد الأصمعي للنابغة:
مهلا فداء لك الأقوام كلهم *** وما أثمر من مال ومن ولد
ويقال: فداه وفاداه إذا أعطى فداءه فأنقذه. وفداه بنفسه، وفداه يفديه إذا قال جعلت فداك. وتفادوا، أي فدى بعضهم بعضا. والفدية والفدى والفداء كله بمعنى واحد.
وفأديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئا، بمعنى فديت، ومنه قول العباس للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأديت نفسي وفأديت عقيلا. وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف الجر، تقول: فديت نفسي بمالي وفاديته بمالي، قال الشاعر:
قفي فادي أسيرك إن قومي *** وقومك ما أرى لهم اجتماعا
الرابعة: قوله تعالى: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ} هُوَ مبتدأ وهو كناية عن الإخراج، و{مُحَرَّمٌ} خبره، و{إِخْراجُهُمْ} بدل من {هُوَ} وإن شئت كان كناية عن الحديث والقصة، والجملة التي بعده خبره، أي والامر محرم عليكم إخراجهم. ف {إِخْراجُهُمْ} مبتدأ ثان. و{مُحَرَّمٌ} خبره، والجملة خبر عن {هُوَ}، وفي {مُحَرَّمٌ} ضمير ما لم يسم فاعله يعود على الإخراج. ويجوز أن يكون {مُحَرَّمٌ} مبتدأ، و{إِخْراجُهُمْ} مفعول ما لم يسم فاعله يسد مسد خبر {مُحَرَّمٌ}، والجملة خبر عن {هُوَ}. وزعم الفراء أن {هُوَ} عماد، وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له، لأن العماد لا يكون في أول الكلام. ويقرأ {وهو} بسكون الهاء لثقل الضمة، كما قال الشاعر:
فهو لا تنمى رميته *** ما له لا عد من نفره وكذلك
إن جئت باللام وثم، وقد تقدم. قال علماؤنا: كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أساراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ} وهو التوراة {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}!! قلت: ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن فتظاهر بعضنا على بعض! ليت بالمسلمين، بل بالكافرين! حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!. قال علماؤنا: فداء الأسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد. قال ابن خويز منداد: تضمنت الآية وجوب فك الأسرى، وبذلك وردت الإثار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه فك الأسارى وأمر بفكهم، وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع. ويجب فك الأسارى من بيت المال، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين. وسيأتي.
الخامسة: قوله تعالى: {فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} ابتداء وخبر. والخزي الهوان. قال الجوهري: وخزي- بالكسر- يخزي خزيا إذا ذل وهان. قال ابن السكيت: وقع في بلية. وأخزاه الله، وخزي أيضا يخزى خزاية إذا استحيا، فهو خزيان. وقوم خزايا وامرأة خزيا.
السادسة: قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ} {يُرَدُّونَ} بالياء قراءة العامة، وقرأ الحسن {تردون} بالتاء على الخطاب. {إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تقدم القول فيه وكذلك: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا} الآية، فلا معنى للإعادة. {يَوْمَ} منصوب ب {يُرَدُّونَ}.
يتبع.......



الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 5:01 pm
المشاركة رقم: #16
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} يعني التوراة. {وَقَفَّيْنا} أي أتبعنا. والتقفية: الاتباع والإرداف، مأخوذ من إتباع القفا وهو مؤخر العنق. تقول استقفيته إذا جئت من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر، لأنها تتلو سائر الكلام. والقافية: القفا، ومنه الحديث: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم». والقفي والقفاوة: ما يدخر من اللبن وغيره لمن تريد إكرامه. وقفوت الرجل: قذفته بفجور. وفلان قفوتي أي تهمتي. وقفوتي أي خيرتي. قال ابن دريد كأنه من الأضداد. قال العلماء: وهذه الآية مثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا}. وكل رسول جاء بعد موسى فإنما جاء بإثبات التوراة والامر بلزومها إلى عيسى عليه السلام. ويقال: رسل ورسل لغتان، الأولى لغة الحجاز، والثانية لغة تميم، وسواء كان مضافا أو غير مضاف. وكان أبو عمرو يخفف إذا أضاف إلى حرفين، ويثقل إذا أضاف إلى حرف واحد.
قوله تعالى: {وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ} أي الحجج والدلالات، وهي التي ذكرها الله في آل عمران والمائدة، قاله ابن عباس. {أَيَّدْناهُ} أي قويناه. وقرأ مجاهد وابن محيصن {آيدناه} بالمد، وهما لغتان. {بِرُوحِ الْقُدُسِ} روى أبو مالك وأبو صالح عن ابن عباس ومعمر عن قتادة قالا: جبريل عليه السلام.
وقال حسان:
وجبريل رسول الله فينا *** وروح القدس ليس به خفاء
قال النحاس: وسمي جبريل روحا وأضيف إلى القدس، لأنه كان بتكوين الله عز وجل له روحا من غير ولادة والد ولده، وكذلك سمي عيسى روحا لهذا.
وروى غالب بن عبد الله عن مجاهد قال: القدس هو الله عز وجل. وكذا قال الحسن: القدس هو الله، وروحه جبريل.
وروى أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس: {بِرُوحِ الْقُدُسِ} قال: هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى، وقاله سعيد بن جبير وعبيد بن عمير، وهو اسم الله الأعظم.
وقيل: المراد الإنجيل، سماه روحا كما سمى الله القرآن روحا في قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا}. والأول أظهر، والله تعالى أعلم. والقدس: الطهارة. وقد تقدم.
قوله تعالى: {أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ} أي بما لا يوافقها ويلائمها، وحذفت الهاء لطول الاسم، أي بما لا تهواه. {اسْتَكْبَرْتُمْ} عن إجابته احتقارا للرسل، واستبعادا للرسالة. واصل الهوى الميل إلى الشيء، وبجمع أهواء، كما جاء في التنزيل، ولا يجمع أهوية، على أنهم قد قالوا في ندى أندية، قال الشاعر:
في ليلة من جمادى ذات أندية *** لا يبصر الكلب في ظلمائها الطنبا
قال الجوهري: وهو شاذ وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار، ولذلك لا يستعمل في الغالب إلا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه، وهذه الآية من ذلك. وقد يستعمل في الحق، ومنه قول عمر رضي الله عنه في أسارى بدر: فهوي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. وقالت عائشة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحيح الحديث: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. أخرجهما مسلم.
قوله تعالى: {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ} {فَفَرِيقاً} منصوب بـ {كَذَّبْتُمْ}، وكذا {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} فكان ممن كذبوه عيسى ومحمد عليهما السلام، وممن قتلوه يحيى وزكريا عليهما السلام، على ما يأتي بيانه في سبحان إن شاء الله تعالى.

{وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)}
قوله تعالى: {وَقالُوا} يعني اليهود {قُلُوبُنا غُلْفٌ} بسكون اللام جمع أغلف، أي عليها أغطية. وهو مثل قول: {قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ} أي في أوعية. قال مجاهد: {غُلْفٌ} عليها غشاوة.
وقال عكرمة: عليها طابع.
وحكى أهل اللغة غلفت السيف جعلت له غلافا، فقلب أغلف، أي مستور عن الفهم والتمييز. وقرأ ابن عباس والأعرج وابن محيصن {غلف} بضم اللام. قال ابن عباس: أي قلوبنا ممتلئة علما لا تحتاج إلى علم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا غيره.
وقيل: هو جمع غلاف. مثل خمار وخمر، أي قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك وقد وعينا علما كثيرا! وقيل: المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فرد الله تعالى عليهم بقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ} ثم بين أن السبب في نفورهم عن الايمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه. واصل اللعن في كلام العرب الطرد والابعاد. ويقال للذئب: لعين. وللرجل الطريد: لعين، وقال الشماخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه *** مقام الذئب كالرجل اللعين
ووجه الكلام: مقام الذئب اللعين كالرجل، فالمعنى أبعدهم الله من رحمته.
وقيل: من توفيقه وهدايته.
وقيل: من كل خير، وهذا عام. {فَقَلِيلًا} نعت لمصدر محذوف، تقديره فإيمانا قليلا ما يؤمنون.
وقال معمر: المعنى لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، ويكون {فَقَلِيلًا} منصوب بنزع حرف الصفة. و{ما} صلة، أي فقليلا يؤمنون.
وقال الواقدي: معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا، كما تقول: ما أقل ما يفعل كذا، أي لا يفعله البتة.
وقال الكسائي: تقول العرب مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل، أي لا تنبت شيئا.

{وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)}
قوله تعالى: {وَلَمَّا جاءَهُمْ} يعني اليهود. {كِتابٌ} يعني القرآن. {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ} نعت لكتاب، ويجوز في غير القرآن نصبه على الحال، وكذلك هو في مصحف أبى بالنصب فيما روي. {لِما مَعَهُمْ} يعني التوراة والإنجيل يخبرهم بما فيهما. {وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} أي يستنصرون. والاستفتاح الاستنصار. استفتحت: استنصرت.
وفي الحديث: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر بدعائهم وصلاتهم. ومنه: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ}. والنصر: فتح شيء مغلق، فهو يرجع إلى قولهم فتحت الباب.
وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنما نصر الله هذه الامة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم».
وروى النسائي أيضا عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «أبغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم». قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت يهود، فعادت يهود بهذا الدعاء وقالوا: إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم. قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفروا، فأنزل الله تعالى: {وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بك يا محمد، إلى قوله: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ}.
قوله تعالى: {وَلَمَّا جاءَهُمْ} جواب {لَمَّا} الفاء وما بعدها في قوله: {فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا} في قول الفراء، وجواب {فَلَمَّا} الثانية {كَفَرُوا}.
وقال الأخفش سعيد: جواب {لَمَّا} محذوف لعلم السامع، وقاله الزجاج.
وقال المبرد: جواب {فَلَمَّا} في قوله: {كَفَرُوا}، وأعيدت {فَلَمَّا} الثانية لطول الكلام. ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيدا له.

{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)}
قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا} بئس في كلام العرب مستوفية للذم، كما أن نعم مستوفية للمدح.
وفي كل واحدة منها أربع لغات: بئس بئس بئس بئس. نعم نعم نعم نعم. ومذهب سيبويه أن ما فاعلة بئس، ولا تدخل إلا على أسماء الأجناس والنكرات. وكذا نعم، فتقول نعم الرجل زيد، ونعم رجلا زيد، فإذا كان معها اسم بغير ألف ولام فهو نصب أبدا، فإذا كان فيه ألف ولام فهو رفع أبدا، ونصب رجل على التمييز.
وفي نعم مضمر على شريطة التفسير، وزيد مرفوع على وجهين: على خبر ابتداء محذوف، كأنه قيل من الممدوح؟ قلت هو زيد، والآخر على الابتداء وما قبله خبره. وأجاز أبو علي أن تليها ما موصولة وغير موصولة من حيث كانت مبهمة تقع على الكثرة ولا تخص واحدا بعينه، والتقدير عند سيبويه: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا. ف {أَنْ يَكْفُرُوا} في موضع رفع بالابتداء وخبره فيما قبله، كقولك: بئس الرجل زيد، وما على هذا القول موصولة.
وقال الأخفش: ما في موضع نصب على التمييز، كقولك: بئس رجلا زيد، فالتقدير بئس شيئا أن يكفروا. فـ {اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} على هذا القول صفة ما.
وقال الفراء: بِئْسَمَا بجملته شيء واحد ركب كحبذا.
وفي هذا القول اعتراض، لأنه يبقى فعل بلا فاعل.
وقال الكسائي: {ما} و{اشْتَرَوْا} بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، والتقدير بئس اشتراؤهم أن يكفروا. وهذا مردود، فإن نعم وبئس لا يدخلان على اسم معين معرف، والشراء قد تعرف بإضافته إلى الضمير. قال النحاس: وأبين هذه الأقوال قول الأخفش وسيبويه. قال الفراء والكسائي: {أَنْ يَكْفُرُوا} إن شئت كانت {أن} في موضع خفض ردا على الهاء في به. قال الفراء: أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا بما أنزل الله. فاشترى بمعنى باع وبمعنى ابتاع، والمعنى: بئس الشيء الذي اختاروا لأنفسهم حيث استبدلوا الباطل بالحق، والكفر بالايمان.
قوله تعالى: {بَغْياً} معناه حسدا، قاله قتادة والسدي، وهو مفعول من أجله، وهو على الحقيقة مصدر. الأصمعي: وهو مأخوذ من قولهم: قد بغى الجرح إذا فسد.
وقيل: أصله الطلب، ولذلك سميت الزانية بغيا. {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ} في موضع نصب، أي لان ينزل، أي لأجل إنزال الله الفضل على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن {أن ينزل} مخففا، وكذلك سائر ما في القرآن، إلا {وَما نُنَزِّلُهُ} في الحجر، وفي الأنعام {عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً}.
قوله تعالى: {فَباؤُ} أي رجعوا، وأكثر ما يقال في الشر، وقد تقدم. {بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ} تقدم معنى غضب الله عليهم، وهو عقابه، فقيل: الغضب الأول لعبادتهم العجل، والثاني لكفرهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله ابن عباس.
وقال عكرمة: لأنهم كفروا بعيسى ثم كفروا بمحمد، يعني اليهود.
وروى سعيد عن قتادة: الأول لكفرهم بالإنجيل، والثاني لكفرهم بالقرآن.
وقال قوم: المراد التأييد وشدة الحال عليهم، لا أنه أراد غضبين معللين بمعصيتين. و{مُهِينٌ} مأخوذ من الهوان، وهو ما اقتضى الخلود في النار دائما بخلاف خلود العصاة من المسلمين، فإن ذلك تمحيص لهم وتطهير، كرجم الزاني وقطع يد السارق، على ما يأتي بيانه في سورة النساء من حديث أبي سعيد الخدري، إن شاء الله تعالى.

{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا} أي صدقوا {بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} يعني القرآن {قالُوا نُؤْمِنُ} أي نصدق {بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا} يعني التوراة. {وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ} أي بما سواه، عن الفراء. وقتادة: بما بعده، وهو قول أبي عبيدة، والمعنى واحد. قال الجوهري: وراء بمعنى خلف، وقد تكون بمعنى قدام. وهي من الأضداد، قال الله تعالى: {وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ} أي أمامهم، وتصغيرها ورئية بالهاء وهي شاذة. وانتصب {وَراءَهُ} على الظرف. قال الأخفش: يقال لقيته من وراء، فترفعه على الغاية إذا كان غير مضاف تجعله اسما وهو غير متمكن، كقولك: من قبل ومن بعد، وأنشد:
إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن *** لقاؤك إلا من وراء وراء
فلت: ومنه قول إبراهيم عليه السلام في حديث الشفاعة: «إنما كنت خليلا من وراء وراء». والوراء: ولد الولد أيضا.
قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ} ابتداء وخبر. {مُصَدِّقاً} حال مؤكدة عند سيبويه. {لِما مَعَهُمْ} ما في موضع خفض باللام، و{مَعَهُمْ} صلتها، و{مَعَهُمْ} نصب بالاستقرار، ومن أسكن جعله حرفا.
قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} رد من الله تعالى عليهم في قولهم إنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم وتوبيخ، المعنى: فكيف قتلتم وقد نهيتم عن ذلك! فالخطاب لمن حضر محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أسلافهم. وإنما توجه الخطاب لأبنائهم، لأنهم كانوا يتولون أولئك الذين قتلوا، كما قال: {وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ} فإذا تولوهم فهم بمنزلتهم.
وقيل: لأنهم رضوا فعلهم فنسب ذلك إليهم. وجاء {تَقْتُلُونَ} بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الاشكال بقوله: {مِنْ قَبْلُ}. وإذا لم يشكل فجائز أن يأتي الماضي بمعنى المستقبل، والمستقبل بمعنى الماضي، قال الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه *** أن الوليد أحق بالعذر
شهد بمعنى يشهد. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم معتقدين الايمان فلم رضيتم بقتل الأنبياء! وقيل: {إن} بمعنى ما، وأصل لم لما، حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر، ولا ينبغي أن يوقف عليه، لأنه إن وقف عليه بلا هاء كان لحنا، وإن وقف عليه بالهاء زيد في السواد.

{وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ} اللام لام القسم. والبينات قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ} وهي العصا، والسنون، واليد، والدم، والطوفان، والجراد والقمل، والضفادع، وفلق البحر.
وقيل: البينات التوراة، وما فيها من الدلالات.
قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} توبيخ، وثم أبلغ من الواو في التقريع، أي بعد النظر في الآيات، أو الإتيان بها اتخذتم. وهذا يدل على أنهم إنما فعلوا ذلك بعد مهلة من.


**************

{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} تقدم الكلام في هذا ومعنى: {اسْمَعُوا} أطيعوا، وليس معناه الامر بإدراك القول فقط، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه، ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده، أي قبل وأجاب. قال:
دعوت الله حتى خفت ألا *** يكون الله يسمع ما أقول
أي يقبل، وقال الراجز:
والسمع والطاعة والتسليم *** خير وأعفى لبني تميم
{قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا} اختلف هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا، أو يكونوا فعلوا فعلا قام مقام القول فيكون مجازا، كما قال:
امتلأ الحوض وقال قطني *** مهلا رويدا قد ملأت بطني
وهذا احتجاج عليهم في قولهم: {نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا}.
قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أي حب العجل. والمعنى: جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم.
وفي الحديث: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء» الحديث، خرجه مسلم. يقال أشرب قلبه حب كذا، قال زهير:
فصحوت عنها بعد حب داخل *** والحب تشربه فؤادك داء
وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لان شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام مجاور لها غير متغلغل فيها. وقد زاد على هذا المعنى أحد التابعين فقال في زوجته عثمة، وكان عتب عليها في بعض الامر فطلقها وكان محبا لها:
تغلغل حب عثمة في فؤادي *** فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب *** ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها *** أطير لو أن إنسانا يطير
وقال السدي وابن جريج: إن موسى عليه السلام برد العجل وذراه في الماء، وقال لبني إسرائيل: اشربوا من ذلك الماء، فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه. وروي أنه ما شربه أحد إلا جن، حكاه القشيري.
قلت: أما تذريته في البحر فقد دل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} وأما شرب الماء وظهور البرادة على الشفاه فيرده قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ}. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ} أي إيمانكم الذي زعمتم في قولكم: {نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا}.
وقيل: إن هذا الكلام خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمر أن يوبخهم، أي قل لهم يا محمد: بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم. وقد مضى الكلام في: {بِئْسَما} والحمد لله وحده.

{قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)}
لما ادعت اليهود دعاوي باطلة حكاها الله عز وجل عنهم في كتابه، كقوله تعالى: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً}، وقوله: {وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى}
، وقالوا: {نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} أكذبهم الله عز وجل وألزمهم الحجة فقال قل لهم يا محمد: {إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} يعني الجنة. {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} في أقوالكم، لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة كان الموت أحب إليه من الحياة في الدنيا، لما يصير إليه من نعيم الجنة، ويزول عنه من أذى الدنيا، فأحجموا عن تمنى ذلك فرقا من الله لقبح أعمالهم ومعرفتهم بكفرهم في قولهم: {نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}، وحرصهم على الدنيا، ولهذا قال تعالى مخبرا عنهم بقوله الحق: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} تحقيقا لكذبهم. وأيضا لو تمنوا الموت لماتوا، كما روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقامهم من النار».
وقيل: إن الله صرفهم عن إظهار التمني، وقصرهم على الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذه ثلاثة أوجه في تركهم التمني.
وحكى عكرمة عن ابن عباس في قوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} أن المراد ادعوا بالموت على أكذب الفريقين منا ومنكم: فما دعوا لعلمهم بكذبهم. فإن قيل: فالتمني يكون باللسان تارة وبالقلب أخرى، فمن أين علم أنهم لم يتمنوه بقلوبهم؟ قيل له: نطق القرآن بذلك بقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} ولو تمنوه بقلوبهم لاظهروه بألسنتهم ردا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإبطالا لحجته، وهذا بين.
قوله تعالى: {خالِصَةً} نصب على خبر كان، وإن شئت كان حالا، ويكون {عِنْدَ اللَّهِ} في موضع الخبر. {أَبَداً} ظرف زمان يقع على القليل والكثير، كالحين والوقت، وهو هنا من أول العمر إلى الموت. و{ما} في قوله: {بِما} بمعنى الذي والعائد محذوف، والتقدير قدمته، وتكون مصدرية ولا تحتاج إلى عائد. و{أَيْدِيهِمْ} في موضع رفع، حذفت الضمة من الياء لثقلها مع الكسرة، وإن كانت في موضع نصب حركتها، لأن النصب خفيف، ويجوز إسكانها في الشعر. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} ابتداء وخبر.

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)}
قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ} يعني اليهود. {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} قيل: المعنى وأحرص، فحذف {مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} لمعرفتهم بذنوبهم وألا خير لهم عند الله، ومشركو العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة ولا علم لهم من الآخرة، ألا ترى قول شاعرهم:
تمتع من الدنيا فإنك فان *** من النشوات والنساء الحسان
والضمير في: {أَحَدُهُمْ} يعود في هذا القول على اليهود.
وقيل: إن الكلام تم في: {حَياةٍ} ثم استؤنف الاخبار عن طائفة من المشركين. قيل: هم المجوس، وذلك بين في أدعياتهم للعاطس بلغاتهم بما معناه عش ألف سنة. وخص الألف بالذكر لأنها نهاية العقد في الحساب. وذهب الحسن إلى أن {الَّذِينَ أَشْرَكُوا} مشركو العرب، خصوا بذلك لأنهم لا يؤمنون بالبعث، فهم يتمنون طول العمر. واصل سنة سنهة.
وقيل: سنوة.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة.
قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} أصل {يود} يودد، أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين، وقلبت حركة الدال على الواو، ليدل ذلك على أنه يفعل.
وحكى الكسائي: وددت، فيجوز على هذا يود بكسر الواو. ومعنى يود: يتمنى.
قوله تعالى: {وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ} اختلف النحاة في هو، فقيل: هو ضمير الأحد المتقدم، التقدير ما أحدهم بمزحزحه، وخبر الابتداء في المجرور. {أَنْ يُعَمَّرَ} فاعل بمزحزح وقالت فرقة: هو ضمير التعمير، والتقدير وما التعمير بمزحزحه، والخبر في المجرور، {أَنْ يُعَمَّرَ} بدل من التعمير على هذا القول.
وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: هو عماد.
قلت: وفيه بعد، فإن حق العماد أن يكون بين شيئين متلازمين، مثل قوله: {إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ}، وقوله: {وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} ونحو ذلك.
وقيل: {ما} عاملة حجازية، و{هُوَ} اسمها، والخبر في: {بِمُزَحْزِحِهِ}. وقالت طائفة: {هُوَ} ضمير الامر والشأن. ابن عطية: وفيه بعد، فإن المحفوظ عن النحاة أن يفسر بجملة سالمة من حرف جر. وقوله: {بِمُزَحْزِحِهِ} الزحزحة: الابعاد والتنحية، يقال: زحزحته أي باعدته فتزحزح أي تنحى وتباعد، يكون لازما ومتعديا، قال الشاعر في المتعدي:
يا قابض الروح من نفس إذا احتضرت *** وغافر الذنب زحزحني عن النار
وأنشده ذو الرمة:
يا قابض الروح عن جسم عصى زمنا *** وغافر الذنب زحزحني عن النار
وقال آخر في اللازم:
خليلي ما بال الدجى لا يتزحزح *** وما بال ضوء الصبح لا يتوضح
وروى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفا».
قوله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ} أي بما يعمل هؤلاء الذين يود أحدهم أن يعمر ألف سنة. ومن قرأ بالتاء فالتقدير عنده. قل لهم يا محمد الله بصير بما تعملون.
وقال العلماء: وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور. والبصير في كلام العرب: العالم بالشيء الخبير به، ومنه قولهم: فلان بصير بالطب، وبصير بالفقه، وبصير بملاقاة الرجال، قال:
فإن تسألوني بالنساء فإنني *** بصير بأدواء النساء طبيب
قال الخطابي: البصير العالم، والبصير المبصر.
وقيل: وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى جاعل الأشياء المبصرة ذوات إبصار، أي مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة والقوة، فالله بصير بعباده، أي جاعل عباده مبصرين.
يتبع......




الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 5:02 pm
المشاركة رقم: #17
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}
سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي، فمن صاحبك حتى نتابعك؟ قال: «جبريل» قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال، ذاك عدونا! لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك، فأنزل الله الآية إلى قوله: {لِلْكافِرِينَ} أخرجه الترمذي. وقوله تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ} الضمير في: {إنه} يحتمل معنيين، الأول: فإن الله نزل جبريل على قلبك.
الثاني: فإن جبريل نزل بالقرآن على قلبك. وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف. ودلت الآية على شرف جبريل عليه السلام وذم معاديه. وقوله تعالى: {بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بإرادته وعلمه. {مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني التوراة. {وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} تقدم معناه، والحمد لله.

{مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)}
قوله تعالى: {مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ} شرط، وجوابه {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ}. وهذا وعيد وذم لمعادي جبريل عليه السلام، وإعلان أن عداوة البعض تقتضي عداوة الله لهم. وعداوة العبد لله هي معصيته واجتناب طاعته، ومعادات أوليائه. وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه. فإن قيل: لم خص الله جبريل وميكائيل بالذكر وإن كان ذكر الملائكة قد عمهما؟ قيل له: خصهما بالذكر تشريفا لهما، كما قال: {فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}.
وقيل: خصا لان اليهود ذكروهما، ونزلت الآية بسببهما، فذكرهما واجب لئلا تقول اليهود: إنا لم نعاد الله وجميع ملائكته، فنص الله تعالى عليهما لإبطال ما يتأولونه من التخصيص. ولعلماء اللسان في جبريل وميكائيل عليهما السلام لغات، فأما التي في جبريل فعشر: الأولى: لِجِبْرِيلَ، وهي لغة أهل الحجاز، قال حسان بن ثابت:
وجبريل رسول الله فينا ***
الثانية: جبريل بفتح الجيم وهي قراءة الحسن وابن كثير، وروي عن ابن كثير أنه قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم وهو يقرأ جبريل وميكائيل فلا أزال أقرؤهما أبدا كذلك.
الثالثة: جبرئيل بياء بعد الهمزة، مثال جبرعيل، كما قرأ أهل الكوفة، وأنشدوا:
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة *** مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها
وهي لغة تميم وقيس.
الرابعة: جبرئل على وزن جبرعل مقصور، وهي قراءة أبي بكر عن عاصم.
الخامسة: مثلها، وهي قراءة يحيى بن يعمر، إلا أنه شدد اللام.
السادسة: جبرائل بألف بعد الراء ثم همزة وبها قرأ عكرمة.
السابعة: مثلها، إلا أن بعد الهمزة ياء.
الثامنة: جبرئيل بياءين بغير همزة وبها قرأ الأعمش ويحيى بن يعمر أيضا.
التاسعة: جبرئين بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها ياء ونون.
العاشرة: جبرين بكسر الجيم وتسكين الياء بنون من غير همزة وهي لغة بني أسد. قال الطبري: ولم يقرأ بها. قال النحاس- وذكر قراءة ابن كثير-: لا يعرف في كلام العرب فعليل، وفيه فعليل، نحو دهليز وقطمير وبرطيل، وليس ينكر أن يكون في كلام العجم ما ليس له نظير في كلام العرب، وليس ينكر أن يكثر تغيره، كما قالوا: إبراهيم وإبرهم وإبراهم وإبراهام.
قال غيره: جبريل اسم أعجمي عربته العرب، فلها فيه هذه اللغات ولذلك لم ينصرف.
قلت: قد تقدم في أول الكتاب أن الصحيح في هذه الألفاظ عربية نزل بها جبريل بلسان عربي مبين. قال النحاس: ويجمع جبريل على التكسير جباريل. وأما اللغات التي في ميكائيل فست: الأولى: ميكائيل، قراءة نافع. وميكائيل بياء بعد الهمزة قراءة حمزة. مِيكالَ، لغة أهل الحجاز، وهي قراءة أبي عمرو وحفص عن عاصم. وروي عن ابن كثير الثلاثة أوجه، قال كعب بن مالك:
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد *** فيه مع النصر ميكال وجبريل
وقال آخر:
عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد *** وبجبرئيل وكذبوا ميكالا
الرابعة ميكئيل، مثل ميكعيل، وهي قراءة ابن محيصن.
الخامسة: ميكاييل بياءين وهي قراءة الأعمش باختلاف عنه.
السادسة: ميكاءل، كما يقال إسراءل بهمزة مفتوحة، وهو اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف.
وذكر ابن عباس أن جبر وميكا وإسراف هي كلها بالأعجمية بمعنى: عبد ومملوك. وائل: اسم الله تعالى، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع سجع مسيلمة: هذا كلام لم يخرج من إل، وفي التنزيل: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} في أحد التأويلين، وسيأتي. قال المارودي: إن جبريل وميكائيل اسمان، أحدهما عبد الله، والآخر عبيد الله، لأن إيل هو الله تعالى، وجبر هو عبد، وميكا هو عبيد، فكأن جبريل عبد الله، وميكائيل عبيد الله، هذا قول ابن عباس، وليس له في المفسرين مخالف.
قلت: وزاد بعض المفسرين: وإسرافيل عبد الرحمن. قال النحاس: ومن تأول الحديث جبر عبد، وإل الله وجب عليه أن يقول: هذا جبرئل ورأيت جبرئل ومررت بجبريل، وهذا لا يقال، فوجب أن يكون معنى الحديث أنه مسمى بهذا. قال غيره: ولو كان كما قالوا لكان مصروفا، فترك الصرف يدل على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف.
وروى عبد الغني الحافظ من حديث أفلت بن خليفة- وهو فليت العامري وهو أبو حسان- عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم رب جبريل وميكائل وإسرافيل أعوذ بك من حر النار وعذاب القبر».

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)}
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها؟ فأنزل الله هذه الآية، ذكره الطبري.


{أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)}
قوله تعالى: {أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً} الواو واو العطف، دخلت عليها ألف الاستفهام كما تدخل على الفاء في قوله: {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ}، {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ}، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ}. وعلى ثم كقوله: {أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ} هذا قول سيبويه.
وقال الأخفش: الواو زائدة. ومذهب الكسائي أنها أو، حركت الواو منها تسهيلا. وقرأها قوم أو، ساكنة الواو فتجيء بمعنى بل، كما يقول القائل: لأضربنك، فيقول المجيب: أو يكفي الله. قال ابن عطية: وهذا كله متكلف، والصحيح قول سيبويه. {كُلَّما} نصب على الظرف، والمعني في الآية مالك بن الصيف، ويقال فيه ابن الضيف، كان قد قال: والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد ولا ميثاق، فنزلت الآية.
وقيل: إن اليهود عاهدوا لئن خرج محمد لنؤمن به ولنكونن معه على مشركي العرب، فلما بعث كفروا به.
وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين اليهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير، دليله قول تعالى: {الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ}.
قوله تعالى: {نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} النبذ: الطرح والإلقاء، ومنه النبيذ والمنبوذ، قال أبو الأسود:
وخبرني من كنت أرسلت إنما *** أخذت كتابي معرضا بشمالكا
نظرت إلى عنوانه فنبذته *** كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
آخر:
إن الذين أمرتهم أن يعدلوا *** نبذوا كتابك واستحلوا المحرما
وهذا مثل يضرب لمن استخف بالشيء فلا يعمل به، تقول العرب: اجعل هذا خلف ظهرك، ودبرا منك، وتحت قدمك، أي اتركه وأعرض عنه، قال الله تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا}. وأنشد الفراء:
تميم بن زيد لا تكونن حاجتي *** بظهر فلا يعيا علي جوابها
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ} ابتداء. {لا يُؤْمِنُونَ} فعل مستقبل في موضع الخبر.

{وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101)}
قوله تعالى: {وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ} نعت لرسول، ويجوز نصبه على الحال. {نَبَذَ فَرِيقٌ} جواب {لَمَّا}. {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ} نصب ب {نَبَذَ}، والمراد التوراة، لأن كفرهم بالنبي عليه السلام وتكذيبهم له نبذ لها. قال السدي: نبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت.
وقيل: يجوز أن يعني به القرآن. قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرءونه، ولكن نبذوا العمل به.
وقال سفيان بن عيينة: أدرجوه في الحرير والديباج، وحلوه بالذهب والفضة، ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه، فذلك النبذ. وقد تقدم بيانه مستوفى. {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} تشبيه بمن لا يعلم إذ فعلوا فعل الجاهل فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم.

{وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)}
فيه أربع وعشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ} هذا إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بأنهم اتبعوا السحر أيضا، وهم اليهود.
وقال السدى: عارضت اليهود محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت وماروت.
وقال محمد بن إسحاق: لما ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم: يزعم محمد أن ابن داود كان نبيا! والله ما كان إلا ساحرا، فأنزل الله عز وجل: {وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا} أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرا.
وقال الكلبي: كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات على لسان آصف كاتب سليمان، ودفنوه تحت مصلاه حين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان، فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس: إنما ملككم بهذا فتعلموه، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان! وأما السفلة فقالوا: هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهر براءته مما رمي به فقال: {وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ}. قال عطاء: {تَتْلُوا} تقرأ من التلاوة.
وقال ابن عباس: {تَتْلُوا} تتبع، كما تقول: جاء القوم يتلو بعضهم بعضا.
وقال الطبري: {اتَّبَعُوا} بمعنى فضلوا.
قلت: لان كل من اتبع شيئا وجعله أمامه فقد فضله على غيره، ومعنى: {تَتْلُوا} يعني تلت، فهو بمعنى المضي، قال الشاعر:
وإذا مررت بقبره فاعقر به *** كوم الهجان وكل طرف سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها *** فلقد يكون أخادم وذبائح
أي فلقد كان. و{ما} مفعول ب {اتَّبَعُوا} أي اتبعوا ما تقولته الشياطين على سليمان وتلته.
وقيل: {ما} نفي، وليس بشيء لا في نظام الكلام ولا في صحته، قال ابن العربي. {عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ} أي على شرعه ونبوته. قال الزجاج: المعنى على عهد ملك سليمان.
وقيل: المعنى في ملك سليمان، يعني في قصصه وصفاته وأخباره. قال الفراء: تصلح على وفي، في مثل هذا الموضع. وقال: {عَلى} ولم يقل بعد لقوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي في تلاوته. وقد تقدم معنى الشيطان واشتقاقه، فلا معنى لإعادته. والشياطين هنا قيل: هم شياطين الجن، وهو المفهوم من هذا الاسم.
وقيل: المراد شياطين الانس المتمردون في الضلال، كقول جرير:
أيام يدعونني الشيطان من غزلي *** وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
الثانية: قوله تعالى: {وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ} تبرئة من الله لسليمان، ولم يتقدم في الآية أن أحدا نسبه إلى الكفر، ولكن اليهود نسبته إلى السحر، ولكن لما كان السحر كفرا صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر. ثم قال: {وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا} فأثبت كفرهم بتعليم السحر. و{يُعَلِّمُونَ}: في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ثان. وقرأ الكوفيون سوى عاصم {ولكن الشياطين} بتخفيف {لكن}، ورفع النون من {الشياطين}، وكذلك في الأنفال {ولكن الله رمى} ووافقهم ابن عامر. الباقون بالتشديد والنصب. و{لكن} كلمة لها معنيان: نفي الخبر الماضي، وإثبات الخبر المستقبل، وهي مبنية من ثلاث كلمات: لا، ك، إن. لا نفي، والكاف خطاب، وإن إثبات وتحقيق، فذهبت الهمزة استثقالا، وهي تثقل وتخفف، فإذا ثقلت نصبت كإن الثقيلة، وإذا خففت رفعت بها كما ترفع بإن الخفيفة.
الثالثة: السحر، قيل: السحر أصله التمويه بالحيل والتخائيل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه.
وقيل: هو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته، وكذلك إذا عللته، والتسحير مثله، قال لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا *** عصافير من هذا الأنام المسحر
آخر:
أرانا موضعين لأمر غيب *** ونسحر بالطعام وبالشراب
عصافير وذبان ودود *** وأجرأ من مجلحة الذئاب
وقوله تعالى: {إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} يقال: المسحر الذي خلق ذا سحر، ويقال من المعللين، أي ممن يأكل الطعام ويشرب الشراب.
وقيل: أصله الخفاء، فإن الساحر يفعله في خفية.
وقيل: أصله الصرف، يقال: ما سحرك عن كذا، أي ما صرفك عنه، فالسحر مصروف عن جهته.
وقيل: أصله الاستمالة، وكل من استمالك فقد سحرك. وقيل في قوله تعالى: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} أي سحرنا فأزلنا بالتخييل عن معرفتنا.
وقال الجوهري: السحر الأخذة، وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر، وقد سحره يسحره سحرا. والساحر: العالم، وسحره أيضا بمعنى خدعه، وقد ذكرناه.
وقال ابن مسعود: كنا نسمي السحر في الجاهلية العضة. والعضة عند العرب: شدة البهت وتمويه الكذب، قال الشاعر:
أعوذ بربي من النافثا *** ت في عضه العاضه المعضه
الرابعة: واختلف هل له حقيقة أم لا، فذكر الغزنوي الحنفي في عيون المعاني له: أن السحر المعتزلة خدع لا أصل له، وعند الشافعي وسوسة وأمراض. قال: وعندنا أصله طلسم يبني على تأثير خصائص الكواكب، كتأثير الشمس في زئبق عصي فرعون، أو تعظيم الشياطين ليسهلوا له ما عسر.
قلت: وعندنا أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء، على ما يأتي. ثم من السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة. والشعوذي: البريد لخفة سيره. قال ابن فارس في المجمل: الشعوذة ليس من كلام أهل البادية، وهي خفة في اليدين واخذه كالسحر، ومنه ما يكون كلاما يحفظ، ورقي من أسماء الله تعالى. وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك.
الخامسة: سمي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحرا، فقال: «إن من البيان لسحرا» أخرجه مالك وغيره. وذلك لان فيه تصويب الباطل حتى يتوهم السامع أنه حق، فعلى هذا يكون قوله عليه السلام: «إن من البيان لسحرا» خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة، إذ شبهها بالسحر.
وقيل: خرج مخرج المدح للبلاغة والتفضيل للبيان، قاله جماعة من أهل العلم. والأول أصح، والدليل عليه قوله عليه السلام: «فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض»، وقوله: «إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون». الثرثرة: كثرة الكلام وترديده، يقال: ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار. والمتفيهق نحوه. قال ابن دريد. فلان يتفيهق في كلامه إذا توسع فيه وتنطع، قال: وأصله الفهق وهو الامتلاء، كأنه ملا به فمه.
قلت: وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقالا: أما قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن من البيان لسحرا» فالرجل يكون عليه ألحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الإسهاب والاطناب، وتصوير الباطل في صورة الحق. وهذا بين، والحمد لله.
السادسة: من السحر ما يكون كفرا من فاعله، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس، وإخراجهم في هيئة بهيمة، وقطع مسافة شهر في ليلة، والطيران في الهواء، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه، قاله أبو نصر عبد الرحيم القشيري. قال أبو عمرو: من زعم أن الساحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة، فيجعل الإنسان حمارا أو نحوه، ويقدر على نقل الأجساد وهلاكها وتبديلها، فهذا يرى قتل الساحر لأنه كافر بالأنبياء، يدعي مثل آياتهم ومعجزاتهم، ولا يتهيأ مع هذا علم صحة النبوة إذ قد يحصل مثلها بالحيلة. وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات فلم يجب على أصله قتل الساحر، إلا أن يقتل بفعله أحدا فيقتل به.
السابعة: ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة. وذهب عامة المعتزلة وأبو إسحاق الأسترآبادي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة، كما قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى} ولم يقل تسعى على الحقيقة، ولكن قال: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ}.
وقال أيضا: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ}. وهذا لا حجة فيه، لأنا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوزها العقل وورد بها السمع، فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه، ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس، فدل على أن له حقيقة. وقوله تعالى في قصة سحرة فرعون: {وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} وسورة الفلق، مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم، وهو مما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، الحديث. وفيه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لما حل السحر: «إن الله شفاني». والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض، فدل على أن له حقا وحقيقة، فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه. وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق. ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله.
وروى سفيان عن أبي الأعور عن عكرمة عن ابن عباس قال: علم السحر في قرية من قرى مصر يقال لها: الفرما فمن كذب به فهو كافر، مكذب لله ورسوله، منكر لما علم مشاهدة وعيانا.
الثامنة: قال علماؤنا: لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد. قالوا: ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات والانتصاب على رأس قصبة، والجري على خيط مستدق، والطيران في الهواء والمشي على الماء وركوب كلب وغير ذلك. ومع ذلك فلا يكون السحر موجبا لذلك، ولا علة لوقوعه ولا سببا مولدا، ولا يكون الساحر مستقلا به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشيع عند الأكل، والري عند شرب الماء. روى سفيان عن عمار الذهبي أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل، ويدخل في است الحمار ويخرج من فيه، فاشتمل له جندب على السيف فقتله جندب- هذا هو جندب بن كعب الأزدي ويقال البجلي- وهو الذي قال في حقه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يكون في أمتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسيف يفرق بين الحق والباطل». فكانوا يرونه جندبا هذا قاتل الساحر. قال علي بن المديني: روى عنه حارثة بن مضرب.
التاسعة: أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام. فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لاجزناه.
العاشرة: في الفرق بين السحر والمعجزة، قال علماؤنا: السحر يوجد من الساحر وغيره، وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد. والمعجزة لا يمكن الله أحدا أن يأتي بمثلها وبمعارضتها، ثم الساحر لم يدع النبوة فالذي يصدر منه متميز عن المعجزة، فإن المعجزة شرطها اقتران دعوى النبوة والتحدي بها، كما تقدم في مقدمة الكتاب.
الحادية عشرة: واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذمي، فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته، لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني، ولان الله تعالى سمى السحر كفرا بقوله: {وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق والشافعي وأبي حنيفة. وروي قتل الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبي موسى وقيس ابن سعد وعن سبعة من التابعين. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حد الساحر ضربه بالسيف» خرجه الترمذي وليس بالقوي، انفرد به إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف عندهم، رواه ابن عيينة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن مرسلا، ومنهم من جعله عن الحسن عن جندب. قال ابن المنذر: وقد روينا عن عائشة. أنها باعت ساحرة كانت سحرتها وجعلت ثمنها في الرقاب. قال ابن المنذر: وإذا أقر الرجل أنه سحر بكلام يكون كفرا وجب قتله إن لم يتب، وكذلك لو ثبتت به عليه بينة ووصفت البينة كلاما يكون كفرا. وإن كان الكلام الذي ذكر أنه سحر به ليس بكفر لم يجز قتله، فإن كان أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه إن كان عمد ذلك، وإن كان مما لا قصاص فيه ففيه دية ذلك. قال ابن المنذر: وإذا اختلف أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسألة وجب اتباع أشبههم بالكتاب والسنة، وقد يجوز أن يكون السحر الذي أمر من أمر منهم بقتل الساحر سحرا يكون كفرا فيكون ذلك موافقا لسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها أمرت ببيع ساحرة لم يكن سحرها كفرا. فإن احتج محتج بحديث جندب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حد الساحر ضربه بالسيف» فلو صح لاحتمل أن يكون أمر بقتل الساحر الذي يكون سحره كفرا، فيكون ذلك موافقا للاخبار التي جاءت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث...» قلت: وهذا صحيح، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف. والله تعالى أعلم.
وقال بعض العلماء: إن قال أهل الصناعة أن السحر لا يتم إلا مع الكفر ولاستكبار، أو تعظيم الشيطان فالسحر إذا دال على الكفر على هذا التقدير، والله تعالى أعلم. وروي عن الشافعي: لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره ويقول تعمدت القتل، وإن قال لم أتعمده لم يقتل، وكانت فيه الدية كقتل الخطأ، وإن أضربه أدب على قدر الضرر. قال ابن العربي: وهذا باطل من وجهين،
أحدهما: أنه لم يعلم السحر، وحقيقته أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى، وتنسب إليه المقادير والكائنات.
الثاني: أن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر فقال: {وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ} بقول السحر {وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا} به وبتعليمه، وهاروت وماروت يقولان: {إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} وهذا تأكيد للبيان. احتج أصحاب مالك بأنه لا تقبل توبته، لأن السحر باطن لا يظهره صاحبه فلا تعرف توبته كالزنديق، وإنما يستتاب من أظهر الكفر مرتدا، قال مالك: فإن جاء الساحر أو الزنديق تائبا قبل أن يشهد عليهما قبلت توبتهما، والحجة لذلك قوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا} فدل على أنه كان ينفعهم إيمانهم قبل نزول العذاب، فكذلك هذان.
الثانية عشرة: وأما ساحر الذمة، فقيل يقتل.
وقال مالك: لا يقتل إلا أن يقتل بسحره ويضمن ما جنى، ويقتل إن جاء منه ما لم يعاهد عليه.
وقال ابن خويز منداد: فأما إذا كان ذميا فقد اختلفت الرواية عن مالك، فقال مرة: يستتاب وتوبته الإسلام.
وقال مرة: يقتل وإن أسلم. وأما الحربي فلا يقتل إذا تاب، وكذلك قال مالك في ذمي سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يستتاب وتوبته الإسلام.
وقال مرة: يقتل ولا يستتاب كالمسلم.
وقال مالك أيضا في الذمي إذا سحر: يعاقب، إلا أن يكون قتل بسحره، أو أحدث حدثا فيؤخذ منه بقدره.
وقال غيره: يقتل، لأنه قد نقض العهد. ولا يرث الساحر ورثته، لأنه كافر إلا أن يكون سحره لا يسمى كفرا.
وقال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها: تنكل ولا تقتل.
الثالثة عشرة: واختلفوا هل يسئل الساحر حل السحر عن المسحور، فأجازه سعيد ابن المسيب على ما ذكره البخاري، وإليه مال المزني وكرهه الحسن البصري.
وقال الشعبي: لا بأس بالنشرة. قال ابن بطال: وفي كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به، إن شاء الله تعالى، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.
الرابعة عشرة: أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن، ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم، وليس في إثباتهم مستحيل عقلي، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الله أن يثبت ما قضى العقل بجوازه، ونص الشرع على ثبوته، قال الله تعالى: {وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا} وقال: {وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} إلى غير ذلك، من الآي، وسورة الجن تقضي بذلك، وقال عليه السلام: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». وقد أنكر هذا الخبر كثير من الناس، وأحالوا روحين في جسد، والعقل لا يحيل سلوكهم في الانس إذا كانت أجسامهم رقيقة بسيطة على ما يقوله بعض الناس بل أكثرهم، ولو كانوا كثافا لصح ذلك أيضا منهم، كما يصح دخول الطعام والشراب في الفراغ من الجسم، وكذلك الديدان قد تكون في بني آدم وهي أحياء.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: {وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} ما نفي، والواو للعطف على قوله: {وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ} وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر، فنفى الله ذلك.
وفي الكلام تقديم وتأخير، التقدير وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله: {وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا}. هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم، ودقه أفهامهم، وأكثر ما يتعاطاه من الانس النساء وخاصة في حال طمثهن، قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ}.
وقال الشاعر:
أعوذ بربي من النافثا *** ت..............
السادسة عشرة: إن قال قائل: كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل منه، فالجواب من وجوه ثلاثة،
الأول: أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع، كما قال تعالى: {فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا اثنان من الاخوة فصاعدا، على ما يأتي بيانه في النساء.
الثاني: أنهما لما كانا الرأس في التعليم نص عليهما دون اتباعهما، كما قال تعالى: {عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ} الثالث: إنما خصا بالذكر من بينهم لتمردهما، كما قال تعالى: {فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وقوله: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ}. وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله، كقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ} وقوله: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ}، وإما لطيبه كقوله: {فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}، وإما لاكثريته، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا»، وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية، والله تعالى أعلم. وقد قيل: إن ما عطف على السحر وهي مفعولة، فعلى هذا يكون ما بمعنى الذي، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا، ولله أن يمتحن عباده بما شاء، كما امتحن بنهر طالوت، ولهذا يقول الملكان: إنما نحن فتنة، أي محنة من الله، نخبرك أن عمل الساحر كفر فإن أطعتنا نجوت، وإن عصيتنا هلكت. وقد روي عن على وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي ما معناه: أنه لما كثر الفساد من أولاد آدم عليه السلام- وذلك في زمن إدريس عليه السلام- عيرتهم الملائكة، فقال الله تعالى: أما إنكم لو كنتم مكانهم، وركبت فيكم ما ركبت فيهم لعملتم مثل أعمالهم، فقالوا: سبحانك! ما كان ينبغي لنا ذلك، قال: فاختاروا ملكين من خياركم، فاختاروا هاروت وماروت، فأنزلهما إلى الأرض فركب فيهما الشهوة، فما مر بهما شهر حتى فتنا بامرأة اسمها بالنبطية بيدخت وبالفارسية ناهيل وبالعربية الزهرة اختصمت إليهما، وراوداها عن نفسها فأبت إلا أن يدخلا في دينها ويشربا الخمر ويقتلا النفس التي حرم الله، فأجاباها وشربا الخمر وألما بها، فرآهما رجل فقتلاه، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها فتكلمت به فعرجت فمسخت كوكبا.
وقال سالم عن أبيه عن عبد الله: فحدثني كعب الحبر أنهما لم يستكملا يومهما حتى عملا بما حرم الله عليهما.
وفي غير هذا الحديث: فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا، فهما يعذبان ببابل في سرب من الأرض. قيل: بابل العراق.
وقيل: بابل نهاوند، وكان ابن عمر فيما يروي عن عطاء أنه كان إذا رأى الزهرة وسهيلا سبهما وشتمهما، ويقول: إن سهيلا كان عشارا باليمن يظلم الناس، وإن الزهرة كانت صاحبة هاروت وماروت. قلنا: هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شي، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله {لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ}. {بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}. {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ}. وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة ويوجد منهم خلاف ما كلفوه، ويخلق فيهم الشهوات، إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم، ومن هذا خوف الأنبياء والأولياء الفضلاء العلماء، ولكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح. ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء، ففي الخبر: «أن السماء لما خلقت خلق فيها سبعة دوارة زحل والمشتري وبهرام وعطارد والزهرة والشمس والقمر». وهذا معنى قول الله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. فثبت بهذا أن الزهرة وسهيلا قد كانا قبل خلق آدم، ثم إن قول الملائكة: {ما كانَ يَنْبَغِي لَنا} عورة: لا تقدر على فتنتنا، وهذا كفر نعوذ بالله منه ومن نسبته إلى الملائكة الكرام صلوات الله عليهم أجمعين، وقد نزهناهم وهم المنزهون عن كل ما ذكره ونقله المفسرون، سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
السابعة عشرة: قرأ ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن: {الملكين} بكسر اللام. قال ابن أبزى: هما داود وسليمان. ف {ما} على هذا القول أيضا نافية، وضعف هذا القول ابن العربي.
وقال الحسن: هما علجان كانا ببابل ملكين، ف {ما} على هذا القول مفعولة غير نافية.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {بِبابِلَ} بابل لا ينصرف للتأنيث والتعريف والعجمة، وهي قطر من الأرض، قيل: العراق وما والاه.
وقال ابن مسعود لأهل الكوفة: أنتم بين الحيرة وبابل.
وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس العين.
وقال قوم: هي بالمغرب. قال ابن عطية: وهذا ضعيف.
وقال قوم: هو جبل نهاوند، فالله تعالى أعلم. واختلف في تسميته ببابل، فقيل: سمي بذلك لتبلبل الألسن بها حين سقط صرح نمرود.
وقيل: سمي به لان الله تعالى لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من الآفاق إلى بابل، فبلبل الله ألسنتهم بها، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد. والبلبلة: التفريق، قال معناه الخليل.
وقال أبو عمر بن عبد البر: من أخصر ما قيل في البلبلة وأحسنه ما رواه داود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها اللسان العربي، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض.
التاسعة عشرة: روى عبد الله بن بشر المازني قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده إنها لا سحر من هاروت وماروت». قال علماؤنا: إنما كانت الدنيا أسحر منهما لأنها تسحرك بخدعها، وتكتمك فتنتها، فتدعوك إلى التحارص عليها والتنافس فيها، والجمع لها والمنع، حتى تفرق بينك وبين طاعة الله تعالى، وتفرق بينك وبين رؤية الحق ورعايته، فالدنيا أسحر منهما، تأخذ بقلبك عن الله، وعن القيام بحقوقه، وعن وعده ووعيده. وسحر الدنيا محبتها وتلذذك بشهواتها، وتمنيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك، ولهذا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حبك الشيء يعمي ويصم».
العشرين: قوله تعالى: {هارُوتَ وَمارُوتَ} لا ينصرف {هاروت}، لأنه أعجمي معرفة، وكذا {ماروت}، ويجمع هواريت ومواريت، مثل طواغيت، ويقال: هوارتة وهوار، وموارتة وموار، ومثله جالوت وطالوت، فاعلم. وقد تقدم هل هما ملكان أو غيرهما؟ خلاف. قال الزجاج: وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: أي والذي أنزل على الملكين، وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه. قال الزجاج: وهذا القول الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر، ومعناه أنهما يعلمان الناس على النهي فيقولان لهم: لا تفعلوا كذا، ولا تحتالوا بكذا لتفرقوا بين المرء وزوجه. والذي أنزل عليهما هو النهي، كأنه قولا للناس: لا تعملوا كذا، ف {يُعَلِّمانِ} بمعنى يعلمان، كما قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ} أي أكرمنا.
الحادية والعشرون: قوله تعالى: {وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ} {من} زائدة للتوكيد، والتقدير: وما يعلمان أحدا. {حَتَّى يَقُولا} نصب بحي فلذلك حذفت منه النون، ولغة هذيل وثقيف عتى بالعين غير المعجمة. والضمير في: {يُعَلِّمانِ} لهاروت وماروت. وفي {يُعَلِّمانِ} قولان،
أحدهما: أنه على بابه من التعليم.
الثاني: أنه من الاعلام لا من التعليم، ف {يُعَلِّمانِ} بمعنى، يعلمان، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم، ذكره ابن الأعرابي وابن الأنباري. قال كعب بن مالك:
تعلم رسول الله أنك مدركي *** وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
وقال القطامي:
تعلم أن بعد الغي رشدا *** وأن لذلك الغي انقشاعا
وقال زهير:
تعلمن ها لعمر الله ذا قسما *** فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك
وقال آخر:
تعلم أنه لا طير إلا *** على متطير وهو الثبور
{إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ} لما أنبأ بفتنتهما كانت الدنيا أسحر منهما حين كتمت فتنتها. {فَلا تَكْفُرْ} قالت فرقة بتعليم السحر، وقالت فرقة باستعماله.
وحكى المهدوي أنه استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله.
الثانية والعشرون: قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما} قال سيبويه: التقدير فهم يتعلمون، قال ومثله {كُنْ فَيَكُونُ}.
وقيل: هو معطوف على موضع {ما يُعَلِّمانِ}، لأن قوله: {وَما يُعَلِّمانِ} وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم.
وقال الفراء: هي مردودة على قوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}... فَيَتَعَلَّمُونَ، ويكون {فَيَتَعَلَّمُونَ} متصلة بقول: {إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ} فيأتون فيتعلمون. قال السدي: كانا يقولان لمن جاءهما: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ، فإن أبى أن يرجع قالا له: ائت هذا الرماد فبل فيه، فإذا بال فيه خرج منه نور يسطع إلى السماء، وهو الايمان، ثم يخرج منه دخان أسود فيدخل في أذنيه وهو الكفر، فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك علماه ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر ليس يقدر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفرقة، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر والغاية في تعليمه، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره. وقالت طائفة: ذلك خرج على الأغلب، ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب، بالحب والبغض وبإلقاء الشرور حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه، ويحول بين المرء وقلبه، وذلك بإدخال الألأم وعظيم الاسقام، وكل ذلك مدرك بالمشاهدة وإنكاره معاندة، وقد تقدم هذا، والحمد لله.
الثالثة والعشرون: قوله تعالى: {وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ما هُمْ إشارة إلى السحرة. وقيل إلى اليهود، وقيل إلى الشياطين. {بِضارِّينَ بِهِ} أي بالسخر. {مِنْ أَحَدٍ} أي أحدا، ومن زائدة. {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} بإرادته وقضائه لا بأمره، لأنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ويقضي على الخلق بها.
وقال الزجاج: {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} إلا بعلم الله. قال النحاس: وقول أبي إسحاق {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} إلا بعلم الله غلط، لأنه إنما يقال في العلم أذن، وقد أذنت أذنا. ولكن لما لم يحل فيما بينهم وبينه وظلوا يفعلونه كان كأنه أباحه مجازا.
الرابعة والعشرون: قوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ} يريد في الآخرة وإن أخذوا بها نفعا قليلا في الدنيا.
وقيل: يضرهم في الدنيا، لأن ضرر السحر والتفريق يعود على الساحر في الدنيا إذا عثر عليه، لأنه يؤدب ويزجر، ويلحقه شؤم السحر. وباقي الآي بين لتقدم معانيها. واللام في: {وَلَقَدْ عَلِمُوا} لام توكيد. {لَمَنِ اشْتَراهُ} لام يمين، وهي للتوكيد أيضا. وموضع {من} رفع بالابتداء، لأنه لا يعمل ما قبل اللام فيما بعدها. و{من} بمعنى الذي.
وقال الفراء. هي للمجازاة.
وقال الزجاج: ليس هذا بموضع شرط، و{من} بمعنى الذي، كما تقول: لقد علمت، لمن جاءك ما له عقل. {مِنْ خَلاقٍ} {من} زائدة، والتقدير ما له في الآخرة خلاق، ولا تزاد في الواجب، هذا قول البصريين.
وقال الكوفيون: تكون زائدة في الواجب، واستدلوا بقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} والخلاق: النصيب، قاله مجاهد. قال الزجاج: وكذلك هو عند أهل اللغة، إلا أنه لا يكاد يستعمل إلا للنصيب من الخير. وسئل عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} فأخبر أنهم قد علموا. ثم قال: {وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} فأخبر أنهم لا يعلمون، فالجواب وهو قول قطرب والأخفش: أن يكون الذين يعلمون الشياطين، والذين شروا أنفسهم- أي باعوها- هم الانس الذين لا يعلمون. قال الزجاج وقال علي بن سليمان: الأجود عندي أن يكون {وَلَقَدْ عَلِمُوا} للملكين، لأنهما أولى بأن يعلموا. وقال: {عَلِمُوا} كما يقال: الزيدان قاموا.
وقال الزجاج: الذين علموا علماء اليهود، ولكن قيل: {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} أي فدخلوا في محل من يقال له: لست بعالم، لأنهم تركوا العمل بعلمهم واسترشدوا من الذين عملوا بالسحر.
يتبع...




الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 5:04 pm
المشاركة رقم: #18
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} أي اتقوا السحر. {لَمَثُوبَةٌ} المثوبة الثواب، وهي جواب {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا} عند قوم.
وقال الأخفش سعيد: ليس ل {لو} هنا جواب في اللفظ ولكن في المعنى، والمعنى لا ثيبوا. وموضع {أن} من قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ} موضع رفع، أي لو وقع إيمانهم، لأن {لو} لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا، لأنها بمنزلة حروف الشرط إذ كان لا بدله من جواب، و{أن} يليه فعل. قال محمد بن يزيد:
وإنما لم يجاز ب {لو} لان سبيل حروف المجازاة كلها أن تقلب الماضي إلى معنى المستقبل، فلما لم يكن هذا في: {لو} لم يجز أن يجازى بها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا} ذكر شيئا آخر من جهالات اليهود والمقصود نهي المسلمين عن مثل ذلك. وحقيقة {راعِنا} في اللغة أرعنا ولنرعك، لأن المفاعلة من اثنين، فتكون من رعاك الله، أي احفظنا ولنحفظك، وارقبنا ولنرقبك. ويجوز أن يكون من أرعنا سمعك، أي فرغ سمعك لكلامنا.
وفي المخاطبة بهذا جفاء، فأمر المؤمنين أن يتخيروا من الألفاظ أحسنها ومن المعاني أرقها. قال ابن عباس: كان المسلمون يقولون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: راعنا. على جهة الطلب والرغبة- من المراعاة- أي التفت إلينا، وكان هذا بلسان اليهود سبا، أي اسمع لا سمعت، فاغتنموها وقالوا: كنا نسبه سرا فالان نسبه جهرا، فكانوا يخاطبون بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: عليكم لعنة الله! لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأضربن عنقه، فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية، ونهوا عنها لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد فيه.
الثانية: في هذه الآية دليلان: أحدهما- على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض، ويخرج من هذا فهم القذف بالتعريض، وذلك يوجب الحد عندنا خلافا لابي حنيفة والشافعي وأصحابهما حين قالوا: التعريض محتمل للقذف وغيره، والحد مما يسقط بالشبهة. وسيأتي في النور بيان هذا، إن شاء الله تعالى. الدليل الثاني- التمسك بسد الذرائع وحمايتها وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية عنه، وقد دل على هذا الأصل الكتاب والسنة. والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع. أما الكتاب فهذه الآية، ووجه التمسك بها أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سب بلغتهم، فلما علم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ، لأنه ذريعة للسب، وقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} فمنع من سب آلهتهم مخافة مقابلتهم بمثل ذلك، وقوله تعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ} الآية، فحرم عليهم تبارك وتعالى الصيد في يوم السبت، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا، أي ظاهرة، فسدوا عليها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد، وكان السد ذريعة للاصطياد، فمسخهم الله قردة وخنازير، وذكر الله لنا ذلك في معنى التحذير عن ذلك، وقوله تعالى لآدم وحواء: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} وقد تقدم. وأما السنة فأحاديث كثيرة ثابتة صحيحة، منها حديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وام سلمة رضي الله عنهن ذكرتا كنيسة رأياها بالحبشة فيها تصاويي فذكرتا ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله». أخرجه البخاري ومسلم. قال علماؤنا: ففعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عز وجل عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم أنهم خلف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أن آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصورة فعبدوها، فحذر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على من فعل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» وقال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد».
وروى مسلم عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه»الحديث، فمنع من الاقدام على الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وذلك سدا للذريعة.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس».
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن من الكبائر شتم الرجل والديه» قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: «نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه». فجعل التعرض لسب الآباء كسب الآباء.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم».
وقال أبو عبيد الهروي: العينة هو أن يبيع الرجل من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. قال: فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضا عينة، وهي أهون من الأولى، وهو جائز عند بعضهم. وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة، وذلك لان العين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره.
وروى ابن وهب عن مالك أن أم ولد لزيد بن الأرقم ذكرت لعائشة رضي الله عنها أنها باعت من زيد عبدا بثمانمائة إلى العطاء ثم ابتاعته منه بستمائة نقدا، فقالت عائشة: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت! أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن لم يتب. ومثل هذا لا يقال بالرأي، لأن إبطال الأعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي، فثبت أنه مرفوع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعوا الربا والريبة. ونهى ابن عباس رضي الله عنهما عن دراهم بدراهم بينهما حريزة.
قلت: فهذه هي الادلة التي لنا على سد الذرائع، وعليه بنى المالكية كتاب الآجال وغيره من المسائل في البيوع وغيرها. وليس عند الشافعية كتاب الآجال. لان ذلك عندهم عقود مختلفة مستقلة، قالوا: واصل الأشياء على الظواهر لا على الظنون. والمالكية جعلوا السلعة محللة ليتوصل بها إلى دراهم بأكثر منها، وهذا هو الربا بعينه، فأعلمه.
الثالثة: قوله تعالى: {لا تَقُولُوا راعِنا} نهي يقتضي التحريم، على ما تقدم. وقرأ الحسن {راعنا} منونة. وقال: أي هجرا من القول، وهو مصدر ونصبه بالقول، أي لا تقولوا رعونة. وقرأ زر بن حبيش والأعمش {راعونا}، يقال لما نتأ من الجبل: رعن، والجبل أرعن. وجيش أرعن، أي متفرق. وكذا رجل أرعن، أي متفرق الحجج وليس عقله مجتمعا، عن النحاس.
وقال ابن فارس: رعن الرجل يرعن رعنا فهو أرعن، أي أهوج. والمرأة رعناء. وسميت البصرة رعناء لأنها تشبه برعن الجبل، قال ابن دريد ذلك، وأنشد للفرزدق:
لولا ابن عتبة عمرو والرجاء له *** ما كانت البصرة الرعناء لي وطنا
الرابعة: قوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنا} أمروا أن يخاطبوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإجلال، والمعنى: أقبل علينا وانظر إلينا، فحذف حرف التعدية، كما قال:
ظاهرات الجمال والحسن ينظر *** ن كما ينظر الأراك
الظباء أي إلى الأراك.
وقال مجاهد: المعنى فهمنا وبين لنا.
وقيل: المعنى انتظرنا وتأن بنا، قال:
فإنكما إن تنظراني ساعة *** من الدهر ينفعني لدى أم جندب
والظاهر استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى راعنا، فبدلت اللفظة للمؤمنين وزال تعلق اليهود. وقرأ الأعمش وغيره {أنظرنا} بقطع الألف وكسر الظاء، بمعنى أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك، قال الشاعر:
أبا هند فلا تعجل علينا *** وأنظرنا نخبرك اليقينا
الخامسة: قوله تعالى: {وَاسْمَعُوا} لما نهى وأمر عز وجل، حض على السمع الذي في ضمنه الطاعة. وأعلم أن لمن خالف أمره فكفر عذابا أليما.

{ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}
قوله تعالى: {ما يَوَدُّ} أي ما يتمنى، وقد تقدم. {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} معطوف على {أهل}. ويجوز: ولا المشركون، تعطفه على الذين، قاله النحاس. {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ} {من} زائدة، {خير} اسم ما لم يسم فاعله. و{أن} في موضع نصب، أي بأن ينزل. {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} أي بنبوته، خص بها محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال قوم: الرحمة القرآن وقيل: الرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما وحديثا، يقال: رحم يرحم إذا رق. والرحم والمرحمة والرحمة بمعنى، قاله ابن فارس. ورحمة الله لعباده: إنعامه عليهم وعفوه لهم. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} {ذو} بمعنى صاحب.


{ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}
فيه خمس عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها} {نُنْسِها} عطف على {نَنْسَخْ} وحذفت الياء للجزم. ومن قرأ {ننساها} حذف الضمة من الهمزة للجزم، وسيأتي معناه. {نَأْتِ} جواب الشرط، وهذه آية عظمي في الأحكام. وسببها أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة وطعنوا في الإسلام بذلك، وقالوا: إن محمدا يأمر أصحابه بشيء ثم ينهاهم عنه، فما كان هذا القرآن إلا من جهته، ولهذا يناقض بعضه بعضا، فأنزل الله: {وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ} وأنزل {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}.
الثانية: معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام. روى أبو البختري قال: دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس، فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يذكر الناس، فقال: ليس برجل يذكر الناس! لكنه يقول أنا فلان ابن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟! فقال: لا، قال: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه.
وفي رواية أخرى: أعلمت الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت!. ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما.
الثالثة: النسخ في كلام العرب على وجهين: أحدهما- النقل، كنقل كتاب من آخر. وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا، أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا لا مدخل له في هذه الآية، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي نأمر بنسخه وإثباته.
الثاني: الابطال والإزالة، وهو المقصود هنا، وهو منقسم في اللغة على ضربين: أحدهما: إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله، وهو معنى قوله تعالى: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها}.
وفي صحيح مسلم: «لم تكن نبوة قط إلا تناسخت» أي تحولت من حال إلى حال، يعني أمر الامة. قال ابن فارس: النسخ نسخ الكتاب، والنسخ أن تزيل أمرا كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره، كالآية تنزل بأمر ثم ينسخ بأخرى. وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه، يقال: انتسخت الشمس الظل، والشيب الشباب. وتناسخ الورثة: أن تموت ورثة بعد ورثة واصل الميراث قائم لم يقسم، وكذلك تناسخ الأزمنة والقرون.
الثاني: إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم: نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ} أي يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بدله.
وزعم أبو عبيد أن هذا النسخ الثاني قد كان ينزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب.
قلت: ومنه ما روي عن أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول، على ما يأتي مبينا هناك إن شاء الله تعالى. ومما يدل على هذا ما ذكره أبو بكر الأنباري حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب قال: حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في مجلس سعيد بن المسيب أن رجلا قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن فلم يقدر على شيء منها، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها، فغدوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أحدهم: قمت الليلة يا رسول الله لاقرأ سورة من القرآن فلم أقدر على شيء منها، فقام الأخر فقال: وأنا والله كذلك يا رسول الله، فقام الأخر فقال: وأنا والله كذلك يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنها مما نسخ الله البارحة».
وفي إحدى الروايات: وسعيد بن المسيب يسمع ما يحدث به أبو أمامة فلا ينكره.
الرابعة: أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة. وأنكرته أيضا طوائف من اليهود، وهم محجوجون بما جاء في توراتهم بزعمهم أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة: إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب، ما خلا الدم فلا تأكلوه. ثم قد حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان، وبما كان آدم عليه السلام يزوج الأخ من الأخت، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره، وبأن إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه ثم قال له: لا تذبحه، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم، وبأن نبوته غير متعبد بها قبل بعثه، ثم تعبد بها بعد ذلك، إلى غير ذلك. وليس هذا من باب البداء بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم، لضرب من المصلحة، إظهارا لحكمته وكمال مملكته. ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالما بمال الأمور، وأما العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغير، فإن ذلك محال في جهة الله تعالى. وجعلت اليهود النسخ والبداء شيئا واحدا، ولذلك لم يجوزوه فضلوا. قال النحاس: والفرق بين النسخ والبداء أن النسخ تحويل العبادة من شيء إلى شيء قد كان حلالا فيحرم، أو كان حراما فيحلل. وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه، كقولك: امض إلى فلان اليوم، ثم تقول لا تمض إليه، فيبدو لك العدول عن القول الأول، وهذا يلحق البشر لنقصانهم. وكذلك إن قلت: ازرع كذا في هذه السنة، ثم قلت: لا تفعل، فهو البداء.
الخامسة: اعلم أن الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخا تجوزا، إذ به يقع النسخ، كما قد يتجوز فيسمى المحكوم فيه ناسخا، فيقال: صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء، فالمنسوخ هو المزال، والمنسوخ عنه هو المتعبد بالعبادة المزالة، وهو المكلف.
السادسة: اختلفت عبارات أئمتنا في حد الناسخ، فالذي عليه الحذاق من أهل السنة أنه إزالة ما قد استقر من الحكم الشرعي بخطاب وارد متراخيا، هكذا حده القاضي عبد الوهاب والقاضي أبو بكر، وزادا: لولاه لكان السابق ثابتا، فحافظا على معنى النسخ اللغوي، إذ هو بمعنى الرفع والإزالة، وتحرزا من الحكم العقلي، وذكر الخطاب ليعم وجوه الدلالة من النص والظاهر والمفهوم وغيره، وليخرج القياس والإجماع، إذ لا يتصور النسخ فيهما ولا بهما. وقيدا بالتراخي، لأنه لو اتصل به لكان بيانا لغاية الحكم لا ناسخا، أو يكون آخر الكلام يرفع أوله، كقولك: قم لا تقم.
السابعة: المنسوخ عند أئمتنا أهل السنة هو الحكم الثابت نفسه لا مثله، كما تقوله المعتزلة بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت فيما يستقبل بالنص المتقدم زائل. والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مرادة، وأن الحسن صفة نفسية للحسن، ومراد الله حسن، وهذا قد أبطله علماؤنا في كتبهم.
الثامنة: اختلف علماؤنا في الاخبار هل يدخلها النسخ، فالجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي، والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى.
وقيل: إن الخبر إذا تضمن حكما شرعيا جاز نسخه، كقوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً}. وهناك يأتي القول فيه إن شاء الله تعالى.
التاسعة: التخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به، لأن المخصص لم يتناوله العموم قط، ولو ثبت تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشيء عن العموم لكان نسخا لا تخصيصا، والمتقدمون يطلقون على التخصيص نسخا توسعا ومجازا.
العاشرة: اعلم أنه قد يرد في الشرع أخبار ظاهرها الإطلاق والاستغراق، ويرد تقييدها في موضع آخر فيرتفع ذلك الإطلاق، كقوله تعالى: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ}. فهذا الحكم ظاهره خبر عن إجابة كل داع على كل حال، لكن قد جاء ما قيده في موضع آخر، كقوله: {فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ}. فقد يظن من لا بصيرة عنده أن هذا من باب النسخ في الاخبار وليس كذلك، بل هو من باب الإطلاق والتقييد. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في موضعها إن شاء الله تعالى.
الحادية عشرة: قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: جائز نسخ الأثقل إلى الأخف، كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين. ويجوز نسخ الأخف إلى الأثقل، كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان، على ما يأتي بيانه في آية الصيام. وينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة، كالقبلة. وينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى. وينسخ القرآن بالقرآن. والسنة بالعبارة، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي. وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد. وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجود في قوله عليه السلام: «لا وصية لوارث». وهو ظاهر مسائل مالك. وأبى ذلك الشافعي وأبو الفرج المالكي، والأول أصح، بدليل أن الكل حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء. وأيضا فإن الجلد ساقط في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم، ولا مسقط لذلك إلا السنة فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا بين. والحذاق أيضا على أن السنة تنسخ بالقرآن وذلك موجود في القبلة، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى.
وفي قوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقريش. والحذاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلا، واختلقوا هل وقع شرعا، فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء، على ما يأتي بيانه، وأبى ذلك قوم. ولا يصح نسخ نص بقياس، إذ من شروط القياس ألا يخالف نصا. وهذا كله في مدة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الامة أنه لا نسخ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي، فإذا وجدنا إجماعا يخالف نصا فيعلم أن الإجماع استند إلى نص ناسخ لا نعلمه نحن، وأن ذلك النص المخالف متروك العمل به، وأن مقتضاه نسخ وبقي سنة يقرأ ويروى، كما آية عدة السنة في القرآن تتلى، فتأمل هذا فإنه نفيس، ويكون من باب نسخ الحكم دون التلاوة، ومثله صدقة النجوى. وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم. وقد تنسخ التلاوة والحكم معا، ومنه قول الصديق رضي الله عنه: كنا نقرأ {لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر} ومثله كثير. والذي عليه الحذاق أن من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول، كما يأتي بيانه في تحويل القبلة. والحذاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في قصة الذبيح، وفي فرض خمسين صلاة قبل فعلها بخمس، على ما يأتي بيانه في الإسراء والصافات، إن شاء الله تعالى.
الثانية عشرة: لمعرفة الناسخ طرق، منها- أن يكون في اللفظ ما يدل عليه، كقوله عليه السلام: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير ألا تشربوا مسكرا» ونحوه. ومنها- أن يذكر الراوي التاريخ، مثل أن يقول: سمعت عام الخندق، وكان المنسوخ معلوما قبله. أو يقول: نسخ حكم كذا بكذا. ومنها- أن تجمع الامة على حكم أنه منسوخ وأن ناسخه متقدم. وهذا الباب مبسوط في أصول الفقه، نبهنا منه على ما فيه لمن اقتصر كفاية، والله الموفق للهداية.
الثالثة عشرة: قرأ الجمهور {ما نَنْسَخْ} بفتح النون، من نسخ، وهو الظاهر المستعمل على معنى: ما نرفع من حكم آية ونبقي تلاوتها، كما تقدم. ويحتمل أن يكون المعنى: ما نرفع من حكم آية وتلاوتها، على ما ذكرناه. وقرأ ابن عامر {ننسخ} بضم النون، من أنسخت الكتاب، على معنى وجدته منسوخا. قال أبو حاتم: هو غلط: وقال الفارسي أبو علي: ليست لغة، لأنه لا يقال: نسخ وأنسخ بمعنى، إلا أن يكون المعنى ما نجده منسوخا، كما تقول: أحمدت الرجل وأبخلته، بمعنى وجدته محمودا وبخيلا. قال أبو علي: وليس نجده منسوخا إلا بأن ننسخه، فتتفق القراءتان في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ.
وقيل: {ما نَنْسَخْ} ما نجعل لك نسخه، يقال: نسخت الكتاب إذا كتبته، وانتسخته غيري إذا جعلت نسخه له. قال مكي: ولا يجوز أن تكون الهمزة للتعدي، لأن المعنى يتغير، ويصير المعنى ما ننسخك من آية يا محمد، وإنساخه إياها إنزالها عليه، فيصير المعنى ما ننزل عليك من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، فيؤول المعنى إلى أن كل آية أنزلت أتى بخير منها، فيصير القرآن كله منسوخا وهذا لا يمكن، لأنه لم ينسخ إلا اليسير من القرآن. فلما امتنع أن يكون أفعل وفعل بمعنى إذ لم يسمع، وامتنع أن تكون الهمزة للتعدي لفساد المعنى، لم يبق ممكن إلا أن يكون من باب أحمدته وأبخلته إذا وجدته محمودا أو بخيلا.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {أَوْ نُنْسِها} قرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح النون والسين والهمز، وبه قرأ عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير والنخعي وابن محيصن، من التأخير، أي نؤخر نسخ لفظها، أي نتركه في آخر أم الكتاب فلا يكون. وهذا قول عطاء.
وقال غير عطاء: معنى أو ننسأها: نؤخرها عن النسخ إلى وقت معلوم، من قولهم: نسأت هذا الامر إذا أخرته، ومن ذلك قولهم: بعته نسأ إذا أخرته. قال ابن فارس: ويقولون: نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك. وقد انتسأ القوم إذا تأخروا وتباعدوا، ونسأتهم أنا أخرتهم. فالمعنى نؤخر نزولها أو نسخها على ما ذكرنا.
وقيل: نذهبها عنكم حتى لا تقرأ ولا تذكر. وقرأ الباقون {نُنْسِها} بضم النون، من النسيان الذي بمعنى الترك، أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها، قاله ابن عباس والسدي، ومنه قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب. واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، قال أبو عبيد: سمعت أبا نعيم القارئ يقول: قرأت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام بقراءة أبي عمرو فلم يغير علي إلا حرفين، قال: قرأت عليه {أَرِنا} فقال: أرنا، فقال أبو عبيد: وأحسب الحرف الأخر {أو ننسأها} فقال: {أَوْ نُنْسِها}.
وحكى الأزهري {نُنْسِها} نأمر بتركها، يقال: أنسيته الشيء أي أمرت بتركه، ونسيته تركته، قال الشاعر:
إن علي عقبة أقضيها *** لست بناسيها ومنسيها
أي ولا آمر بتركها.
وقال الزجاج: إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك، لا يقال: أنسى بمعنى ترك، وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {أَوْ نُنْسِها} قال: نتركها لا نبدلها، فلا يصح. ولعل ابن عباس قال: نتركها، فلم يضبط. والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى: {أَوْ نُنْسِها} نبح لكم تركها، من نسي إذا ترك، ثم تعديه.
وقال أبو علي وغيره: ذلك متجه، لأنه بمعنى نجعلك تتركها.
وقيل: من النسيان على بابه الذي هو عدم الذكر، على معنى أو ننسكها يا محمد فلا تذكرها، نقل بالهمز فتعدى الفعل إلى مفعولين: وهما النبي والهاء، لكن اسم النبي محذوف.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها} لفظة {بِخَيْرٍ} هنا صفة تفضيل، والمعنى بأنفع لكم أيها الناس في عاجل إن كانت الناسخة أخف، وفي آجل إن كانت أثقل، وبمثلها إن كانت مستوية.
وقال مالك: محكمة فكان؟ منسوخة.
وقيل: ليس المراد بأخير التفضيل، لأن كلام الله لا يتفاضل، وإنما هو مثل قوله: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها} أي فله منها خير، أي نفع واجر، لا الخير الذي هو بمعنى الأفضل، ويدل على القول الأول قوله: {أَوْ مِثْلِها}.

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ} جزم بلم، وحروف الاستفهام لا تغير عمل العامل، وفتحت {أن} لأنها في موضع نصب. {لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي بالإيجاد والاختراع، والملك والسلطان، ونفوذ الامر والإرادة. وارتفع {مُلْكُ} بالابتداء، والخبر {اللَّهَ} والجملة خبر {أَنَّ}. والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته، لقوله: {وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} وقيل: المعنى أي قل لهم يا محمد ألم تعلموا أن لله سلطان السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي، من وليت أمر فلان، أي قمت به، ومنه ولي العهد، أي القيم بما عهد إليه من أمر المسلمين. ومعنى: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} سوى لله وبعد الله، كما قال أمية بن أبي الصلت:
يا نفس ما لك دون الله من واق *** وما على حدثان الدهر من باق
وقراءة الجماعة {وَلا نَصِيرٍ} بالخفض عطفا على {وَلِيٍّ} ويجوز {ولا نصير} بالرفع عطفا على الموضع، لأن المعنى ما لكم من دون الله ولي ولا نصير.

{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)}
قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ} هذه {أم} المنقطعة التي بمعنى بل، أي بل تريدون، ومعنى الكلام التوبيخ. {أَنْ تَسْئَلُوا} في موضع نصب ب {تُرِيدُونَ}. {كما سئل} الكاف في موضع نصب نعت لمصدر، أي سؤالا كما. و{مُوسى} في موضع رفع على ما لم يسم فاعله. {مِنْ قَبْلُ}: سؤالهم إياه أن يريهم الله جهرة، وسألوا محمدا أن يأتي بالله والملائكة قبيلا. عن ابن عباس ومجاهد: سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبا. وقرأ الحسن {كما سيل}، وهذا على لغة من قال: سلت أسأل، ويجوز أن يكون على بدل الهمزة ياء ساكنة على غير قياس فانكسرت السين قبلها. قال النحاس: بدل الهمزة بعيد. والسواء من كل شي: الوسط. قاله أبو عبيدة معمر بن المثني، ومنه قوله: {فِي سَواءِ الْجَحِيمِ}.
وحكى عيسى بن عمر قال: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي، وأنشد قول حسان يرثي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يا ويح أصحاب النبي ورهطه *** بعد المغيب في سواء الملحد
وقيل: السواء القصد، عن الفراء، أي ذهب عن قصد الطريق وسمته، أي طريق طاعة الله عز وجل. وعن ابن عباس أيضا أن سبب نزول هذه الآية أن رافع بن خزيمة ووهب بن زيد قالا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائتنا بكتاب من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك.
يتبع..



الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 5:06 pm
المشاركة رقم: #19
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}
قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}. فيه مسألتان:
الأولى: {وَدَّ} تمنى، وقد تقدم. {كُفَّاراً} مفعول ثان ب {يَرُدُّونَكُمْ}. {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} قيل: هو متعلق ب {وَدَّ}.
وقيل: ب {حَسَداً}، فالوقف على قوله: {كُفَّاراً}. و{حَسَداً} مفعول له، أي ود. ذلك للحسد، أو مصدر دل على ما قبله على الفعل. ومعنى: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} أي من تلقائهم من غير أن يجدوه في كتاب ولا أمروا به، ولفظة الحسد تعطي هذا. فجاء {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} تأكيدا وإلزاما، كما قال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ}، {يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ}، {وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ}. والآية في اليهود.
الثانية: الحسد نوعان: مذموم ومحمود، فالمذموم أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، وسواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو لا، وهذا النوع الذي ذمه الله تعالى في كتابه بقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وإنما كان مذموما لان فيه تسفيه الحق سبحانه، وأنه أنعم على من لا يستحق. وأما المحمود فهو ما جاء في صحيح الحديث من قوله عليه السلام: «لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار». وهذا الحسد معناه الغبطة. وكذلك ترجم عليه البخاري {باب الاغتباط في العلم والحكمة}. وحقيقتها: أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من الخير والنعمة ولا يزول عنه خيره، وقد يجوز أن يسمى هذا منافسة، ومنه قوله تعالى: {وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ}. {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} أي من بعد ما تبين لهم الحق لهم وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقرآن الذي جاء به. قوله تعالى- {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {فَاعْفُوا} والأصل اعفووا حذفت الضمة لثقلها، ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين. والعفو: ترك المؤاخذة بالذنب. والصفح: إزالة أثره من النفس. صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه. وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وتركته، ومنه قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً}.
الثانية: هذه الآية منسوخة بقوله: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {صاغِرُونَ} عن ابن عباس.
وقيل: الناسخ لها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}. قال أبو عبيدة: كل آية فيها ترك للقتال فهي مكية منسوخة بالقتال. قال ابن عطية: وحكمه بأن هذه الآية مكية ضعيف، لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة.
قلت: وهو الصحيح، روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركب على حمار عليه قطيفة فدكية وأسامة وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، فسارا حتى مرا بمجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول- وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي- فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغيروا علينا! فسلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم وقف فنزل، فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن، فقال له عبد الله بن أبي ابن سلول: أيها المرء، لا أحسن مما تقول إن كان حقا! فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه. قال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا في مجالسنا، فإنا نحب ذلك. فاستتب المشركون والمسلمون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب- يريد عبد الله بن أبي- قال كذا وكذا» فقال: أي رسول الله، بأبي أنت وأمي! اعف عنه واصفح، فو الذي أنزل عليك الكتاب بالحق لقد جاءك الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك فعل ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله تعالى، ويصبرون على الأذى، قال الله عز وجل: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرا}، وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ}. فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتأول في العفو عنهم ما أمره الله به حتى أذن له فيهم، فلما غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدرا فقتل الله به من قتل من صناديد الكفار وسادات قريش، فقفل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه غانمين منصورين، معهم أسارى من صناديد الكفار وسادات قريش، قال عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه، فبايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإسلام، فأسلموا.
قوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} يعني قتل قريظة وجلاء بني النضير. {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} تقدم. والحمد لله تعالى.
قوله تعالى: {وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} جاء في الحديث: «أن العبد إذا مات قال الناس ما خلف وقالت الملائكة ما قدم». وخرج البخاري والنسائي عن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله». قالوا: يا رسول الله، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس منكم من أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله. مالك ما قدمت ومال وارثك ما أخرت»، لفظ النسائي. ولفظ البخاري: قال عبد الله قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله عليه وسلم: «يكم مال وارثه أحب إليه من ماله» قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: «فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر». وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر ببقيع الغرقد فقال: السلام عليكم أهل القبور، أخبار ما عندنا أن نساءكم قد تزوجن، ودوركم قد سكنت، وأموالكم قد قسمت. فأجابه هاتف: يا ابن الخطاب أخبار ما عندنا أن ما قدمناه وجدناه، وما أنفقناه فقد ربحناه، وما خلفناه فقد خسرناه. ولقد أحسن القائل:
قدم لنفسك قبل موتك صالحا *** واعمل فليس إلى الخلو سبيل
وقال آخر:
قدم لنفسك توبة مرجوة *** قبل الممات وقبل حبس الألسن
وقال آخر:
ولدتك إذ ولدتك أمك باكيا *** والقوم حولك يضحكون سرورا
فاعمل ليوم تكون فيه إذا بكوا *** في يوم موتك ضاحكا مسرورا
وقال آخر:
سابق إلى الخير وبادر به *** فإنما خلفك ما تعلم
وقدم الخير فكل امرئ *** على الذي قدمه يقدم
وأحسن من هذا كله قول أبي العتاهية:
استعد بمالك في حياتك إنما *** يبقى وراءك مصلح أو مفسد
وإذا تركت لمفسد لم يبقه *** وأخو الصلاح قليله يتزيد
وإن استطعت فكن لنفسك وارثا *** إن المورث نفسه لمسدد
{إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تقدم.

{وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}
قوله تعالى: {وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى} المعنى: وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا. وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا. وأجاز الفراء أن يكون {هُوداً} بمعنى يهوديا، حذف منه الزائد، وأن يكون جمع هائد.
وقال الأخفش سعيد: {إِلَّا مَنْ كانَ} جعل {كان} واحدا على لفظ {من}، ثم قال هودا فجمع، لأن معنى: {من} جمع. ويجوز {تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ} وتقدم الكلام في هذا، والحمد لله.
قوله تعالى: {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ} أصل {هاتُوا} هاتيوا، حذفت الضمة لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، يقال في الواحد المذكر: هات، مثل رام، وفى المؤنث: هاتي، مثل رامي. والبرهان: الدليل الذي يوقع اليقين، وجمعه براهين، مثل قربان وقرابين، وسلطان وسلاطين. قال الطبري: طلب الدليل هنا يقضي إثبات النظر ويرد على من ينفيه. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} يعني في إيمانكم أو في قولكم تدخلون الجنة، أي بينوا ما قلتم ببرهان، ثم قال تعالى: {بَلى} ردا عليهم وتكذيبا لهم، أي ليس كما تقولون.
وقيل: إن {بَلى} محمولة على المعنى، كأنه قيل أما يدخل الجنة أحد؟ فقيل: {بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} ومعنى: {أَسْلَمَ} استسلم وخضع.
وقيل: أخلص عمله. وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان، ولأنه موضع الحواس، وفيه يظهر العز والذل. والعرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء. ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية المقصد. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} جملة في موضع الحال، وعاد الضمير في: {وَجْهَهُ} و{لِلَّهِ} على لفظ {مَنْ} وكذلك {أَجْرُهُ} وعاد في: {عَلَيْهِمْ} على المعنى، وكذلك في: {يَحْزَنُونَ} وقد تقدم.

{وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}
معناه ادعى كل فريق منهم أن صاحبه ليس على شي، وأنه أحق برحمة الله منه. {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ} يعني التوراة والإنجيل، والحملة في موضع الحال. والمراد بـ {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} في قول الجمهور: كفار العرب، لأنهم لا كتاب لهم.
وقال عطاء: المراد أمم كانت قبل اليهود والنصارى. الربيع بن أنس: المعنى كذلك قالت اليهود قبل النصارى. ابن عباس: قدم أهل نجران على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالت كل فرقة منهم للأخرى لستم على شي، فنزلت الآية.



{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} {مَنْ} رفع بالابتداء، و{أَظْلَمُ} خبره، والمعنى لا أحد أظلم. و{أَنْ} في موضع نصب على البدل من {مَساجِدَ}، ويجوز أن يكون التقدير: كراهية أن يذكر، ثم حذف. ويجوز أن يكون التقدير: من أن يذكر فيها، وحرف الخفض يحذف مع {أن} لطول الكلام. وأراد بالمساجد هنا بيت المقدس ومحاريبه. وقيل الكعبة، وجمعت لأنها قبلة المساجد أو للتعظيم.
وقيل: المراد سائر المساجد، والواحد مسجد بكسر الجيم، ومن العرب من يقول: مسجد، بفتحها. قال الفراء: كل ما كان على فعل يفعل، مثل دخل يدخل، فالمفعل منه بالفتح اسما كان أو مصدرا، ولا يقع فيه الفرق، مثل دخل يدخل مدخلا، وهذا مدخله، إلا أحرفا من الأسماء الزموها كسر العين، من ذلك: المسجد والمطلع والمغرب والمشرق والمسقط والمفرق والمجزر والمسكن والمرفق من رفق يرفق والمنبت والمنسك من نسك ينسك، فجعلوا الكسر علامة للاسم، وربما فتحه بعض العرب في الاسم. والمسجد بالفتح: جبهة الرجل حيث يصيبه ندب السجود. والاراب: السبعة مساجد، قاله الجوهري.
الثانية: واختلف الناس في المراد بهذه الآية وفيمن نزلت، فذكر المفسرون أنها نزلت في بخت نصر، لأنه كان أخرب بيت المقدس.
وقال ابن عباس وغيره: نزلت في النصارى، والمعنى كيف تدعون أيها النصارى أنكم من أهل الجنة! وقد خربتم بيت المقدس ومنعتم المصلين من الصلاة فيه. ومعنى الآية على هذا: التعجب من فعل النصارى ببيت المقدس مع تعظيمهم له، وإنما فعلوا ما فعلوا عداوة لليهود. روى سعيد عن قتادة قال: أولئك أعداء الله النصارى، حملهم إبغاض اليهود على أن أعانوا بخت نصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس. وروي أن هذا التخريب بقي إلى زمن عمر رضي الله عنه.
وقيل: نزلت في المشركين إذ منعوا المصلين والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية.
وقيل: المراد من منع من كل مسجد إلى يوم القيامة، وهو الصحيح، لأن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع، فتخصيصها ببعض المساجد وبعض الاشخاص ضعيف، والله تعالى أعلم.
الثالثة: خراب المساجد قد يكون حقيقيا كتخريب بخت نصر والنصارى بيت المقدس على ما ذكر أنهم غزوا بني إسرائيل مع بعض ملوكهم- قيل: اسمه نطوس بن اسبيسانوس الرومي فيما ذكر الغزنوي- فقتلوا وسبوا، وحرقوا التوراة، وقذفوا في بيت المقدس العذرة وخربوه. ويكون مجازا كمنع المشركين المسلمين حين صدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المسجد الحرام، وعلى الجملة فتعطيل المساجد عن الصلاة وإظهار شعائر الإسلام فيها خراب لها.
الرابعة: قال علماؤنا: ولهذا قلنا لا يجوز منع المرأة من الحج إذا كانت ضرورة، سواء كان لها محرم أو لم يكن، ولا تمنع أيضا من الصلاة في المساجد ما لم يخف عليها الفتنة، وكذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» ولذلك قلنا: لا يجوز نقض المسجد ولا بيعه ولا تعطيله وإن خربت المحلة، ولا يمنع بناء المساجد إلا أن يقصدوا الشقاق والخلاف، بأن يبنوا مسجدا إلى جنب مسجد أو قربه، يريدون بذلك تفريق أهل المسجد الأول وخرابه واختلاف الكلمة، فإن المسجد الثاني ينقض ويمنع من بنيانه، ولذلك قلنا: لا يجوز أن يكون في المصر جامعان، ولا لمسجد واحد إمامان، ولا يصلي في مسجد جماعتان. وسيأتي لهذا كله مزيد بيان في سورة براءة إن شاء الله تعالى، وفي النور حكم المساجد وبنائها بحول الله تعالى. ودلت الآية أيضا على تعظيم أمر الصلاة، وأنها لما كانت أفضل الأعمال وأعظمها أجرا كان منعها أعظم إثما.
الخامسة: كل موضع يمكن أن يعبد الله فيه ويسجد له يسمى مسجدا، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»، أخرجه الأئمة. وأجمعت الامة على أن البقعة إذا عينت للصلاة بالقول خرجت عن جملة الاملاك المختصة بربها وصارت عامة لجميع المسلمين، فلو بنى رجل في داره مسجدا وحجزه على الناس واختص به لنفسه لبقي على ملكه ولم يخرج إلى حد المسجدية، ولو أباحه للناس كلهم كان حكمه حكم سائر المساجد العامة، وخرج عن اختصاص الاملاك.
السادسة: قوله تعالى: {أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ} {أُولئِكَ} مبتدأ وما بعده خبره. {خائِفِينَ} حال، يعني إذا استولى عليها المسلمون وحصلت تحت سلطانهم فلا يتمكن الكافر حينئذ من دخولها. فإن دخلوها، فعلى خوف من إخراج المسلمين لهم، وتأديبهم على دخولها.
وفي هذا دليل على أن الكافر ليس له دخول المسجد بحال، على ما يأتي في براءة إن شاء الله تعالى. ومن جعل الآية في النصارى روى أنه مر زمان بعد بناء عمر بيت المقدس في الإسلام لا يدخله نصراني إلا أوجع ضربا بعد أن كان متعبدهم. ومن جعلها في قريش قال: كذلك نودي بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان».
وقيل: هو خبر ومقصوده الامر، أي جاهدوهم واستأصلوهم حتى لا يدخل أحد منهم المسجد الحرام إلا خائفا، كقوله: {وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} فإنه نهى ورد بلفظ الخبر.
السابعة: قوله تعالى: {لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ} قيل القتل للحربي، والجزية للذمي، عن قتادة. السدي: الخزي لهم في الدنيا قيام المهدي، وفتح عمورية ورومية وقسطنطينية، وغير ذلك من مدنهم، على ما ذكرناه في كتاب التذكرة. ومن جعلها في قريش جعل الخزي عليهم في الفتح، والعذاب في الآخرة لمن مات منهم كافرا.

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} {الْمَشْرِقُ} موضع الشروق. {وَالْمَغْرِبُ} موضع الغروب، أي هما له ملك وما بينهما من الجهات والمخلوقات بالإيجاد والاختراع، كما تقدم. وخصهما بالذكر والإضافة إليه تشريفا، نحو بيت الله، وناقة الله، ولان سبب الآية اقتضى ذلك، على ما يأتي.
الثانية: قوله تعالى: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا} شرط، ولذلك حذفت النون، وأين العاملة، وما زائدة، والجواب {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. وقرأ الحسن {تولوا} بفتح التاء واللام، والأصل تتولوا. و{ثم} في موضع نصب على الظرف، ومعناها البعد، إلا أنها مبنية على الفتح غير معربة لأنها مبهمة، تكون بمنزلة هناك للبعد، فإن أردت القرب قلت هنا.
الثالثة: اختلف العلماء في المعنى الذي نزلت فيه {فَأَيْنَما تُوَلُّوا} على خمسة أقوال: فقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: نزلت فيمن صلى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة، أخرجه الترمذي عنه عن أبيه قال: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع يضعف في الحديث. وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا، قالوا: إذا صلى في الغيم لغير القبلة ثم استبان له بعد ذلك أنه صلى لغير القبلة فإن صلاته جائزة، وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق.
قلت: وهو قول أبي حنيفة ومالك، غير أن مالكا قال: تستحب له الإعادة في الوقت، وليس ذلك بواجب عليه، لأنه قد أدى فرضه على ما أمر، والكمال يستدرك في الوقت، استدلالا بالسنة فيمن صلى وحده ثم أدرك تلك الصلاة في وقتها في جماعة أنه يعيد معهم، ولا يعيد في الوقت استحبابا إلا من استدبر القبلة أو شرق أو غرب جدا مجتهدا، وأما من تيامن أو تياسر قليلا مجتهدا فلا إعادة عليه في وقت ولا غيره.
وقال المغيرة والشافعي: لا يجزيه، لأن القبلة شرط من شروط الصلاة. وما قاله مالك أصح، لأن جهة القبلة تبيح الضرورة تركها في المسايفة، وتبيحها أيضا الرخصة حالة السفر.
وقال ابن عمر: نزلت في المسافر يتنفل حيثما توجهت به راحلته. أخرجه مسلم عنه، قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. ولا خلاف بين العلماء في جواز النافلة على الراحلة لهذا الحديث وما كان مثله. ولا يجوز لاحد أن يدع القبلة عامدا بوجه من الوجوه إلا في شدة الخوف، على ما يأتي. واختلف قول مالك في المريض يصلي على محمله، فمرة قال: لا يصلي على ظهر البعير فريضة وإن اشتد مرضه. قال سحنون: فإن فعل أعاد، حكاه الباجي. ومرة قال: إن كان ممن لا يصلي بالأرض إلا إيماء فليصل على البعير بعد أن يوقف له ويستقبل القبلة.
وأجمعوا على أنه لا يجوز لاحد صحيح أن يصلي فريضة إلا بالأرض إلا في الخوف الشديد خاصة، على ما يأتي بيانه. واختلف الفقهاء في المسافر سفرا لا تقصر في مثله الصلاة، فقال مالك وأصحابه والثوري: لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة، قالوا: لان الاسفار التي حكي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يتطوع فيها كانت مما تقصر فيه الصلاة.
وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والحسن بن حي والليث بن سعد وداود بن علي: يجوز التطوع على الراحلة خارج المصر في كل سفر، وسواء كان مما تقصر فيه الصلاة أو لا، لأن الإثار ليس فيها تخصيص سفر من سفر، فكل سفر جائز ذلك فيه، إلا أن يخص شيء من الاسفار بما يجب التسليم له.
وقال أبو يوسف: يصلي في المصر على الدابة بالإيماء، لحديث يحيى بن سعيد عن أنس بن مالك أنه صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماء.
وقال الطبري: يجوز لكل راكب وماش حاضرا كان أو مسافرا أن يتنفل على دابته وراحلته وعلى رجليه بالإيماء. وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنقل على الدابة في الحضر والسفر.
وقال الأثرم: قيل لأحمد بن حنبل الصلاة على الدابة في الحضر، فقال: أما في السفر فقد سمعت، وما سمعت في الحضر. قال ابن القاسم: من تنفل في محمله تنفل جالسا، قيامه تربع، يركع واضعا يديه على ركبتيه ثم يرفع رأسه.
وقال قتادة: نزلت في النجاشي، وذلك أنه لما مات دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين إلى الصلاة عليه خارج المدينة، فقالوا: كيف نصلي على رجل مات؟ وهو يصلي لغير قبلتنا، وكان النجاشي ملك الحبشة- واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية- يصلي إلى بيت المقدس حتى مات، وقد صرفت القبلة إلى الكعبة فنزلت الآية، ونزل فيه: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} فكان هذا عذرا للنجاشي، وكانت صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه سنة تسع من الهجرة. وقد استدل بهذا من أجاز الصلاة على الغائب، وهو الشافعي. قال ابن العربي: ومن أغرب مسائل الصلاة على الميت ما قال الشافعي: يصلي على الغائب، وقد كنت ببغداد في مجلس الامام فخر الإسلام فيدخل عليه الرجل من خراسان فيقول له: كيف حال فلان؟ فيقول له: مات، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم يقول لنا: قوموا فلأصل لكم، فيقوم فيصلي عليه بنا، وذلك بعد ستة أشهر من المدة، وبينه وبين بلده ستة أشهر. والأصل عندهم في ذلك صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النجاشي.
وقال علماؤنا رحمة الله عليهم: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك مخصوص لثلاثة أوجه: أحدها- أن الأرض دحيت له جنوبا وشمالا حتى رأى نعش النجاشي، كما دحيت له شمالا وجنوبا حتى رأى المسجد الأقصى.
وقال المخالف: وأى فائدة في رؤيته، وإنما الفائدة في لحوق بركته.
الثاني- أن النجاشي لم يكن له هناك ولي من المؤمنين يقوم بالصلاة عليه. قال المخالف: هذا محال عادة! ملك على دين لا يكون له أتباع، والتأويل بالمحال محال.
الثالث- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أراد بالصلاة على النجاشي إدخال الرحمة عليه واستئلاف بقية الملوك بعده إذا رأوا الاهتمام به حيا وميتا. قال المخالف: بركة الدعاء من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن سواه تلحق الميت باتفاق. قال ابن العربي: والذي عندي في صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النجاشي أنه علم أن النجاشي ومن آمن معه ليس عندهم من سنة الصلاة على الميت أثر، فعلم أنهم سيدفنونه بغير صلاة فبادر إلى الصلاة عليه.
قلت: والتأويل الأول أحسن، لأنه إذا رآه فما صلى على غائب وإنما صلى على مرئي حاضر، والغائب ما لا يرى. والله تعالى أعلم. القول الرابع- قال ابن زيد: كانت اليهود قد استحسنت صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيت المقدس وقالوا: ما اهتدى إلا بنا، فلما حول إلى الكعبة قالت اليهود: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فنزلت: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} فوجه النظم على هذا القول: أن اليهود لما أنكروا أمر القبلة بين الله تعالى أن له أن يتعبد عباده بما شاء، فإن شاء أمرهم بالتوجه إلى بيت المقدس، وإن شاء أمرهم بالتوجه إلى الكعبة، فعل لا حجة عليه، ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون.
القول الخامس- أن الآية منسوخة بقوله: {وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ذكره ابن عباس، فكأنه كان يجوز في الابتداء أن يصلي المرء كيف شاء ثم نسخ ذلك.
وقال قتادة: الناسخ قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} أي تلقاءه، حكاه أبو عيسى الترمذي. وقول سادس- روي عن مجاهد والضحاك أنها محكمة، المعنى: أينما كنتم من شرق وغرب فثم وجه الله الذي أمرنا باستقباله وهو الكعبة. وعن مجاهد أيضا وابن جبير لما نزلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قالوا: إلى أين؟ فنزلت: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. وعن ابن عمر والنخعي: أينما تولوا في أسفاركم ومنصرفاتكم فثم وجه الله.
وقيل: هي متصلة بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} الآية، فالمعنى أن بلاد لله أيها المؤمنون تسعكم، فلا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله أن تولوا وجوهكم نحو قبلة الله أينما كنتم من أرضه.
وقيل: نزلت حين صد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن البيت عام الحديبية فاغتم المسلمون لذلك. فهذه عشرة أقوال. ومن جعلها منسوخة فلا اعتراض عليه من جهة كونها خبرا، لأنها محتملة لمعنى الامر. يحتمل أن يكون معنى: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}: ولوا وجوهكم نحو وجه الله، وهذه الآية هي التي تلا سعيد بن جبير رحمه الله لما أمر الحجاج بذبحه إلى الأرض.
الرابعة: اختلف الناس في تأويل الوجه المضاف إلى الله تعالى في القرآن والسنة، فقال الحذاق: ذلك راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه من مجاز الكلام، إذ كان الوجه أظهر الأعضاء في الشاهد وأجلها قدرا.
وقال ابن فورك: قد تذكر صفة الشيء والمراد بها الموصوف توسعا، كما يقول القائل: رأيت علم فلان اليوم، ونظرت إلى علمه، وإنما يريد بذلك رأيت العالم ونظرت إلى العالم، كذلك إذا ذكر الوجه هنا، والمراد من له الوجه، أي الوجود. وعلى هذا يتأول قوله تعالى: {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} لان المراد به: لله الذي له الوجه، وكذلك قوله: {إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى} أي الذي له الوجه. قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه عز وجل، كما قال: {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ}.
وقال بعض الأئمة: تلك صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى. قال ابن عطية: وضعف أبو المعالي هذا القول، وهو كذلك ضعيف، وإنما المراد وجوده.
وقيل: المراد بالوجه هنا الجهة التي وجهنا إليها أي القبلة.
وقيل: الوجه القصد، كما قال الشاعر:
استغفر الله ذنبا لست محصيه *** رب العباد إليه الوجه والعمل
وقيل: المعنى فثم رضا الله وثوابه، كما قال: {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} أي لرضائه وطلب ثوابه، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بنى مسجدا يبتغي به وجه لله بنى الله له مثله في الجنة». وقوله: «يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول عز وجل لملائكته ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة وعزتك يا ربنا ما رأينا إلا خيرا وهو أعلم فيقول إن هذا كان لغير وجهي ولا أقبل من العمل إلا ما ابتغي به وجهي» أي خالصا لي، خرجه الدارقطني.
وقيل: المراد فثم الله، والوجه صلة، وهو كقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ}. قاله الكلبي والقتبي، ونحوه قول المعتزلة.
الخامسة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ} أي يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم.
وقيل: {واسِعٌ} بمعنى أنه يسع علمه كل شي، كما قال: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}.
وقال الفراء: الواسع هو الجواد الذي يسع عطاؤه كل شي، دليله قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}.
وقيل: واسع المغفرة أي لا يتعاظمه ذنب.
وقيل: متفضل على العباد وغني عن أعمالهم، يقال: فلان يسع ما يسئل، أي لا يبخل، قال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} أي لينفق الغني مما أعطاه الله. وقد أتينا عليه في الكتاب الأسنى والحمد لله.

{وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} هذا إخبار عن النصارى في قولهم: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}. وقيل عن اليهود في قولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}. وقيل عن كفرة العرب في قولهم: الملائكة بنات الله. وقد جاء مثل هذه الاخبار عن الجهلة الكفار في مريم والأنبياء.
الثانية: قوله: {سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ} الآية. خرج البخاري عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا».
الثالثة: سبحان منصوب على المصدر، ومعناه التبرئة والتنزيه والمحاشاة، من قولهم: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، بل هو الله تعالى واحد في ذاته، أحد في صفاته، لم يلد فيحتاج إلى صاحبة، {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ولم يولد فيكون مسبوقا، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا! {بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} {ما} رفع بالابتداء والخبر في المجرور، أي كل ذلك له ملك بالإيجاد والاختراع. والقائل بأنه اتخذ ولدا داخل في جملة السموات والأرض. وقد تقدم أن معنى سبحان الله: براءة الله من السوء.
الرابعة: لا يكون الولد إلا من جنس الوالد، فكيف يكون للحق سبحانه أن يتخذ ولدا من مخلوقاته وهو لا يشبهه شي، وقد قال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً}، كما قال هنا: {بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} فالولدية تقتضي الجنسية والحدوث، والقدم يقتضى الوحدانية والثبوت، فهو سبحانه القديم الأزلي الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ثم إن البنوة تنافى الرق والعبودية- على ما يأتي بيانه في سورة مريم إن شاء الله تعالى- فكيف يكون ولد عبدا! هذا محال، وما أدى إلى المحال محال.
الخامسة: قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ} ابتداء وخبر، والتقدير كلهم، ثم حذف الهاء والميم. {قانِتُونَ} أي مطيعون وخاضعون، فالمخلوقات كلها تقنت لله، أي تخضع وتطبع. والجمادات قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم. فالقنوت الطاعة، والقنوت السكوت، ومنه قول زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه إلى جنبه حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. والقنوت: الصلاة، قال الشاعر:
قانتا لله يتلو كتبه *** وعلى عمد من الناس اعتزل
وقال السدي وغيره في قوله: {كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ} أي يوم القيامة. الحسن: كل قائم بالشهادة أنه عبده. والقنوت في اللغة أصله القيام، ومنه الحديث: «أفضل الصلاة طول القنوت» قاله الزجاج. فالخلق قانتون، أي قائمون بالعبودية إما إقرارا وإما أن يكونوا على خلاف ذلك، فأثر الصنعة بين عليهم.
وقيل: أصله الطاعة، ومنه قوله تعالى: {وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ}. وسيأتي لهذا مزيد بيان عند قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ}.

يتبع...



الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 5:07 pm
المشاركة رقم: #20
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّماواتِ} فعيل للمبالغة، وارتفع على خبر ابتداء محذوف، واسم الفاعل مبدع، كبصير من مبصر. أبدعت الشيء لا عن مثال، فالله عز وجل بديع السموات والأرض، أي منشئها وموجدها ومبدعها ومخترعها على غير حد ولا مثال. وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع، ومنه أصحاب البدع. وسميت البدعة بدعة لان قائلها ابتدعها من غير فعل أو مقال إمام، وفي البخاري: «ونعمت البدعة هذه» يعني قيام رمضان.
الثانية: كل بدعة صدرت من مخلوق فلا يخلو أن يكون لها أصل في الشرع أولا، فإن كان لها أصل كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وخص رسوله عليه، فهي في حيز المدح. وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعله من الافعال المحمودة، وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه. ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه، لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح، وهي وإن كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد صلاها إلا أنه تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس، عليها، فمحافظة عمر رضي الله عنه عليها، وجمع الناس لها، وندبهم إليها، بدعة لكنها بدعة محمودة ممدوحة. وإن كانت في خلاف ما أمر لله به ورسوله فهي في حيز الذم والإنكار، قال معناه الخطابي وغيره.
قلت: وهو معنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبته: «وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» يريد ما لم يوافق كتابا أو سنة، أو عمل الصحابة رضي الله عنهم، وقد بين هذا بقوله: «من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها واجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شي». وهذا إشارة إلى ما ابتدع من قبيح وحسن، وهو أصل هذا الباب، وبالله العصمة والتوفيق، لا رب غيره.
الثالثة: قوله تعالى: {وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي إذا أراد إحكامه وإتقانه- كما سبق في علمه- قال له كن. قال ابن عرفة: قضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، ومنه سمي القاضي، لأنه إذا حكم فقد فرغ مما بين الخصمين.
وقال الأزهري: قضى في اللغة على وجوه، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، قال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود أو صنع السوابغ تبع
وقال الشماخ في عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها *** بواثق في أكمامها لم تفتق
قال علماؤنا: {قضى} لفظ مشترك، يكون بمعنى الخلق، قال الله تعالى: {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} أي خلقهن. ويكون بمعنى الاعلام، قال الله تعالى: {وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ} أي أعلمنا. ويكون بمعنى الامر، كقوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}. ويكون بمعنى الإلزام وإمضاء الأحكام، ومنه سمي الحاكم قاضيا. ويكون بمعنى توفية الحق، قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ}. ويكون بمعنى الإرادة، كقوله تعالى: {فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي إذا أراد خلق شي. قال ابن عطية: {قَضى} معناه قدر، وقد يجئ بمعنى أمضى، ويتجه في هذه الآية المعنيان على مذهب أهل السنة قدر في الأزل وأمضى فيه. وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد.
الرابعة: قوله تعالى: {أَمْراً} الامر واحد الأمور، وليس بمصدر أمر يأمر. قال علماؤنا: والامر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجها:
الأول- الدين، قال الله تعالى: {حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} يعني دين الله الإسلام.
الثاني- القول، ومنه قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ أَمْرُنا} يعني قولنا، وقوله: {فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} يعني قولهم.
الثالث- العذاب، ومنه قوله تعالى: {لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} يعني لما وجب العذاب بأهل النار.
الرابع- عيسى عليه السلام، قال الله تعالى: {إِذا قَضى أَمْراً} يعني عيسى، وكان في علمه أن يكون من غير أب.
الخامس- القتل ببدر، قال الله تعالى: {فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ} يعني القتل ببدر، وقوله تعالى: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا} يعني قتل كفار مكة.
السادس: فتح مكة، قال الله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} يعني فتح مكة.
السابع- قتل قريظة وجلاء بني الضير، قال الله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}.
الثامن- القيامة، قال الله تعالى: {أَتى أَمْرُ اللَّهِ}.
التاسع- القضاء، قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} يعني القضاء.
العاشر- الوحي، قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ} يقول: ينزل الوحي من السماء إلى الأرض، وقوله: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} يعني الوحي.
الحادي عشر- أمر الخلق، قال الله تعالى: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} يعني أمور الخلائق.
الثاني عشر- النصر، قال الله تعالى: {يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}. يعنون النصر، {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} يعني النصر.
الثالث عشر- الذنب، قال الله تعالى: {فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها} يعني جزاء ذنبها.
الرابع عشر- الشأن والفعل، قال الله تعالى: {وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي فعله وشأنه، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي فعله.
الخامسة: قوله تعالى: {كُنْ} قيل: الكاف من كينونة، والنون من نوره، وهي المراد بقوله عليه السلام: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق». ويروي: «بكلمة الله التامة» على الافراد. فالجمع لما كانت هذه الكلمة في الأمور كلها، فإذا قال لكل أمر كن، ولكل شيء كن، فهن كلمات. يدل على هذا ما روي عن أبي ذر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يحكى عن الله تعالى: «عطائي كلام وعذابي كلام». خرجه الترمذي في حديث فيه طول. والكلمة على الافراد بمعنى الكلمات أيضا، لكن لما تفرقت الكلمة الواحدة في الأمور في الأوقات صارت كلمات ومرجعهن إلى كلمة واحدة. وإنما قيل تامة لان أقل الكلام عند أهل اللغة على ثلاثة أحرف: حرف مبتدأ، وحرف تحشى به الكلمة، وحرف يسكت عليه. وإذا كان على حرفين فهو عندهم منقوص، كيد ودم وفم، وإنما نقص لعلة. فهي من الأدميين من المنقوصات لأنها على حرفين، ولأنها كلمة ملفوظة بالأدوات. ومن ربنا تبارك وتعالى تامة، لأنها بغير الأدوات، تعالى عن شبه المخلوقين.
السادسة: قوله تعالى: {فَيَكُونُ} قرئ برفع النون على الاستئناف. قال سيبويه: فهو يكون، أو فإنه يكون.
وقال غيره: هو معطوف على {يَقُولُ}، فعلى الأول كائنا بعد الامر، وإن كان معدوما فإنه بمنزلة الموجود إذا هو عنده معلوم، على ما يأتي بيانه. وعلى الثاني كائنا مع الامر، واختاره الطبري وقال: أمره للشيء بـ {كُنْ} لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه، فلا يكون الشيء مأمورا بالوجود إلا وهو موجود بالأمر، ولا موجودا إلا وهو مأمور بالوجود، على ما يأتي بيانه. قال: ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله ولا يتأخر عنه، كما قال: {ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}. وضعف ابن عطية هذا القول وقال: هو خطأ من جهة المعنى، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين والوجود. وتلخيص المعتقد في هذه الآية: أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها، قادرا مع تأخر المقدورات، عالما مع تأخر المعلومات. فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات، إذ المحدثات تجئ بعد أن لم تكن. وكل ما يسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم فهو قديم لم يزل. والمعنى الذي تقتضيه عبارة {كُنْ}: هو قديم قائم بالذات.
وقال أبو الحسن الماوردي فإن قيل: ففي أي حال يقول له كن فيكون؟ أفي حال عدمه، أم في حال وجوده؟ فإن كان في حال عدمه استحال أن يأمر إلا مأمورا، كما يستحيل أن يكون الامر إلا من آمر، وإن كان في حال وجوده فتلك حال لا يجوز أن يأمر فيها بالوجود والحدوث، لأنه موجود حادث؟ قيل عن هذا السؤال أجوبة ثلاثة: أحدها- أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه الموجود، كما أمر في بني إسرائيل أن يكونوا قردة خاسئين، ولا يكون هذا واردا في إيجاد المعدومات.
الثاني- أن الله عز وجل عالم بما هو كائن قبل كونه، فكانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة بعلمه قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة، فجاز أن يقول لها: كوني. ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له ولعلمه بها في حال العدم.
الثالث- أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدثه ويكونه إذا أراد خلقه وإنشاءه كان، ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولا، كقول أبي النجم:
قد قالت الأتساع للبطن الحق ***
ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن، وكقول عمرو بن حممة الدوسي:
فأصبحت مثل النسر طارت فراخه *** إذا رام تطيارا يقل له قع
وكما قال الآخر:
قالت جناحاه لساقيه الحقا *** ونجيا لحمكما أن يمزقا

{وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} قال ابن عباس: هم اليهود. مجاهد: النصارى، ورجحه الطبري، لأنهم المذكورون في الآية أولا.
وقال الربيع والسدي وقتادة: مشركو العرب. و{لَوْلا} بمعنى هلا تحضيض، كما قال الأشهب بن رميلة:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم *** بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
وليست هذه {لولا} التي تعطي منع الشيء لوجود غيره، والفرق بينهما عند علماء اللسان أن {لولا} بمعنى التحضيض لا يليها إلا الفعل مظهرا أو مقدرا، والتي للامتناع يليها الابتداء، وجرت العادة بحذف الخبر. ومعنى الكلام هلا يكلمنا الله بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنعلم أنه نبي فنؤمن به، أو يأتينا بآية تكون علامة على نبوته. والآية: الدلالة والعلامة، وقد تقدم. {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} اليهود والنصارى في قول من جعل {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} كفار العرب، أو الأمم السالفة في قول من جعل {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} اليهود والنصارى، أو اليهود في قول من جعل {الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} النصارى. {تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} قيل: في التعنيت والاقتراح وترك الايمان.
وقال الفراء. {تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} في اتفاقهم على الكفر. {قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} تقدم.

{إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)}
قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً} {بَشِيراً} نصب على الحال، {وَنَذِيراً} عطف عليه، وقد تقدم معناهما. {وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ} قال مقاتل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أنزل الله بأسه باليهود لأمنوا»، فأنزل الله تعالى: {وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ} برفع تسأل، وهي قراءة الجمهور، ويكون في موضع الحال بعطفه على {بَشِيراً وَنَذِيراً}. والمعنى إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير مسئول.
وقال سعيد الأخفش: ولا تسأل بفتح التاء وضم اللام، ويكون في موضع الحال عطفا على {بَشِيراً وَنَذِيراً}. والمعنى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا غير سائل عنهم، لأن علم الله بكفرهم بعد إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم. هذا معنى غير سائل. ومعنى غير مسئول لا يكون مؤاخذا بكفر من كفر بعد التبشير والإنذار.
وقال ابن عباس ومحمد بن كعب: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذات يوم: «ليت شعري ما فعل أبواي». فنزلت هذه الآية، وهذا على قراءة من قرأ {ولا تسأل} جزما على النهي، وهي قراءة نافع وحده، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه نهى عن السؤال عمن عصى وكفر من الأحياء، لأنه قد يتغير حاله فينتقل عن الكفر إلى الايمان، وعن المعصية إلى الطاعة. والثاني- وهو الأظهر، أنه نهى عن السؤال عمن مات على كفره ومعصيته، تعظيما لحاله وتغليظا لشأنه، وهذا كما يقال: لا تسأل عن فلان! أي قد بلغ فوق ما تحسب. وقرأ ابن مسعود {ولن تسأل}. وقرأ أبي {وما تسأل}، ومعناهما موافق لقراءة الجمهور، نفى أن يكون مسئولا عنهم.
وقيل: إنما سأل أي أبويه أحدث موتا، فنزلت. وقد ذكرنا في كتاب التذكرة أن الله تعالى أحيا له أباه وأمه وآمنا به، وذكرنا قوله عليه السلام للرجل: «إن أبى وأباك في النار» وبينا ذلك، والحمد لله.


{وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)}
قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}. فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} المعنى: ليس غرضهم يا محمد بما يقترحون من الآيات أن يؤمنوا، بل لو أتيتهم بكل ما يسألون لم يرضوا عنك، وإنما يرضيهم ترك ما أنت عليه من الإسلام واتباعهم. يقال: رضي يرضى رضا ورضا ورضوانا ورضوانا ومرضاة، وهو من ذوات الواو، ويقال في التثنية: رضوان، وحكى الكسائي: رضيان. وحكي رضاء ممدود، وكأنه مصدر راضي يراضي مراضاة ورضاء. و{تَتَّبِعَ} منصوب بأن ولكنها لا تظهر مع حتى، قاله الخليل. وذلك أن حتى خافضة للاسم، كقوله: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} وما يعمل في الاسم لا يعمل في الفعل البتة، وما يخفض اسما لا ينصب شيئا.
وقال النحاس: {تَتَّبِعَ} منصوب بحتى، و{حَتَّى} بدل من أن. والملة: اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله.
فكانت الملة والشريعة سواء، فأما الدين فقد فرق بينه وبين الملة والشريعة، فإن الملة والشريعة ما دعا الله عباده إلى فعله، والدين ما فعله العباد عن أمره.
الثانية: تمسك بهذه الآية جماعة من العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وداود وأحمد بن حنبل على أن الكفر كله ملة واحدة، لقوله تعالى: {مِلَّتَهُمْ} فوحد الملة، وبقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، وبقوله عليه السلام: «لا يتوارث أهل ملتين» على أن المراد به الإسلام والكفر، بدليل قوله عليه السلام: «لا يرث المسلم الكافر». وذهب مالك وأحمد في الرواية الأخرى إلى أن الكفر ملل، فلا يرث اليهودي النصراني، ولا يرثان المجوسي، أخذا بظاهر قوله عليه السلام: «لا يتوارث أهل ملتين»، وأما قوله تعالى: {مِلَّتَهُمْ} فالمراد به الكثرة وإن كانت موحدة في اللفظ بدليل إضافتها إلى ضمير الكثرة، كما تقول: أخذت عن علماء أهل المدينة- مثلا- علمهم، وسمعت عليهم حديثهم، يعني علومهم وأحاديثهم.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى} المعنى ما أنت عليه يا محمد من هدى الله الحق الذي يضعه في قلب من يشاء هو الهدى الحقيقي، لا ما يدعيه هؤلاء.
قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ} الاهواء جمع هوى، كما تقول: جمل وأجمال، ولما كانت مختلفة جمعت، ولو حمل على أفراد الملة لقال هواهم.
وفي هذا الخطاب وجهان: أحدهما- أنه للرسول، لتوجه الخطاب إليه. والثاني- أنه للرسول والمراد به أمته، وعلى الأول يكون فيه تأديب لامته، إذ منزلتهم دون منزلته. وسبب الآية أنهم كانوا يسألون المسالمة والهدية، ويعدون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإسلام، فأعلمه الله أنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، وأمره بجهادهم.
قوله تعالى: {مِنَ الْعِلْمِ} سئل أحمد بن حنبل عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: كافر، فقيل: بم كفرته؟ فقال: بآيات من كتاب الله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} والقرآن من علم الله. فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر.

{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ} قال قتادة: هم أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والكتاب على هذا التأويل القرآن.
وقال ابن زيد: هم من أسلم من بني إسرائيل. والكتاب على هذا التأويل: التوراة، والآية تعم. و{الَّذِينَ} رفع بالابتداء، {آتَيْناهُمُ} صلته، {يَتْلُونَهُ} خبر الابتداء، وإن شئت كان الخبر {أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}. واختلف في معنى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} فقيل: يتبعونه حق اتباعه، باتباع الامر والنهي، فيحللون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بما تضمنه، قاله عكرمة. قال عكرمة: أما سمعت قول الله تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها} أي أتبعها، وهو معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما.
وقال الشاعر:
قد جعلت دلوي تستتليني ***
وروى نصر بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} قال: يتبعونه حق اتباعه. في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكر الخطيب أبو بكر أحمد، إلا أن معناه صحيح.
وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها. وقد روي هذا المعنى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ.
وقال الحسن: هم الذين يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه.
وقيل: يقرءونه حق قراءته.
قلت: وهذا فيه بعد، إلا أن يكون المعنى يرتلون ألفاظه، ويفهمون معانيه، فإن بفهم المعاني يكون الاتباع لمن وفق.

{وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}
فيه عشرون مسألة:
الأولى: لما جرى ذكر الكعبة والقبلة اتصل ذلك بذكر إبراهيم عليه السلام، وأنه الذي بنى البيت، فكان من حق اليهود- وهم من نسل إبراهيم- ألا يرغبوا عن دينه. والابتلاء: الامتحان والاختبار، ومعناه أمر وتعبد. وإبراهيم تفسيره بالسريانية فيما ذكر الماوردي، وبالعربية فيما ذكر ابن عطية: أب رحيم. قال السهيلي: وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب راحم، لرحمته بالأطفال، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغارا إلى يوم القيامة.
قلت: ومما يدل على هذا ما خرجه البخاري من حديث الرؤيا الطويل عن سمرة، وفيه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس. وقد أتينا عليه في كتاب التذكرة، والحمد لله. وإبراهيم هذا هو ابن تارخ بن ناخور في قول بعض المؤرخين.
وفي التنزيل: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} وكذلك في صحيح البخاري، ولا تناقض في ذلك، على ما يأتي في الأنعام بيانه إن شاء الله تعالى. وكان له أربع بنين: إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن، على ما ذكره السهيلي. وقدم على الفاعل للاهتمام، إذ كون الرب تبارك وتعالى مبتليا معلوم، وكون الضمير المفعول في العربية متصلا بالفاعل موجب تقديم المفعول، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام، فاعلمه. وقراءة العامة {إِبْراهِيمَ} بالنصب، {رَبُّهُ} بالرفع على ما ذكرنا. وروي عن جابر بن زيد أنه قرأ على العكس، وزعم أن ابن عباس أقرأه كذلك. والمعنى دعا إبراهيم ربه وسأل، وفيه بعد، لأجل الباء في قوله: {بِكَلِماتٍ}.
الثانية: قوله تعالى: {بِكَلِماتٍ} الكلمات جمع كلمة، ويرجع تحقيقها إلى كلام الباري تعالى، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به، كما سمي عيسى كلمة، لأنه صدر عن كلمة وهي {كُنْ}. وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز، قاله ابن العربي.
الثالثة: واختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال: أحدها- شرائع الإسلام، وهي ثلاثون سهما، عشرة منها في سورة براءة: {التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ} إلى آخرها، وعشرة في الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ} إلى آخرها، وعشرة في المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ} وقوله في: {سَأَلَ سائِلٌ}: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ}. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ابتلى الله أحدا بهن فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه السلام، ابتلي بالإسلام فأتمه فكتب الله له البراءة فقال: {وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى}.
وقال بعضهم: بالأمر والنهي، وقال بعضهم: بذبح ابنه، وقال بعضهم: بأداء الرسالة، والمعنى متقارب.
وقال مجاهد: هي قوله تعالى: إني مبتليك بأمر، قال: تجعلني للناس إماما؟ قال نعم. قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين، قال: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال نعم. قال: وأمنا؟ قال نعم. قال: وترينا مناسكنا وتتوب علينا؟ قال نعم. قال: وترزق أهله من الثمرات؟ قال نعم. وعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم. وأصح من هذا ما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن ابن عباس في قوله: {وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} قال: ابتلاه الله بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الشعر.
وفي الجسد: تقليم الاظفار، وحلق العانة، والاختتان، ونتف الإبط، وغسل مكان الغائط والبول بالماء، وعلى هذا القول فالذي أتم هو إبراهيم، وهو ظاهر القرآن.
وروى مطر عن أبي الجلد أنها عشر أيضا، إلا أنه جعل موضع الفرق غسل البراجم، وموضع الاستنجاء الاستحداد.
وقال قتادة: هي مناسك الحج خاصة. الحسن: هي الخلال الست: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان. قال أبو إسحاق الزجاج: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة، لأن هذا كله مما ابتلي به إبراهيم عليه السلام.
قلت: وفي الموطأ وغيره عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إبراهيم عليه السلام أول من اختتن، وأول من أضاف الضيف، وأول من استحد، وأول من قلم الاظفار، وأول من قص الشارب، وأول من شاب، فلما رأى الشيب قال: ما هذا؟ قال: وقار، قال: يا رب زدني وقارا.
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه قال: أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله. قال غيره: وأول من ثرد الثريد، وأول من ضرب بالسيف، وأول من استاك، وأول من استنجى بالماء، وأول من لبس السراويل.
وروى معاذ بن جبل قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم».
قلت: وهذه أحكام يجب بيانها والوقوف عليها والكلام فيها، فأول ذلك الختان وما جاء فيه، وهى المسألة:
الرابعة: أجمع العلماء على أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن. واختلف في السن التي اختتن فيها، ففي الموطأ عن أبي هريرة موقوفا: وهو ابن مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة. ومثل هذا لا يكون رأيا، وقد رواه الأوزاعي مرفوعا عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن مائة وعشرين سنة ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة». ذكره أبو عمر. وروي مسندا مرفوعا من غير رواية يحيى من وجوه: «أنه اختتن حين بلغ ثمانين سنة واختتن بالقدوم». كذا في صحيح مسلم وغيره: «ابن ثمانين سنة»، وهو المحفوظ في حديث ابن عجلان وحديث الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال عكرمة: اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة. قال: ولم يطف بالبيت بعد على ملة إبراهيم إلا مختون، هكذا قال عكرمة وقاله المسيب بن رافع، ذكره المروزي. والقدوم يروي مشددا ومخففا. قال أبو الزناد: القدوم مشددا: موضع.
الخامسة: واختلف العلماء في الختان، فجمهورهم على أن ذلك من مؤكدات السنن ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال. وقالت طائفة: ذلك فرض، لقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً}. قال قتادة: هو الاختتان، وإليه مال بعض المالكيين، وهو قول الشافعي. واستدل ابن سريج على وجوبه بالإجماع على تحريم النظر إلى العورة، وقال: لولا أن الختان فرض لما أبيح النظر إليها من المختون. وأجيب عن هذا بأن مثل هذا يباح لمصلحة الجسم كنظر الطبيب، والطب ليس بواجب إجماعا، على ما يأتي في النحل بيانه إن شاء الله تعالى. وقد احتج بعض أصحابنا بما رواه الحجاج بن أرطاة عن أبي المليح عن أبيه عن شداد بن أوس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الختان سنة للرجال مكرمة للنساء». والحجاج ليس ممن يحتج به.
قلت: أعلى ما يحتج به في هذا الباب حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الفطرة خمس الاختتان...» الحديث، وسيأتي.
وروى أبو داود عن أم عطية أن امرأة كانت تختن النساء بالمدينة، فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل». قال أبو داود: وهذا الحديث ضعيف راويه مجهول.
وفي رواية ذكرها رزين: «ولا تنهكي فإنه أنور للوجه وأحظى عند الرجل».
السادسة: فإن ولد الصبي مختونا فقد كفي مؤنة الختان. قال الميموني قال لي أحمد: إن هاهنا رجلا ولد له ولد مختون، فاغتم لذلك غما شديدا، فقلت له: إذا كان الله قد كفاك المئونة فما غمك بهذا!
السابعة: قال أبو الفرج الجوزي حدثت عن كعب الأحبار قال: خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مختونين: آدم وشيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال محمد بن حبيب الهاشمي: هم أربعة عشر: آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان نبي أصحاب الرس ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
قلت: اختلفت الروايات في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر أبو نعيم الحافظ في كتاب الحلية بإسناده أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد مختونا. وأسند أبو عمر في التمهيد حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد حدثنا محمد بن عيسى حدثنا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف حدثنا محمد ابن أبى السري العسقلاني حدثنا الوليد بن مسلم عن شعيب عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس: أن عبد المطلب ختن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم سابعه، وجعل له مأدبة وسماه محمدا. قال أبو عمر: هذا حديث مسند غريب. قال يحيى بن أيوب: طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممن لقيته إلا عند ابن أبي السري. قال أبو عمر: وقد قيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد مختونا.
الثامنة: واختلفوا متى يختن الصبي، فثبت في الاخبار عن جماعة من العلماء أنهم قالوا: ختن إبراهيم إسماعيل لثلاث عشرة سنة. وختن ابنه إسحاق لسبعة أيام. وروي عن فاطمة أنها كانت تختن ولدها يوم السابع، وأنكر ذلك مالك وقال ذلك من عمل اليهود. ذكره عنه ابن وهب.
وقال الليث بن سعد: يختن الصبي ما بين سبع سنين إلى عشر. ونحوه روى ابن وهب عن مالك.
وقال أحمد: لم أسمع في ذلك شيئا.
وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس: مثل من أنت حين قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: أنا يومئذ مختون. قال: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك أو يقارب الاحتلام. واستحب العلماء في الرجل الكبير يسلم أن يختتن، وكان عطاء يقول: لا يتم إسلامه حتى يختتن وإن بلغ ثمانين سنة. وروي عن الحسن أنه كان يرخص للشيخ الذي يسلم ألا يختتن، ولا يرى به بأسا ولا بشهادته وذبيحته وحجه وصلاته، قال ابن عبد البر: وعامة أهل العلم على هذا. وحديث بريدة في حج الأغلف لا يثبت. وروي عن ابن عباس وجابر ابن زيد وعكرمة: أن الأغلف لا تؤكل ذبيحته ولا تجوز شهادته.
التاسعة: قوله: وأول من استحد فالاستحداد استعمال الحديد في حلق العانة. وروت أم سلمة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا اطلى ولى عانته بيده.
وروى ابن عباس أن رجلا طلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا بلغ إلى عانته قال له: اخرج عنى، ثم طلى عانته بيده.
وروى أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يتنور، وكان إذا كثر الشعر على عانته حلقه. قال ابن خويز منداد: وهذا يدل على أن الأكثر من فعله كان الحلق وإنما تنور نادرا، ليصح الجمع بين الحديثين.
العاشرة: في تقليم الاظفار. وتقليم الاظفار: قصها، والقلامة ما يزال منها.
وقال مالك: أحب للنساء من قص الاظفار وحلق العانة مثل ما هو على الرجال. ذكره الحارث ابن مسكين وسحنون عن ابن القاسم. وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول له الأصل التاسع والعشرون: حدثنا عمر بن أبي عمر قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي عن عمر بن بلال الفزاري قال: سمعت عبد الله بن بشر المازني يقول قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قصوا أظافيركم وادفنوا قلاماتكم ونقوا براجمكم ونظفوا لثاتكم من الطعام وتسننوا ولا تدخلوا على قخرا بخرا ثم تكلم عليه فأحسن». قال الترمذي: فأما قص الاظفار فمن أجل أنه يخدش ويخمش ويضر، وهو مجتمع الوسخ، فربما أجنب ولا يصل الماء إلى البشرة من أجل الوسخ فلا يزال جنبا. ومن أجنب فبقي موضع إبرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جنب على حاله حتى يعم الغسل جسده كله، فلذلك ندبهم إلى قص الاظفار. والأظافير جمع الاظفور، والاظفار جمع الظفر.
وفي حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث سها في صلاته فقال: «وما لي لا أوهم ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته ويسألني أحدكم عن خبر السماء وفي أظافيره الجنابة والتفث». وذكر هذا الخبر أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالكيا في أحكام القرآن له، عن سليمان بن فرج أبي واصل قال: أتيت أبا أيوب رضي الله عنه فصافحته، فرأى في أظفاري طولا فقال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأله عن خبر السماء فقال: «يحي أحدكم يسأل عن خبر السماء وأظفاره كأظفار الطير حتى يجتمع فيها الوسخ والتفث». وأما قوله: «ادفنوا قلاماتكم» فإن جسد المؤمن ذو حرمة، فما سقط منه وزال عنه فحفظه من الحرمة قائم، فيحق عليه أن يدفنه، كما أنه لو مات دفن، فإذا مات بعضه فكذلك أيضا تقام حرمته بدفنه، كي لا يتفرق ولا يقع في النار أو في مزابل قذرة. وقد أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدفن دمه حيث احتجم كي لا تبحث عنه الكلاب. حدثنا بذلك أبي رحمه الله تعالى قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا الهنيد بن القاسم بن عبد الرحمن بن ماعز قال: سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير يقول إن أباه حدثه أنه أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يحتجم، فلما فرغ قال: «يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد». فلما برز عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمد إلى الدم فشربه، فلما رجع قال: «يا عبد الله ما صنعت به؟». قال: جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خافيا عن الناس. قال: «لعلك شربته؟» قال نعم. قال: «لم شربت الدم، ويل للناس منك وويل لك من الناس». حدثني أبي قال: حدثنا مالك بن سليمان الهروي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان: الشعر، والظفر، والدم، والحيضة، والسن، والقلفة، والبشيمة. وأما قوله: «نقوا براجمكم» فالبراجم تلك الغضون من المفاصل، وهي مجتمع الدرن واحدها برجمة وهو ظهر عقدة كل مفصل، فظهر العقدة يسمى برجمة، وما بين العقدتين تسمى راجبة، وجمعها رواجب، وذلك مما يلي ظهرها، وهي قصبة الإصبع، فلكل إصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الإبهام فإن لها برجمة وراجبتين، فأمر بتنقيته لئلا يدرن فتبقى فيه الجنابة، ويحول الدرن بين الماء والبشرة. وأما قوله: «نظفوا لثاتكم» فاللثة واحدة، واللثات جماعة، وهي اللحمة فوق الأسنان ودون الأسنان، وهي منابتها. والعمور: اللحمة القليلة بين السنين، واحدها عمر. فأمر بتنظيفها لئلا يبقى فيها وضر الطعام فتتغير عليه النكهة وتتنكر الرائحة، ويتأذى الملكان، لأنه طريق القرآن، ومقعد الملكين عند نابيه. وروي في الخبر في قوله تعالى: {ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} قال: عند نابيه. حدثنا بذلك محمد بن علي الشقيقي قال: سمعت أبي يذكر ذلك عن سفيان بن عيينة، وجاد ما قال، وذلك أن اللفظ هو عمل الشفتين يلفظ الكلام عن لسانه إلى البراز. وقوله: {لَدَيْهِ} أي عنده، والدي والعند في لغتهم السائرة بمعنى واحد، وكذلك قولهم لدن فالنون زائدة. فكأن الآية تنبئ أن الرقيب عتيد عند مغلظ الكلام وهو الناب. وأما قوله: تسننوا وهو السواك مأخوذ من السن، أي نظفوا السن. وقوله: «لا تدخلوا على قخرا بخرا» فالمحفوظ عندي فحلا وقلحا. وسمعت الجارود يذكر عن النضر قال: الأقلح الذي قد اصفرت أسنانه حتى بخرت من باطنها، ولا أعرف القخر. والبخر: الذي تجد له رائحة منكرة لبشرته، يقال: رجل أبخر، ورجال بخر. حدثنا الجارود قال: حدثنا جرير عن منصور عن أبي علي عن أبي جعفر بن تمام بن العباس عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «استاكوا، ما لكم تدخلون علي قلحا».
الحادية عشرة: في قص الشارب. وهو الأخذ منه حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار، ولا يجزه فيمثل نفسه، قاله مالك.
وذكر ابن عبد الحكم عنه قال: وأرى أن يؤدب من حلق شاربه. وذكر أشهب عنه أنه قال في حلق الشارب: هذه بدع، وأرى أن يوجع ضربا من فعله.
وقال ابن خويز منداد قال مالك: أرى أن يوجع من حلقه ضربا. كأنه يراه ممثلا بنفسه، وكذلك بنتفه الشعر، وتقصيره عنده أولى من حلقه. وكذلك روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان ذا لمة، وكان أصحابه من بين وافر الشعر أو مقصر، وإنما حلق وحلقوا في النسك. وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقص أظافره وشاربه قبل أن يخرج إلى الجمعة.
وقال الطحاوي: لم نجد عن الشافعي في هذا شيئا منصوصا، وأصحابه الذين رأيناهم: المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما، ويدل ذلك أنهما أخذا ذلك عن الشافعي رحمه الله تعالى. قال: وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير.
وذكر ابن خويز منداد عن الشافعي أن مذهبه في حلق الشارب كمذهب أبي حنيفة سواء.
وقال أبو بكر الأثرم: رأيت أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديدا، وسمعته سئل عن السنة في إحفاء الشارب فقال: يحفى كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احفوا الشوارب». قال أبو عمر: إنما في هذا الباب أصلان:
أحدهما: أحفوا، وهو لفظ محتمل التأويل. والثاني- قص الشارب، وهو مفسر، والمفسر يقضي على المجمل، وهو عمل أهل المدينة، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب. روى الترمذي عن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقص من شاربه ويقول: «إن إبراهيم خليل الرحمن كان يفعله». قال: هذا حديث حسن غريب. وخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الفطرة خمس الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الاظفار ونتف الإبط». وفيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى». والأعاجم يقصون لحاهم، ويوفرون شواربهم أو يوفرونهما معا، وذلك عكس الجمال والنظافة. ذكر رزين عن نافع أن ابن عمر كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى الجلد، ويأخذ هذين، يعني ما بين الشارب واللحية.
وفي البخاري: وكان ابن عمر يأخذ من طول لحيته ما زاد على القبضة إذا حج أو اعتمر.
وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها. قال: هذا حديث غريب.
الثانية عشرة: وأما الإبط فسنته النتف، كما أن سنة العانة الحلق، فلو عكس جاز لحصول النظافة، والأول أولى، لأنه المتيسر المعتاد.
الثالثة عشرة: وفرق الشعر: تفريقه في المفرق، وفي صفته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن انفرقت عقيصته فرق، يقال: فرقت الشعر أفرقه فرقا، يقول: إن انفرق شعر رأسه فرقه في مفرقه، فإن لم ينفرق تركه وفرة واحدة. خرج النسائي عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون شعورهم، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك، أخرجه البخاري ومسلم عن أنس. قال القاضي عياض: سدل الشعر إرساله، والمراد به هاهنا عند العلماء إرساله على الجبين، واتخاذه كالقصة، والفرق في الشعر سنة، لأنه الذي رجع إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد روي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرسا يجزون ناصية كل من لم يفرق شعره. وقد قيل: إن الفرق كان من سنة إبراهيم عليه السلام، فالله أعلم.
الرابعة عشرة: وأما الشيب فنور ويكره نتفه، ففي النسائي وأبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تنتفوا الشيب ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورا يوم القيامة وكتب الله له حسنة وحط عنه خطيئة».
قلت: وكما يكره نتفه كذلك يكره تغييره بالسواد، فأما تغييره بغير السواد فجائز، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حق أبي قحافة- وقد جئ به ولحيته كالثغامة بياضا-: «غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد». ولقد أحسن من قال:
يسود أعلاها ويبيض أصلها *** ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل
وقال آخر:
يا خاضب الشيب بالحناء تستره *** سل المليك له سترا من النار
الخامسة عشرة: وأما الثريد فهو أزكى الطعام وأكثره بركة، وهو طعام العرب، وقد شهد له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفضل على سائر الطعام فقال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».
وفي صحيح البستي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت إذا ثردت غطته شيئا حتى يذهب فوره وتقول: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنه أعظم للبركة».
السادسة عشرة: قلت: وهذا كله في معنى ما ذكره عبد الرزاق عن ابن عباس، وما قاله سعيد بن المسيب وغيره. ويأتي ذكر المضمضة والاستنشاق والسواك في سورة النساء وحكم الاستنجاء في براءة وحكم الضيافة في هود إن شاء الله تعالى. وخرج مسلم عن أنس قال: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الاظفار ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة، قال علماؤنا: هذا تحديد في أكثر المدة، والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، وهذا الحديث يرويه جعفر بن سليمان. قال العقيلي: في حديثه نظر.
وقال أبو عمر فيه: ليس بحجة، لسوء حفظه وكثرة غلطه. وهذا الحديث ليس بالقوي من جهة النقل، ولكنه قد قال به قوم، وأكثرهم على ألا توقيت في ذلك، وبالله التوفيق.
السابعة عشرة: قوله تعالى: {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً} الامام: القدوة، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وللطريق: إمام، لأنه يؤم فيه للمسالك، أي يقصد. فالمعنى: جعلناك للناس إماما يأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون. فجعله الله تعالى إماما لأهل طاعته، فلذلك اجتمعت الأمم على الدعوى فيه- والله أعلم- أنه كان حنيفا.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} دعاء على جهة الرغباء إلى الله تعالى، أي من ذريتي يا رب فاجعل.
وقيل: هذا منه على جهة الاستفهام عنهم، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصيا وظالما لا يستحق الامامة. قال ابن عباس: سأل إبراهيم عليه السلام أن يجعل من ذريته إمام، فأعلمه الله أن في ذريته من يعصي فقال: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أصل ذرية، فعلية من الذر، لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم عليه السلام كالذر حين أشهدهم على أنفسهم.
وقيل: هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءا خلقهم، ومنه الذرية وهي نسل الثقلين، إلا أن العرب تركت همزها، والجمع الذراري. وقرأ زيد بن ثابت {ذرية} بكسر الذال و{ذرية} بفتحها. قال ابن جني أبو الفتح عثمان: يحتمل أصل هذا الحرف أربعة ألفاظ: أحدها- ذرأ، والثاني- ذرر، والثالث- ذرو، والرابع ذري، فأما الهمزة فمن ذرأ الله الخلق، وأما ذرر فمن لفظ الذر ومعناه، وذلك لما ورد في الخبر: «أن الخلق كان كالذر» وأما الواو والياء، فمن ذروت الحب وذريته يقالان جميعا، وذلك قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ} وهذا للطفه وخفته، وتلك حال لذر أيضا. قال الجوهري: ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذرويه ذروا وذريا أي نسفته، ومنه قولهم: ذرى الناس الحنطة، وأذريت الشيء إذا ألقيته، كإلقائك الحب للزرع. وطعنه فأذراه عن ظهر دابته، أي ألقاه.
وقال الخليل: إنما سموا ذرية، لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر.
وقيل: أهل ذرية، ذرورة، لكن لما كثر التضعيف أبدل من إحدى الراءات ياء، فصارت ذروية، ثم أدغمت الواو في الياء فصارت ذرية. والمراد بالذرية هنا الأبناء خاصة، وقد تطلق على الإباء والأبناء، ومنه قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ} يعني آباءهم.
العشرين: قوله تعالى: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} اختلف في المراد بالعهد، فروى أبو صالح عن ابن عباس أنه النبوة، وقاله السدي. مجاهد: الامامة. قتادة: الايمان. عطاء: الرحمة. الضحاك: دين الله تعالى.
وقيل: عهده أمره. ويطلق العهد على الامر، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا} أي أمرنا. وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ} يعني ألم أقدم إليكم الامر به، وإذا كان عهد الله هو أوامره فقوله: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله ولا يقيمون عليها، على ما يأتي بيانه بعد هذا آنفا إن شاء الله تعالى.
وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قال: لا ينال عهد لله في الآخرة الظالمين، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به، واكل وعاش وأبصر. قال الزجاج: وهذا قول حسن، أي لا ينال أماني الظالمين، أي لا أؤمنهم من عذابي.
وقال سعيد بن جبير: الظالم هنا المشرك. وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف {لا ينال عهدي الظالمون} برفع الظالمون. الباقون بالنصب. وأسكن حمزة وحفص وابن محيصن الياء في: {عَهْدِي}، وفتحها الباقون.
الحادية والعشرون: استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الامام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا ينازعوا الامر أهله، على ما تقدم من القول فيه. فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل، لقوله تعالى: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ولهذا خرج ابن الزبير والحسين ابن علي رضي الله عنهم. وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة. والذي عليه الأكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الامام الجائر أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض. والأول مذهب طائفة من المعتزلة، وهو مذهب الخوارج، فاعلمه.
الثانية والعشرون: قال ابن خويز منداد: وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد. وما تقدم من أحكامه موافقا للصواب ماض غير منقوض. وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجها من ال


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 5:10 pm
المشاركة رقم: #21
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}
قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {جَعَلْنَا} بمعنى صيرنا لتعديه إلى مفعولين، وقد تقدم. {الْبَيْتَ} يعني الكعبة. {مَثابَةً} أي مرجعا، يقال: ثاب يثوب مثابا ومثابة وثئوبا وثوبانا. فالمثابة مصدر وصف به ويراد به الموضع الذي يثاب إليه، أي يرجع إليه. قال ورقة بن نوفل في الكعبة:
مثابا لإفناء القبائل كلها *** تخب إليها اليعملات الذوامل
وقرا الأعمش: {مثابات} على الجمع. ويحتمل أن يكون من الثواب، أي يثابون هناك.
وقال مجاهد: لا يقضي أحد منه وطرا، قال الشاعر:
جعل البيت مثابا لهم *** ليس منه الدهر يقضون الوطر
والأصل مثوبة، قلبت حركة الواو على الثاء فقلبت الواو ألفا اتباعا لثاب يثوب، وانتصب على المفعول الثاني، ودخلت الهاء للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع، لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطرا، فهي كنسابة وعلامة، قاله الأخفش.
وقال غيره: هي هاء تأنيث المصدر وليست للمبالغة.
فإن قيل: ليس كل من جاءه يعود إليه، قيل: ليس يختص بمن ورد عليه، وإنما المعنى أنه لا يخلو من الجملة، ولا يعدم قاصدا من الناس، والله تعالى أعلم.
الثانية: قوله تعالى: {وَأَمْناً} استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحد في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً} كأنه قال: آمنوا من دخل البيت. والصحيح إقامة الحدود في الحرم، وأن ذلك من المنسوخ، لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت، ويقتل خارج البيت. وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا؟ والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة. وقد أجمعوا أنه لو قتل في الحرم قتل به، ولو أتى حدا أقيد منه فيه، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه.
وقال أبو حنيفة: من لجأ إلى الحرم لا يقتل فيه ولا يتابع، ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج. فنحن نقتله بالسيف، وهو يقتله بالجوع والصد، فأي قتل أشد من هذا.
وفي قوله: {وَأَمْناً} تأكيد للأمر باستقبال الكعبة، أي ليس في بيت المقدس هذه الفضيلة، ولا يحج إليه الناس، ومن استعاذ بالحرم أمن من أن يغار عليه. وسيأتي بيان هذا في المائدة إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا} قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم، وهو معطوف على {جَعَلْنَا} أي جعلنا البيت مثابة واتخذوه مصلى. وقيل هو معطوف على تقدير إذ، كأنه قال: وإذ جعلنا البيت مثابة وإذ اتخذوا، فعلى الأول الكلام جملة واحدة، وعلى الثاني جملتان. وقرأ جمهور القراء {وَاتَّخِذُوا} بكسر الخاء على جهة الامر، قطعوه من الأول وجعلوه معطوفا جملة على جملة. قال المهدوي: يجوز أن يكون معطوفا على {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} كأنه قال ذلك لليهود، أو على معنى إذ جعلنا البيت، لأن معناه اذكروا إذ جعلنا. أو على معنى قوله: {مَثابَةً} لان معناه ثوبوا.
الثانية: روى ابن عمر قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر. خرجه مسلم وغيره. وخرجه البخاري عن أنس قال: قال عمر: وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث... الحديث، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده فقال: حدثنا حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد عن أنس بن مالك قال قال عمر: وافقت ربي في أربع، قلت يا رسول الله: لو صليت خلف المقام؟ فنزلت هذه الآية: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} وقلت: يا رسول الله، لو ضربت على نسائك الحجاب فإنه يدخل عليهن البر والفاجر؟ فأنزل الله: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ}، ونزلت هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}، فلما نزلت قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت: {فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ}، ودخلت على أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: لتنتهن أو ليبدلنه الله بأزواج خير منكن، فنزلت الآية: {عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ}.
قلت: ليس في هذه الرواية ذكر للأسارى، فتكون موافقة عمر في خمس.
الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ مَقامِ} المقام في اللغة: موضع القدمين. قال النحاس: {مقام} من قام يقوم، يكون مصدرا واسما للموضع. ومقام من أقام، فأما قول زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوههم *** وأندية ينتابها القول والفعل
فمعناه: فيهم أهل مقامات. واختلف في تعيين المقام على أقوال، أصحها- أنه الحجر الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم. وهذا قول جابر بن عبد الله وابن عباس وقتادة وغيرهم.
وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى البيت استلم الركن فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} فصلى ركعتين قرأ فيهما بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و{قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ}. وهذا يدل على أن ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات لأهل مكة أفضل ويدل من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل، على ما يأتي.
وفي البخاري: أنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناولها إياه في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه. قال أنس: رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، حكاه القشيري.
وقال السدي: المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عليه السلام حين غسلت رأسه. وعن ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة وعطاء: الحج كله. وعن عطاء: عرفة ومزدلفة والجمار، وقاله الشعبي. النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم، وقاله مجاهد. فلت: والصحيح في المقام القول الأول، حسب ما ثبت في الصحيح. وخرج أبو نعيم من حديث محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: نظر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رجل بين الركن والمقام، أو الباب والمقام وهو يدعو ويقول: اللهم اغفر لفلان، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما هذا؟» فقال: رجل استودعني أن أدعو له في هذا المقام، فقال: «ارجع فقد غفر لصاحبك». قال أبو نعيم: حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد ابن إبراهيم القاضي قال حدثنا محمد بن عاصم بن يحيى الكاتب قال حدثنا عبد الرحمن بن القاسم القطان الكوفي قال حدثنا الحارث بن عمران الجعفري عن محمد بن سوقة، فذكره. قال أبو نعيم: كذا رواه عبد الرحمن عن الحارث عن محمد عن جابر، وإنما يعرف من حديث الحارث عن محمد عن عكرمة عن ابن عباس. ومعنى: {مُصَلًّى}. مدعى يدعي فيه، قاله مجاهد.
وقيل: موضع صلاة يصلى عنده، قاله قتادة.
وقيل: قبلة يقف الامام عندها، قاله الحسن.
قوله تعالى: {وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَعَهِدْنا} قيل: معناه أمرنا.
وقيل: أوحينا. {أَنْ طَهِّرا} {أن} في موضع نصب على تقدير حذف الخافض.
وقال سيبويه: إنها بمعنى أي مفسرة، فلا موضع لها من الاعراب.
وقال الكوفيون: تكون بمعنى القول. و{طَهِّرا} قيل معناه: من الأوثان، عن مجاهد والزهري.
وقال عبيد بن عمير وسعيد بن جبير: من الآفات والريب.
وقيل: من الكفار.
وقال السدي: أبنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة، فيجيء مثل قوله: {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى}.
وقال يمان: بخراه وخلقاه. {بَيْتِيَ} أضاف البيت إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، وهي إضافة مخلوق إلى خالق، ومملوك إلى مالك. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام وحفص: {بَيْتِيَ} بفتح الياء، والآخرون بإسكانها.
الثانية: قوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ} ظاهره الذين يطفون به، وهو قول عطاء.
وقال سعيد بن جبير: معناه للغرباء الطارئين على مكة، وفيه بعد. {وَالْعاكِفِينَ} المقيمين من بلدي وغريب، عن عطاء. وكذلك قوله: {لِلطَّائِفِينَ}. والعكوف في اللغة: اللزوم والإقبال على الشيء، كما قال الشاعر:
عكف النبيط يلعبون الفنزجا ***
وقال مجاهد: العاكفون المجاورون. ابن عباس: المصلون.
وقيل: الجالسون بغير طواف، والمعنى متقارب. {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي المصلون عند الكعبة. وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى. وقد تقدم معنى الركوع والسجود لغة والحمد لله.
الثالثة: لما قال الله تعالى: {أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ} دخل فيه بالمعنى جميع بيوته تعالى، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة. وإنما خص الكعبة بالذكر لأنه لم يكن هناك غيرها، أو لكونها أعظم حرمة، والأول أظهر، والله أعلم.
وفي التنزيل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} وهناك يأتي حكم المساجد إن شاء الله تعالى. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا! أتدري أين أنت!؟ وقال حذيفة قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله أوحى إلي يا أخا المنذرين يا أخا المرسلين أنذر قومك ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب سليمة وألسنة صادقة وأيد نقية وفروج طاهرة وألا يدخلوا بيتا من بيوتي ما دام لاحد عندهم مظلمة فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ».
الرابعة: استدل الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة من السلف بهذه الآية على جواز الصلاة الفرض والنفل داخل البيت. قال الشافعي رحمه الله: إن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها فصلاته جائزة، وإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطلة، وكذلك من صلى على ظهرها، لأنه لم يستقبل منها شيئا.
وقال مالك: لا يصلي فيه الفرض ولا السنن، ويصلي فيه التطوع، غير أنه إن صلى فيه الفرض أعاد في الوقت.
وقال أصبغ: يعيد أبدا.
قلت: وهو الصحيح، لما رواه مسلم عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج منه، فلما خرج ركع في قبل الكعبة ركعتين وقال: «هذه القبلة» وهذا نص. فإن قيل: فقد روى البخاري عن ابن عمر قال: دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي البيت فأغلقوا عليهم الباب. فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال، نعم بين العمودين اليمانيين. وأخرجه مسلم، وفيه قال: جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة. قلنا: هذا يحتمل أن يكون صلى بمعنى دعا، كما قال أسامة، ويحتمل أن يكون صلى الصلاة العرفية، وإذا احتمل هذا وهذا سقط الاحتجاج به.
فإن قيل: فقد روى ابن المنذر وغيره عن أسامة قال: رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صورا في الكعبة فكنت آتية بماء في الدلو يضرب به تلك الصور. وخرجه أبو داود الطيالسي قال: حدثنا ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران قال حدثنا عمير مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال: دخلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكعبة وراي صورا قال: فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: «قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون». فيحتمل أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى في حالة مضي أسامة في طلب الماء فشاهد بلال ما لم يشاهده أسامة، فكان من أثبت أولى ممن نفى، وقد قال أسامة نفسه: فأخذ الناس بقول بلال وتركوا قولي. وقد روى مجاهد عن عبد الله بن صفوان قال: قلت لعمر بن الخطاب: كيف صنع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دخل الكعبة؟ قال: صلى ركعتين. قلنا: هذا محمول على النافلة، ولا نعلم خلافا بين العلماء في صحة النافلة في الكعبة، وأما الفرض فلا، لأن الله تعالى عين الجهة بقوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} على ما يأتي بيانه، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خرج: «هذه القبلة» فعينها كما عينها الله تعالى. ولو كان الفرض يصح داخلها لما قال: «هذه القبلة». وبهذا يصح الجمع بين الأحاديث، وهو أولى من إسقاط بعضها، فلا تعارض، والحمد لله.
الخامسة: واختلفوا أيضا في الصلاة على ظهرها، فقال الشافعي ما ذكرناه.
وقال مالك: من صلى على ظهر الكعبة أعاد في الوقت. وقد روي عن بعض أصحاب مالك: يعيدا أبدا.
وقال أبو حنيفة: من صلى على ظهر الكعبة فلا شيء عليه.
السادسة: واختلفوا أيضا أيما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك: الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل. وذكر عن ابن عباس وعطاء ومجاهد. والجمهور على أن الصلاة أفضل.
وفي الخبر: «لولا رجال خشع وشيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصببنا عليكم العذاب صبا».
وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في كتاب السابق واللاحق عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المذنبين صبا». لم يذكر فيه: وشيوخ ركع.
وفي حديث أبي ذر: «الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل». خرجه الاجري. والاخبار في فضل الصلاة والسجود كثيرة تشهد لقول الجمهور، والله تعالى أعلم.

{وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}
وفيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {بَلَداً آمِناً} يعني مكة، فدعا لذريته وغيرهم بالأمن ورغد العيش. فروي أنه لما دعا بهذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل فاقتلع الطائف من الشام فطاف بها حول البيت أسبوعا، فسميت الطائف لذلك، ثم أنزلها تهامة، وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء ولا نبات، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها، وأنبت فيها أنواع الثمرات، على ما يأتي بيانه في سورة إبراهيم إن شاء الله تعالى.
الثانية: اختلف العلماء في مكة هل صارت حراما آمنا بسؤال إبراهيم أو كانت قبله كذلك على قولين: أحدهما- أنها لم تزل حرما من الجبابرة المسلطين، ومن الخسوف والزلازل، وسائر المثلات التي تحل بالبلاد، وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى. ولقد جعل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على توحيده ما شوهد من أمر الصيد فيها، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يهيج الكلب الصيد ولا ينفر منه، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد إلى النفور والهرب. وإنما سأل إبراهيم ربه أن يجعلها آمنا من القحط والجدب والغارات، وأن يرزق أهله من الثمرات، لا على ما ظنه بعض الناس أنه المنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل، فإن ذلك يبعد كونه مقصودا لإبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يقال: طلب من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم، هذا بعيد جدا.
الثاني- أن مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد، وأن بدعوته صارت حرما آمنا كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمنا بعد أن كانت حلالا. احتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لاحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها». فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: «إلا الإذخر». ونحوه حديث أبي شريح، أخرجهما مسلم وغيره.
وفي صحيح مسلم أيضا عن عبد الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة». قال ابن عطية: ولا تعارض بين الحديثين، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان. والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور، وكان القول الأول من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثاني يوم الفتح إخبارا بتعظيم حرمة مكة على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر إبراهيم عند تحريم المدينة مثالا لنفسه، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من قبل الله تعالى ومن نافذ قضائه وسابق علمه.
وقال الطبري: كانت مكة حراما فلم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها.
الثالثة: قوله تعالى: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ} تقدم معنى الرزق. والثمرات جمع ثمرة، وقد تقدم. {مَنْ آمَنَ} بدل من أهل، بدل البعض من الكل. والايمان: التصديق، وقد تقدم. {قال وَمَنْ كَفَرَ} من في قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} في موضع نصب، والتقدير وارزق من كفر، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء، وهي شرط والخبر {فَأُمَتِّعُهُ} وهو الجواب. واختلف هل هذا القول من الله تعالى أو من إبراهيم عليه السلام؟ فقال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما: هو من الله تعالى، وقرءوا {فَأُمَتِّعُهُ} بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التاء. {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} بقطع الألف وضم الراء، وكذلك القراء السبعة خلا ابن عامر فإنه سكن الميم وخفف التاء.
وحكى أبو إسحاق الزجاج أن في قراءة أبي {فنمتعه قليلا ثم نضطره} بالنون.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: هذا القول عن إبراهيم عليه السلام. وقرءوا {فأمتعه} بفتح الهمزة وسكون الميم، {ثم اضطره} بوصل الألف وفتح الراء، فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين، وعليه فيكون الضمير في: {قالَ} لإبراهيم، وأعيد {قالَ} لطول الكلام، أو لخروجه من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين. والفاعل في: {قالَ} على قراءة الجماعة اسم الله تعالى، واختاره النحاس، وجعل القراءة بفتح الهمزة وسكون الميم ووصل الألف شاذة، قال: ونسق الكلام والتفسير جميعا يدلان على غيرها، أما نسق الكلام فإن الله تعالى خبر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً} ثم جاء بقوله عز وجل: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ولم يفصل بينه بقال، ثم قال بعد: {قالَ وَمَنْ كَفَرَ} فكان هذا جوابا من الله، ولم يقل بعد: قال إبراهيم. وأما التفسير فقد صح عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب. وهذا لفظ ابن عباس: دعا إبراهيم عليه السلام لمن آمن دون الناس خاصة، فأعلم الله عز وجل أنه يرزق من كفر كما يرزق من آمن، وأنه يمتعه قليلا ثم يضطره إلى عذاب النار. قال أبو جعفر: وقال الله عز وجل: {كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ} وقال جل ثناؤه: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ}. قال أبو إسحاق: إنما علم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته كفارا فخص المؤمنين، لأن الله تعالى قال: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}.

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}
قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ} القواعد: أساسه، في قول أبي عبيدة والفراء.
وقال الكسائي: هي الجدر. والمعروف أنها الأساس.
وفي الحديث: «إن البيت لما هدم أخرجت منه حجارة عظام» فقال ابن الزبير: هذه القواعد التي رفعها إبراهيم عليه السلام.
وقيل: إن القواعد كانت قد اندرست فأطلع الله إبراهيم عليها. ابن عباس: وضع البيت على أركان رآها قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت الأرض من تحته. والقواعد واحدتها قاعدة. والقواعد من النساء واحدها قاعد. واختلف الناس فيمن بنى البيت أولا وأسسه، فقيل: الملائكة. روي عن جعفر بن محمد قال: سئل أبي وأنا حاضر عن بدء خلق البيت فقال: إن الله عز وجل لما قال: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فغضب عليهم، فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة أشواط يسترضون ربهم حتى رضي الله عنهم، وقال لهم: ابنوا لي بيتا في الأرض يتعوذ به من سخطت عليه من بني آدم، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي، فأرضي عنه كما رضيت عنكم، فبنوا هذا البيت.
وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وابن المسيب وغيرهما أن الله عز وجل أوحى إلى آدم: إذا هبطت ابن لي بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في السماء. قال عطاء: فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء، ومن طور سينا، ومن لبنان، ومن الجودي، ومن طور زيتا، وكان ربضة من حراء. قال الخليل: والربض هاهنا الأساس المستدير بالبيت من الصخر، ومنه يقال لما حول المدينة: ربض. وذكر الماوردي عن عطاء عن ابن عباس قال: لما أهبط آدم من الجنة إلى الأرض قال له: يا آدم، اذهب فابن لي بيتا وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي، فأقبل آدم يتخطى وطويت له الأرض، وقبضت له المفازة، فلا يقع قدمه على شيء من الأرض إلا صار عمرانا حتى انتهى إلى موضع البيت الحرام، وأن جبريل عليه السلام ضرب بجناحيه الأرض فأبرز عن أس ثابت على الأرض السابعة السفلى، وقذفت إليه الملائكة بالصخر، فما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلا، وأنه بناه من خمسة أجبل كما ذكرنا. وقد روي في بعض الاخبار: أنه أهبط لآدم عليه السلام خيمة من خيام الجنة، فضربت في موضع الكعبة ليسكن إليها ويطوف حولها، فلم تزل باقية حتى قبض الله عز وجل آدم ثم رفعت. وهذا من طريق وهب بن منبه.
وفي رواية: أنه أهبط معه بيت فكان يطوف به والمؤمنون من ولده كذلك إلى زمان الغرق، ثم رفعه الله فصار في السماء، وهو الذي يدعي البيت المعمور. روي هذا عن قتادة ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين له، وقال: يجوز أن يكون معنى ما قال قتادة من أنه أهبط مع آدم بيت، أي أهبط معه مقدار البيت المعمور طولا وعرضا وسمكا، ثم قيل له: ابن بقدره، وتحري أن يكون بحياله، فكان حياله موضع الكعبة، فبناها فيه. وأما الخيمة فقد يجوز أن تكون أنزلت وضربت في موضع الكعبة، فلما أمر ببنائها فبناها كانت حول الكعبة طمأنينة لقلب آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما عاش ثم رفعت، فتتفق هذه الاخبار. فهذا بناء آدم عليه السلام، ثم بناه إبراهيم عليه السلام. قال ابن جريح وقال ناس: أرسل الله سحابة فيها رأس، فقال الرأس: يا إبراهيم، إن ربك يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة، فجعل ينظر إليها ويخط قدرها، ثم قال الرأس: إنه قد فعلت، فحفر فأبرز عن أساس ثابت في الأرض. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن الله تعالى لما أمر إبراهيم بعمارة البيت خرج من الشام ومعه ابنه إسماعيل وأمه هاجر، وبعث معه السكينة لها لسان تتكلم به يغدو معها إبراهيم إذا غدت، ويروح معها إذا راحت، حتى انتهت به إلى مكة، فقالت لإبراهيم: ابن على موضعي الأساس، فرفع البيت هو وإسماعيل حتى انتهى إلى موضع الركن، فقال لابنه: يا بني، ابغني حجرا أجعله علما للناس، فجاءه بحجر فلم يرضه، وقال: ابغني غيره، فذهب يلتمس، فجاءه وقد أتى بالركن فوضعه موضعه، فقال: يا أبة، من جاءك بهذا الحجر؟ فقال: من لم يكلني إليك. ابن عباس: صالح أبو قبيس: يا إبراهيم، يا خليل الرحمن، إن لك عندي وديعة فخذها، فإذا هو بحجر أبيض من ياقوت الجنة كان آدم قد نزل به من الجنة، فلما رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت جاءت سحابة مربعة فيها رأس فنادت: أن ارفعا على تربيعي. فهذا بناء إبراهيم عليه السلام. وروي أن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت أعطاهما الله الخيل جزاء عن رفع قواعد البيت. روى الترمذي الحكيم حدثنا عمر بن أبي عمر حدثني نعيم بن حماد حدثنا عبد الوهاب بن همام أخو عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كانت الخبيل وحشا كسائر الوحش، فلما أذن الله لإبراهيم وإسماعيل برفع القواعد قال الله تبارك اسمه: «إني معطيكما كنزا ادخرته لكما» ثم أوحى إلى إسماعيل أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك الكنز. فخرج إلى أجياد- وكانت وطنا- ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز، فألهمه، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته فأمكنته من نواصيها وذللها له، فاركبوها واعلفوها فإنها ميامين، وهي ميراث أبيكم إسماعيل، فإنما سمي الفرس عربيا لان إسماعيل أمر بالدعاء وإياه أتى.
وروى عبد المنعم بن إدريس عن وهب بن منبه، قال: أول من بنى البيت بالطين والحجارة شيث عليه السلام. وأما بنيان قريش له فمشهور، وخبر الحية في ذلك مذكور، وكانت تمنعهم من هدمه إلى أن اجتمعت قريش عند المقام فعجوا إلى الله تعالى وقالوا: ربنا، لم ترع! أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإن كنت ترضى بذلك وإلا فما بدا لك فافعل، فسمعوا خواتا من السماء- والخوات: حفيف جناح الطير الضخم- فإذا هو بطائر أعظم من النسر، أسود الظهر أبيض البطن والرجلين، فغرز مخاليبه في قفا الحية، ثم انطلق بها تجر ذنبها أعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها نحو أجياد، فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا، فبينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يرفع النمرة على عاتقه، فترى عورته من صغر النمرة، فنودي: يا محمد، خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد. وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين، وبين مخرجه وبنائها خمس عشرة سنة. ذكره عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن عثمان عن أبي الطفيل. وذكر عن معمر عن الزهري: حتى إذا بنوها وبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن، أي القبائل تلي رفعه؟ حتى شجر بينهم، فقالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة، فاصطلحوا على ذلك، فأطلع عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن إسحاق: وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يدر ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا فيه: «أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء واللبن». وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: كان باب الكعبة على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم عليه السلام بالأرض حتى بنته قريش. خرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الجدر أمن البيت هو؟ قال: «نعم» قلت: فلم لم يدخلوه في البيت؟ قال: «إن قومك قصرت بهم النفقة».
قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: «فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض». وخرج عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: حدثتني خالتي يعني عائشة رضي الله عنها قالت قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة». وعن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشا حين بنت الكعبة استقصرت ولجعلت لها خلفا».
وفي البخاري قال هشام بن عروة: يعني بابا.
وفي البخاري أيضا: «لجعلت لها خلفين» يعني بابين، فهذا بناء قريش. ثم لما غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير ووهت الكعبة من حريقهم، هدمها ابن الزبير وبناها على ما أخبرته عائشة، وزاد فيه خمسة أذرع من الحجر، حتى أبدى أسا نظر الناس إليه، فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعل لها بابين أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه، كذا في صحيح مسلم، وألفاظ الحديث تختلف. وذكر سفيان عن داود بن شابور عن مجاهد قال: لما أراد ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويبنيه قال للناس: أهدموا، قال: فأبوا أن يهدموا وخافوا أن ينزل عليهم العذاب. قال مجاهد: فخرجنا إلى مني فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب. قال: وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترءوا على ذلك، قال: فهدموا. فلما بناها جعل لها بابين: بابا يدخلون منه، وبابا يخرجون منه، وزاد فيه مما يلي الحجر ستة أذرع، وزاد في طولها تسعة أذرع. قال مسلم في حديثه: فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك ابن مروان يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شي، أما ما زاد في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه. في رواية: قال عبد الملك: ما كنت أظن أبا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث بن عبد الله: بلى، أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأربك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع». في أخرى: قال عبد الملك: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بني ابن الزبير. فهذا ما جاء في بناء الكعبة من الإثار. وروي أن الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة، وأن يرده على بناء ابن الزبير لما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وامتثله ابن الزبير، فقال له مالك: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين، ألا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. وذكر الوافدي: حدثنا معمر عن همام بن منبه سمع أبا هريرة يقول،: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سب أسعد الحميري، وهو تبع، وهو أول من كسا البيت، وهو تبع الأخر. قال ابن إسحاق: كانت تكسى القباطي ثم كسيت البرد، وأول من كساها الديباج الحجاج. قال العلماء: ولا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شي، فإنه مهدي إليها، ولا ينقص منها شي. روي عن سعيد بن جبير أنه كان يكره أن يؤخذ من طيب الكعبة يستشفى به، وكان إذا رأى الخادم يأخذ منه قفدها قفدة لا يألو أن يوجعها.
وقال عطاء: كان أحدنا إذا أراد أن يستشفي به جاء بطيب من عنده فمسح به الحجر ثم أخذه.
قوله تعالى: {رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا} المعنى: ويقولان {رَبَّنا}، فحذف. وكذلك هي في قراءة أبى وعبد الله بن مسعود: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا}. وتفسير إسماعيل: اسمع يا الله، لان إيل بالسريانية هو الله، وقد تقدم. فقيل: إن إبراهيم لما دعا ربه قال: اسمع يا إيل، فلما أجابه ربه ورزقه الولد سماه بما دعاه. ذكره الماوردي.
قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} اسمان من أسماء الله تعالى قد أتينا عليهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.

***************


{رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}
قوله تعالى: {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي صيرنا، و{مُسْلِمَيْنِ} مفعول ثان، سألا التثبيت والدوام. والإسلام في هذا الموضع: الايمان والأعمال جميعا، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} ففي هذا دليل لمن قال: إن الايمان والإسلام شيء واحد، وعضدوا هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى: {فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي {مسلمين} على الجمع.
قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} أي ومن ذريتنا فاجعل، فيقال: إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الامة. و{من} في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا} للتبعيض، لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين.
وحكى الطبري: أنه أراد بقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا} العرب خاصة. قال السهيلي: وذريتهما العرب، لأنهم بنو نبت بن إسماعيل، أو بنو تيمن بن إسماعيل، ويقال: قيدر بن نبت بن إسماعيل. أما العدنانية فمن نبت، وأما القحطانية فمن قيدر بن نبت بن إسماعيل، أو تيمن على أحد القولين. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم. والامة: الجماعة هنا، وتكون واحدا إذا كان يقتدي به في الخير، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ}، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيد بن عمرو بن نفيل: «يبعث أمة وحده» لأنه لم يشرك في دينه غيره، والله أعلم. وقد يطلق لفظ الامة على غير هذا المعنى، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} أي على دين وملة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً}. وقد تكون بمعنى الحين والزمان، ومنه قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد حين وزمان. ويقال: هذه أمة زيد، أي أم زيد. والامة أيضا: القامة، يقال: فلان حسن الامة، أي حسن القامة، قال:
وإن معاوية الاكرمي *** ن حسان الوجوه طوال الأمم
وقيل: الامة الشجة التي تبلغ أم الدماغ، يقال: رجل مأموم وأميم.
قوله تعالى: {وَأَرِنا مَناسِكَنا} {أرنا} من رؤية البصر، فتتعدى إلى مفعولين، وقيل: من رؤية القلب، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفاعيل. قال ابن عطية: وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب إلى مفعولين كغير المعدي، قال حطايط بن يعفر أخو الأسود بن يعفر:
أريني جوادا مات هزلا لأنني *** أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
وقرأ عمر بن عبد العزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن والسدي وروح عن يعقوب ورويس والسوسي {أرنا} بسكون الراء في القرآن، واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو عمرو باختلاس كسرة الراء، والباقون بكسرها، واختاره أبو عبيد. وأصله أرينا بالهمز، فمن قرأ بالسكون قال: ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الراء ساكنة على حالها، واستدل بقول الشاعر:
أرنا إداوة عبد الله نملؤها *** من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
ومن كسر فإنه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الراء، وأبو عمرو طلب الخفة. وعن شجاع بن أبي نصر وكان أمينا صادقا أنه رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فذاكره أشياء من حروف أبي عمرو فلم يرد عليه إلا حرفين: هذا، والآخر {ما ننسخ من آية أو ننسأها} مهموزا.
قوله تعالى: {مَناسِكَنا} يقال: إن أصل النسك في اللغة الغسل، يقال منه: نسك ثوبه إذا غسله. وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك إذا كان عابدا. واختلف العلماء في المراد بالمناسك هنا، فقيل: مناسك الحج ومعالمه، قاله قتادة والسدي.
وقال مجاهد وعطاء وابن جريج: المناسك المذابح، أي مواضع الذبح.
وقيل: جميع المتعبدات. وكل ما يتعبد به إلى الله تعالى يقال له منسك ومسك. والناسك: العابد. قال النحاس: يقال نسك ينسك، فكان يجب أن يقال على هذا: منسك، إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل. وعن زهير بن محمد قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت الحرام قال: أي رب، قد فرغت فأرنا مناسكنا، فبعث الله تعالى إليه جبريل فحج به، حتى إذا رجع من عرفة وجاء يوم النحر عرض له إبليس، فقال له: أحصبه، فحصبه بسبع حصيات، ثم الغد ثم اليوم الثالث، ثم علا ثبيرا فقال: يا عباد الله، أجيبوا، فسمع دعوته من بين الأبحر ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فقال: لبيك، اللهم لبيك، قال: ولم يزل على وجه الأرض سبعة مسلمون فصاعدا، لولا ذلك لأهلكت الأرض ومن عليها. وأول من أجابه أهل اليمن. وعن أبي مجلز قال: لما فرغ إبراهيم من البيت جاءه جبريل عليه السلام فأراه الطواف بالبيت- قال: وأحسبه قال: والصفا والمروة- ثم انطلقا إلى العقبة فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فرمى وكبر، وقال لإبراهيم: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم انطلقا إلى الجمرة الوسطى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتى به جمعا فقال: ها هنا يجمع الناس الصلوات. ثم أتى به عرفات فقال: عرفت؟ فقال نعم، فمن ثم سمي عرفات. وروي أنه قال له: عرفت، عرفت، عرفت؟ أي مني والجمع وهذا، فقال نعم، فسمي ذلك المكان عرفات. وعن خصيف بن عبد الرحمن أن مجاهدا حدثه قال: لما قال إبراهيم عليه السلام: {وَأَرِنا مَناسِكَنا} أي الصفا والمروة، وهما من شعائر الله بنص القرآن، ثم خرج به جبريل، فلما مر بجمرة العقبة إذا إبليس عليها، فقال له جبريل: كبر وارمه، فارتفع إبليس إلى الوسطى، فقال جبريل: كبر وارمه، ثم في الجمرة القصوى كذلك. ثم انطلق به إلى المشعر الحرام، ثم أتى به عرفة فقال له: هل عرفت ما أريتك؟ قال نعم، فسميت عرفات لذلك فيما قيل، قال: فأذن في الناس بالحج، قال: كيف أقول؟ قال قل: يا أيها الناس، أجيبوا ربكم، ثلاث مرار، ففعل، فقالوا: لبيك، اللهم لبيك. قال: فمن أجاب يومئذ فهو حاج.
وفي رواية أخرى: أنه حين نادى استدار فدعا في كل وجه، فلبى الناس من كل مشرق ومغرب، وتطأطأت الجبال حتى بعد صوته.
وقال محمد بن إسحاق: لما فرغ إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه من بناء البيت الحرام جاءه جبريل عليه السلام فقال له: طف به سبعا، فطاف به سبعا هو وإسماعيل عليهما السلام، يستلمان الأركان كلها في كل طواف، فلما أكملا سبعا صليا خلف المقام ركعتين. قال: فقام جبريل فأراه المناسك كلها: الصفا والمروة ومنى والمزدلفة. قال: فلما دخل مني وهبط من العقبة تمثل له إبليس...، فذكر نحو ما تقدم. قال ابن إسحاق: وبلغني أن آدم عليه السلام كان يستلم الأركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام. وقال: حج إسحاق وسارة من الشام، وكان إبراهيم عليه السلام يحجه كل سنة على البراق، وحجته بعد ذلك الأنبياء والأمم.
وروى محمد بن سابط عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق مكة فتعبد بها هو ومن آمن معه حتى يموتوا فمات بها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر».
وذكر ابن وهب أن شعيبا مات بمكة هو ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربي مكة بين دار الندوة وبين بني سهم.
وقال ابن عباس: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام، فقبر إسماعيل في الجحر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود.
وقال عبد الله بن ضمرة السلولي: ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيا جاءوا حجاجا فقبروا هنالك، صلوات الله عليهم أجمعين.
قوله تعالى: {وَتُبْ عَلَيْنا} اختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {وَتُبْ عَلَيْنا} وهم أنبياء معصومون، فقالت طائفة: طلبا التثبيت والدوام، لا أنهما كان لهما ذنب.
قلت: وهذا حسن، وأحسن منه أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أرادا أن يبينا للناس ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة.
وقيل: المعنى وتب على الظلمة منا. وقد مضى الكلام في عصمة الأنبياء عليهم السلام في قصة آدم عليه السلام، وتقدم القول في معنى قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فأغنى عن إعادته.

{رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}
قوله تعالى: {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي قراءة أبي {وابعث في آخرهم رسولا منهم}. وقد روى خالد بن معدان: أن نفرا من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: «نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى». و{رَسُولًا} أي مرسلا، وهو فعول من الرسالة. قال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله من قولهم: ناقة مرسال ورسله، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق. ويقال للجماعة المهملة المرسلة: رسل، وجمه أرسال. يقال: جاء القوم أرسالا، أي بعضهم في أثر بعض، ومنه يقال للبن رسل، لأنه يرسل من الضرع.
قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ} {الكتاب} القرآن و{الحكمة}: المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى، قاله مالك، ورواه عنه ابن وهب، وقاله ابن زيد.
وقال قتادة: {الحكمة} السنة وبيان الشرائع.
وقيل: الحكم والقضاء خاصة، والمعنى متقارب. ونسب التعليم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها، ويعلم طريق النظر بما يلقيه الله إليه من وحيه. {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يطهرهم من وضر الشرك، عن ابن جريج وغيره. والزكاة: التطهير، وقد تقدم.
وقيل: إن الآيات تلاوة ظاهر الألفاظ. والكتاب معاني الألفاظ. والحكمة الحكم، وهو مراد الله بالخطاب من مطلق ومقيد، ومفسر ومجمل، وعموم وخصوص، وهو معنى ما تقدم، والله تعالى أعلم. و{العزيز} معناه المنيع الذي لا ينال ولا يغالب.
وقال ابن كيسان: معناه الذي لا يعجزه شي، دليله: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ}. الكسائي: {العزيز} الغالب، ومنه قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ}.
وفي المثل: من عز بز أي من غلب سلب.
وقيل: {العزيز} الذي لا مثل له، بيانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وقد زدنا هذا المعنى بيانا في اسمه العزيز في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وقد تقدم معنى: {الحكيم} والحمد الله.

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)}
قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} {مَنْ} استفهام في موضع رفع بالابتداء، و{يَرْغَبُ} صلة {مَنْ}... {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} في موضع الخبر. وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أي وما يرغب، قاله النحاس. والمعنى: يزهد فيها وينأى بنفسه عنها، أي عن الملة وهي الدين والشرع. {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} قال قتادة: هم اليهود والنصارى، رغبوا عن ملة إبراهيم واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى. قال الزجاج: {سَفِهَ} بمعنى جهل، أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها.
وقال أبو عبيدة: المعنى أهلك نفسه.
وحكى ثعلب والمبرد أن {سَفِهَ} بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها. وحكي عن أبي الخطاب ويونس أنها لغة.
وقال الأخفش: {سَفِهَ نَفْسَهُ} أي فعل بها من السفه ما صار به سفيها. وعنه أيضا هي لغة بمعنى سفه، حكاه المهدوي، والأول ذكره الماوردي. فأما سفه بضم الفاء فلا يتعدى، قاله المبرد وثعلب.
وحكى الكسائي عن الأخفش أن المعنى جهل في نفسه، فحذفت في فانتصب. قال الأخفش: ومثله {عُقْدَةَ النِّكاحِ}، أي على عقدة النكاح. وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم: ضرب فلان الظهر والبطن، أي في الظهر والبطن. الفراء: هو تمييز. قال ابن بحر: معناه جهل نفسه وما فيها من


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 5:11 pm
المشاركة رقم: #22
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131)}
العامل في: {إِذْ} قوله: {اصْطَفَيْناهُ} أي اصطفيناه إذ قال له ربه أسلم. وكان هذا القول من الله تعالى حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس. قال ابن كيسان والكلبي: أي أخلص دينك لله بالتوحيد.
وقيل: اخضع واخشع.
وقال ابن عباس: إنما قال له ذلك حين خرج من السرب، على ما يأتي ذكره في الأنعام. والإسلام هنا على أتم وجوهه. والإسلام في كلام العرب: الخضوع والانقياد للمستسلم. وليس كل إسلام إيمانا، وكل إيمان إسلام، لأن من آمن بالله فقد استسلم وانقاد لله. وليس كل من أسلم آمن بالله، لأنه قد يتكلم فزعا من السيف، ولا يكون ذلك إيمانا، خلافا للقدرية والخوارج حيث قالوا: إن الإسلام هو الايمان، فكل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن، لقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} فدل على أن الإسلام هو الدين، وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن. ودليلنا قوله تعالى: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا} الآية. فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعد بن أبي وقاص لما قال له: أعط فلانا فإنه مؤمن، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أو مسلم» الحديث، خرجه مسلم، فدل على أن الايمان ليس الإسلام، فإن الايمان باطن، والإسلام ظاهر، وهذا بين. وقد يطلق الايمان بمعنى الإسلام، والإسلام ويراد به الايمان، للزوم أحدهما الأخر وصدوره عنه، كالإسلام الذي هو ثمرة الايمان ودلالة على صحته، فاعلمه. وبالله التوفيق.

{وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}
قوله تعالى: {وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ} أي بالملة، وقيل: بالكلمة التي هي قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} وهو أصوب، لأنه أقرب مذكور، أي قولوا أسلمنا. ووصى وأوصى لغتان لقريش وغيرهم بمعنى، مثل كرمنا وأكرمنا، وقرى بهما.
وفي مصحف عبد الله: {ووصى}، وفي مصحف عثمان {وأوصى} وهي قراءة أهل المدينة والشام. الباقون {وَوَصَّى} وفيه معنى التكثير. {وإِبْراهِيمُ} رفع بفعله، {وَيَعْقُوبُ} عطف عليه، وقيل: هو مقطوع مستأنف، والمعنى: وأوصى يعقوب وقال يا بني إن الله اصطفى لكم الدين، فيكون إبراهيم قد وصى بنيه، ثم وصى بعده يعقوب بنيه. وبنو إبراهيم: إسماعيل، وأمه هاجر القبطية، وهو أكبر ولده، نقله إبراهيم إلى مكة وهو رضيع.
وقيل: كان له سنتان، وقيل: كان له أربع عشرة سنة، والأول أصح، على ما يأتي في سورة إبراهيم بيانه إن شاء الله تعالى: وولد قبل أخيه إسحاق بأربع عشرة سنة، ومات وله مائة وسبع وثلاثون سنة.
وقيل: مائة وثلاثون. وكان سنه لما مات أبوه إبراهيم عليهما السلام تسعا وثمانين سنة. وهو الذبيح في قول. وإسحاق أمه سارة، وهو الذبيح في قول آخر، وهو الأصح، على ما يأتي بيانه في سورة والصافات إن شاء الله. ومن ولده الروم واليونان والأرمن ومن يجري مجراهم وبنو إسرائيل. وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ومات بالأرض المقدسة ودفن عند أبيه إبراهيم الخليل عليهما السلام. ثم لما توفيت سارة تزوج إبراهيم عليه السلام قنطورا بنت يقطن الكنعانية، فولدت له مدين ومدائن ونهشان وزمران ونشيق وشيوخ، ثم توفي عليه السلام. وكان بين وفاته وبين مولد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو من ألفي سنة وستمائة سنة، واليهود ينقصون من ذلك نحوا من أربعمائة سنة. وسيأتي ذكر أولاد يعقوب في سورة يوسف إن شاء الله تعالى. وقرأ عمرو بن فائد الأسواري وإسماعيل بن عبد الله المكي: {ويعقوب} بالنصب عطفا على {بَنِيهِ}، فيكون يعقوب داخلا فيمن أوصى. قال القشيري: وقرئ {يعقوب} بالنصب عطفا على {بَنِيهِ} وهو بعيد، لأن يعقوب لم يكن فيما بين أولاد إبراهيم لما وصاهم، ولم ينقل أن يعقوب أدرك جده إبراهيم، وإنما ولد بعد موت إبراهيم، وأن يعقوب أوصى بنيه أيضا كما فعل إبراهيم. وسيأتي تسمية أولاد يعقوب إن شاء الله تعالى. قال الكلبي: لما دخل يعقوب إلى مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران والبقر، فجمع ولده وخاف عليهم وقال: ما تعبدون من بعدي؟ ويقال: إنما سمي يعقوب لأنه كان هو والعيص توأمين، فخرج من بطن أمه آخذا بعقب أخيه العيص.
وفي ذلك نظر، لأن هذا اشتقاق عربي، ويعقوب اسم أعجمي، وإن كان قد وافق العربية في التسمية به كذكر الخجل. عاش عليه السلام مائة وسبعا وأربعين سنة ومات بمصر، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة، ويدفن عند أبيه إسحاق، فحمله يوسف ودفنه عنده.
قوله تعالى: {يا بَنِيَّ} معناه أن يا بني، وكذلك هو في قراءة أبي وابن مسعود والضحاك. قال الفراء: ألغيت أن لان التوصية كالقول، وكل كلام يرجع إلى القول جاز فيه دخول أن وجاز فيه إلغاؤها. قال: وقول النحويين إنما أراد {أن} فألغيت ليس بشيء. النحاس: {يا بَنِيَّ} نداء مضاف، وهذه ياء النفس لا يجوز هنا إلا فتحها، لأنها لو سكنت لألتقي ساكنان، ومثله {بِمُصْرِخِيَّ}. {إِنَّ اللَّهَ} كسرت {إن} لان أوصى وقال واحد.
وقيل: على إضمار القول. {اصْطَفى} اختار. قال الراجز:
يا ابن ملوك ورثوا الأملاكا *** خلافة الله التي أعطاكا
لك اصطفاها ولها اصطفاكا ***
{لَكُمُ الدِّينَ} أي الإسلام، والألف واللام في: {الدين} للعهد، لأنهم قد كانوا عرفوه. {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} إيجاز بليغ. والمعنى: الزموا الإسلام ودوموا عليه ولا تفارقوه حتى، تموتوا. فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه الخطاب من وقت الامر دائبا لازما. و{لا} نهي {تموتن} في موضع جزم بالنهي، أكد بالنون الثقيلة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. {إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ابتداء وخبر في موضع الحال، أي محسنون بربكم الظن، وقيل مخلصون، وقيل مفوضون، وقيل مؤمنون.

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)}
قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ} {شهداء} خبر كان، ولم يصرف لان فيه ألف التأنيث، ودخلت لتأنيث الجماعة كما تدخل الهاء. والخطاب لليهود والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم ما لم يوص به بنيه، وأنهم على اليهودية والنصرانية، فرد الله عليهم قولهم وكذبهم، وقال لهم على جهة التوبيخ: أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم، أي لم تشهدوا، بل أنتم تفترون!. و{أم} بمعنى بل، أي بل أشهد أسلافكم يعقوب. والعامل في: {إذ} الأولى معنى الشهادة، و{إذ} الثانية بدل من الأولى. و{شهداء} جمع شاهد أي حاضر. ومعنى: {حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} أي مقدماته وأسبابه، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئا. وعبر عن المعبود ب {ما} ولم يقل من، لأنه أراد أن يختبرهم، ولو قال: {من} لكان مقصوده أن ينظر من لهم الاهتداء منهم، وإنما أراد تجربتهم فقال: {ما}. وأيضا فالمعبودات المتعارفة من دون الله جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة، فاستفهم عما يعبدون من هذه. ومعنى: {مِنْ بَعْدِي} أي من بعد موتي. وحكي أن يعقوب حين خيركما تخير الأنبياء اختار الموت وقال: أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا، فاهتدوا وقالوا: {نَعْبُدُ إِلهَكَ} الآية. فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى.
قوله تعالى: {قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ} {إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ} في موضع خفض على البدل، ولم تنصرف لأنها أعجمية. قال الكسائي: وإن شئت صرفت {إسحاق} وجعلته من السحق، وصرفت {يعقوب} وجعلته من الطير. وسمي الله كل واحد من العم والجد أبا، وبدأ بذكر الجد ثم إسماعيل العم لأنه أكبر من إسحاق. و{إِلهاً} بدل من {إِلهَكَ} بدل النكرة من المعرفة، وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية.
وقيل: {إِلهاً} حال. قال ابن عطية: وهو قول حسن، لأن الغرض إثبات حال الوحدانية. وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر والجحدري وأبو رجاء العطاردي {واله أبيك} وفيه وجهان: أحدهما- أن يكون أفرد وأراد إبراهيم وحده، وكره أن يجعل إسماعيل أبا لأنه عم. قال النحاس: وهذا لا يجب، لأن العرب تسمي العم أبا.
الثاني- على مذهب سيبويه أن يكون {أبيك} جمع سلامة، حكى سيبويه أب وأبون وأبين، كما قال الشاعر:
فقلنا أسلموا إن أخوكم ***
وقال آخر:
فلما تبين أصواتنا *** بكين وفديننا بالأبينا
قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ابتداء وخبر، ويحتمل أن يكون في موضع الحال، والعامل {نَعْبُدُ}.


{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)}
قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} {تِلْكَ} مبتدأ، و{أُمَّةٌ} خبر، {قَدْ خَلَتْ} نعت لامة، وإن شئت كانت خبر المبتدأ، وتكون {أُمَّةٌ} بدلا من {تِلْكَ}. {لَها ما كَسَبَتْ} {ما} في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة على قول الكوفيين. {وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ} مثله، يريد من خير وشر.
وفي هذا دليل على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك، إن كان خيرا فبفضله وإن كان شرا فبعدله، وهذا مذهب أهل السنة، والآي في القرآن بهذا المعنى كثيرة. فالعبد مكتسب لأفعاله، على معنى أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل، يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرعشة مثلا، وذلك التمكن هو مناط التكليف. وقالت الجبرية بنفي اكتساب العبد، وإنه كالنبات الذي تصرفه الرياح. وقالت القدرية والمعتزلة خلاف هذين القولين، وإن العبد يخلق أفعاله.
قوله تعالى: {وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ} أي لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، مثل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، وسيأتي.

{وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}
قوله تعالى: {وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا} دعت كل فرقة إلى ما هي عليه، فرد الله تعالى ذلك عليهم فقال: {بَلْ مِلَّةَ} أي قل يا محمد: بل نتبع ملة، فلهذا نصب الملة.
وقيل: المعنى بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر صار منصوبا. وقرأ الأعرج وابن أبي عبلة: {بل ملة} بالرفع، والتقدير بل الهدى ملة، أو ملتنا دين إبراهيم. و{حَنِيفاً} مائلا عن الأديان المكروهة إلى الحق دين إبراهيم، وهو في موضع نصب على الحال، قاله الزجاج. أي بل نتبع ملة إبراهيم في هذه الحالة.
وقال علي بن سليمان: هو منصوب على أعني، والحال خطأ، لا يجوز جاءني غلام هند مسرعة. وسمي إبراهيم حنيفا لأنه حنف إلى دين الله وهو الإسلام. والحنف: الميل، ومنه رجل حنفاء، ورجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها. قالت أم الأحنف:
والله لولا حنف برجله *** ما كان في فتيانكم من مثله
وقال الشاعر:
إذا حول الظل العشي رأيته *** حنيفا وفي قرن الضحى يتنصر
أي الحرباء تستقبل القبلة بالعشي، والمشرق بالغداة، وهو قبلة النصارى.
وقال قوم: الحنف الاستقامة، فسمي دين إبراهيم حنيفا لاستقامته. وسمي المعوج الرجلين أحنف تفاؤلا بالاستقامة، كما قيل للديغ سليم، وللمهلكة مفازة، في قول أكثرهم.

{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}
قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} خرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل» الآية.
وقال محمد بن سيرين: إذا قيل لك أنت مؤمن؟ فقل: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ} الآية. وكره أكثر السلف أن يقول الرجل: أنا مؤمن حقا، وسيأتي بيانه في: {الأنفال} إن شاء الله تعالى. وسيل بعض المتقدمين عن رجل قيل له: أتؤمن بفلان النبي، فسماه باسم لم يعرفه، فلو قال نعم، فلعله لم يكن نبيا، فقد شهد بالنبوة لغير نبي، ولو قال لا، فلعله نبي، فقد جحد نبيا من الأنبياء، فكيف يصنع؟ فقال: ينبغي أن يقول: إن كان نبيا فقد آمنت به. والخطاب في هذه الآية لهذه الامة، علمهم الايمان. قال ابن عباس: جاء نفر من اليهود إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوه عمن يؤمن به من الأنبياء، فنزلت الآية. فلما جاء ذكر عيسى قالوا: لا نؤمن بعيسى ولا من آمن به.
قوله تعالى: {وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ} جمع إبراهيم براهيم، وإسماعيل سماعيل، قاله الخليل وسيبويه، وقاله الكوفيون، وحكوا براهمة وسماعلة، وحكوا براهم وسماعل. قال محمد بن يزيد: هذا غلط، لأن الهمزة ليس هذا موضع زيادتها، ولكن أقول: أباره وأسامع، ويجوز أباريه وأساميع. وأجاز أحمد بن يحيى براه، كما يقال في التصغير بريه. وجمع إسحاق أساحيق، وحكى الكوفيون أساحقة وأساحق، وكذا يعقوب ويعاقيب، ويعاقبه ويعاقب. قال النحاس: فأما إسرائيل فلا نعلم أحدا يجيز حذف الهمزة من أوله، وإنما يقال أساريل، وحكى الكوفيون أسارلة وأسارل. والباب في هذا كله أن يجمع مسلما فيقال: إبراهيمون وإسحاقون ويعقوبون، والمسلم لا عمل فيه. والأسباط: ولد يعقوب عليه السلام، وهم اثنا عشر ولدا، ولد لكل واحد منهم أمة من الناس، واحدهم سبط. والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل. وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون.
وقيل: أصله من السبط بالتحريك وهو الشجر، أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر، الواحدة سبطة. قال أبو إسحاق الزجاج: ويبين لك هذا ما حدثنا به محمد بن جعفر الأنباري قال حدثنا أبو نجيد الدقاق قال حدثنا الأسود بن عامر قال حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوحا وشعيبا وهودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولم يكن أحد له اسمان إلا عيسى ويعقوب. والسبط: الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد. وشعر سبط وسبط: غير جعد. {لا نفرق بين أحد منهم} قال الفراء: أي لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى.

يتبع ....


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 5:14 pm
المشاركة رقم: #23
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}
قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} الخطاب لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته. المعنى: فإن آمنوا مثل إيمانكم، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا، فالمماثلة وقعت بين الايمانين، وقيل: إن الباء زائدة مؤكدة. وكان ابن عباس يقرأ فيما حكى الطبري: {فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا} وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف، فـ {مثل} زائدة كما هي في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي ليس كهو شي.
وقال الشاعر:
فصيروا مثل كعصف مأكول ***
وروى بقية حدثنا شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس قال: لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فإن الله ليس له مثل، ولكن قولوا: بالذي آمنتم به. تابعه علي بن نصر الجهضيمي عن شعبة، ذكره البيهقي. والمعنى: أي فإن آمنوا بنبيكم وبعامة الأنبياء ولم يفرقوا بينهم كما لم تفرقوا فقد اهتدوا، وإن أبوا إلا التفريق فهم الناكبون عن الدين إلى الشقاق {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}.
وحكى عن جماعة من أهل النظر قالوا: ويحتمل أن تكون الكاف في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} زائدة. قال: والذي روي عن ابن عباس من نهيه عن القراءة العامة شيء ذهب إليه للمبالغة في نقي التشبيه عن الله عز وجل.
وقال ابن عطية: هذا من ابن عباس على جهة التفسير، أي هكذا فليتأول. وقد قيل: إن الباء بمعنى على، والمعنى: فإن آمنوا على مثل إيمانكم.
وقيل: {مثل} على بابها أي بمثل المنزل، دليله قوله: {وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ} وقوله: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ}.
قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا} أي عن الايمان {فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ} قال زيد بن أسلم: الشقاق المنازعة.
وقيل: الشقاق المجادلة والمخالفة والتعادي. وأصله من الشق وهو الجانب، فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه. قال الشاعر:
إلى كم تقتل العلماء قسرا *** وتفجر بالشقاق وبالنفاق
وقال آخر:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم *** بغاة ما بقينا في شقاق
وقيل: إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب، فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه.
قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} أي فسيكفي الله رسوله عدوه. فكان هذا وعدا من الله تعالى لنبيه عليه السلام أنه سيكفيه من عانده ومن خالفه من المتولين بمن يهديه من المؤمنين، فأنجز له الوعد، وكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء بني النضير. والكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان. ويجوز في غير القرآن: فسيكفيك إياهم. وهذا الحرف {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} هو الذي وقع عليه دم عثمان حين قتل بإخبار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه بذلك. و{السَّمِيعُ} لقول كل قائل: {الْعَلِيمُ} بما ينفذه في عباده ويجريه عليهم. وحكي أن أبا دلامة دخل على المنصور وعليه قلنسوة طويلة، ودراعة مكتوب بين كتفيها {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وسيف معلق في وسطه، وكان المنصور قد أمر الجند بهذا الزي، فقال له: كيف حالك يا أبا دلامة؟ قال: بشر يا أمير المؤمنين قال: وكيف ذاك؟ قال: ما ظنك برجل وجهه في وسطه، وسيفه في استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره! فضحك المنصور منه، وأمر بتغيير ذلك الزي من وقته.

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} قال الأخفش وغيره: دين الله، وهو بدل من {مِلَّةَ}.
وقال الكسائي: وهي منصوبة على تقدير اتبعوا. أو على الإغراء أي ألزموا. ولو قرئت بالرفع لجاز، أي هي صبغة الله.
وروى شيبان عن قتادة قال: إن اليهود تصبغ أبناءهم يهودا، وإن النصارى تصبغ أبناءهم نصارى، وإن صبغة الله الإسلام. قال الزجاج: ويدلك على هذا أن {صِبْغَةَ} بدل من {مِلَّةَ}.
وقال مجاهد: أي فطرة الله التي فطر الناس عليها. قال أبو إسحاق الزجاج: وقول مجاهد هذا يرجع إلى الإسلام، لأن الفطرة ابتداء الخلق، وابتداء ما خلقوا عليه الإسلام. وروي عن مجاهد والحسن وأبي العالية وقتادة: الصبغة الدين. واصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمونه المعمودية، ويقولون: هذا تطهير لهم.
وقال ابن عباس: هو أن النصارى كانوا إذا ولد لهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم يقال له ماء المعمودية، فصبغوه بذلك ليطهروه به مكان الختان، لأن الختان تطهير، فإذا فعلوا ذلك قالوا: ألان صار نصرانيا حقا، فرد الله تعالى ذلك عليهم بأن قال: {صِبْغَةَ اللَّهِ} أي صبغة الله أحسن صبغة وهي الإسلام، فسمي الدين صبغة استعارة ومجازا من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.
وقال بعض شعراء ملوك همدان:
وكل أناس لهم صبغة *** وصبغة همدان خير الصبغ
صبغنا على ذاك أبناءنا *** فأكرم بصبغتنا في الصبغ
وقيل: إن الصبغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام، بدلا من معمودية النصارى، ذكره الماوردي.
قلت: وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجبا تعبدا، وهى المسألة:
الثانية لأن معنى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} غسل الله، أي اغتسلوا عند إسلامكم الغسل الذي أوجبه الله عليكم وبهذا المعنى جاءت السنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن أثال حين أسلما. روى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن ثمامة الحنفي أسر فمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما فأسلم، فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل فاغتسل وصلي ركعتين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حسن إسلام صاحبكم». وخرج أيضا عن قيس بن عاصم أنه أسلم، فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يغتسل بماء وسدر. ذكره النسائي وصححه أبو محمد عبد الحق.
وقيل: إن القربة إلى الله تعالى يقال لها صبغة، حكاه ابن فارس في المجمل.
وقال الجوهري: {صِبْغَةَ اللَّهِ} دينه.
وقيل: إن الصبغة الختان، اختتن إبراهيم فجرت الصبغة على الختان لصبغهم الغلمان في الماء، قاله الفراء. {وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ} ابتداء وخبر.

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}
قال الحسن: كانت المحاجة أن قالوا: نحن أولى بالله منكم، لأنا أبناء الله وأحباؤه.
وقيل: لتقدم آبائنا وكتبنا، ولانا لم نعبد الأوثان. فمعنى الآية: قل لهم يا محمد، أي قل لهؤلاء اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وادعوا أنهم أولى بالله منكم لقدم آبائهم وكتبهم: {أَتُحَاجُّونَنا} أي أتجاذبوننا الحجة على دعواكم والرب واحد، وكل مجازى بعمله، فأي تأثير لقدم الدين. ومعنى: {فِي اللَّهِ} أي في دينه والقرب منه والحظوة له. وقراءة الجماعة: {أَتُحَاجُّونَنا}. وجاز اجتماع حرفين مثلين من جنس واحد متحركين، لأن الثاني كالمنفصل. وقرأ ابن محصين {أتحاجونا} بالإدغام لاجتماع المثلين. قال النحاس: وهذا جائز إلا أنه مخالف للسواد. ويجوز {أتحاجون} بحذف النون الثانية، كما قرأ نافع {فبم تبشرون} قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} أي مخلصون العبادة، وفيه معنى التوبيخ، أي ولم تخلصوا أنتم فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم!. والإخلاص حقيقته تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شي». رواه الضحاك بن قيس الفهري قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.... فذكره، خرجه الدارقطني.
وقال رويم: الإخلاص من العمل هو ألا يريد صاحبه عليه عوضا في الدارين ولا حظا من الملكين.
وقال الجنيد: الإخلاص سر بين العبد وبين الله، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله.
وذكر أبو القاسم القشيري وغيره عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «سألت جبريل عن الإخلاص ما هو فقال سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو قال سر من سري استودعته قلب من أحببته من عبادي».



{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)}
قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ} بمعنى قالوا. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص {تَقُولُونَ} بالتاء وهي قراءة حسنة، لأن الكلام متسق، كأن المعنى: أتحاجوننا في الله أم تقولون إن الأنبياء كانوا على دينكم، فهي أم المتصلة، وهي على قراءة من قرأ بالياء منقطعة، فيكون كلامين وتكون {أم} بمعنى بل. {هُوداً} خبر كان، وخبر {إن} في الجملة. ويجوز في غير القرآن رفع {هُوداً} على خبر {إن} وتكون كان ملغاة، ذكره النحاس.
قوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} تقرير وتوبيخ في ادعائهم بأنهم كانوا هودا أو نصارى. فرد الله عليهم بأنه أعلم بهم منكم، أي لم يكونوا هودا ولا نصارى.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} لفظه الاستفهام، والمعنى: لا أحد أظلم. {مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً} يريد علمهم بأن الأنبياء كانوا على الإسلام.
وقيل: ما كتموه من صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله قتادة، والأول أشبه بسياق الآية. {وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيد وإعلام بأنه لم يترك أمرهم سدى وأنه يجازيهم على أعمالهم. والغافل: الذي لا يفطن للأمور إهمالا منه، مأخوذ من الأرض الغفل وهي التي لا علم بها ولا أثر عمارة. وناقة غفل: لا سمة بها. ورجل غفل: لم يجرب الأمور.
وقال الكسائي: أرض غفل لم تمطر. غفلت عن الشيء غفلة وغفولا، وأغفلت الشيء: تركته على ذكر منك.

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)}
كررها لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى، فوجب التأكيد، فلذلك كررها.

{سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)}
فيه إحدى عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ} أعلم الله تعالى أنهم سيقولون في تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة، ما وَلَّاهُمْ. و{سَيَقُولُ} بمعنى قال، جعل المستقبل موضع الماضي، دلالة على استدامة ذلك وأنهم يستمرون على ذلك القول. وخص بقوله: {مِنَ النَّاسِ} لان السفه يكون في جمادات وحيوانات. والمراد من {السُّفَهاءُ} جميع من قال: {ما وَلَّاهُمْ}. والسفهاء جمع، واحده سفيه، وهو الخفيف العقل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقد تقدم. والنساء سقائه.
وقال المؤرج: السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم. قطرب: الظلوم الجهول، والمراد بالسفهاء هنا اليهود الذين بالمدينة، قاله مجاهد. السدي: المنافقون. الزجاج: كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا: قد اشتاق محمد إلى مولده وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقالت اليهود: قد التبس عليه أمره وتحير.
وقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم! واستهزءوا بالمسلمين. و{وَلَّاهُمْ} يعني عدلهم وصرفهم.
الثانية: روى الأئمة واللفظ لمالك عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وخرج البخاري عن البراء أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلاها العصر وصلي معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ}، ففي هذه الرواية صلاة العصر، وفي رواية مالك صلاة الصبح.
وقيل: نزل ذلك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجد بني سلمة وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين.
وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الصلاة.
وذكر أبو عمر في التمهيد عن نويلة بنت أسلم وكانت من المبايعات، قالت: كنا في صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظي فقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استقبل القبلة- أو قال: البيت الحرام- فتحول الرجال مكان النساء، وتحول النساء مكان الرجال.
وقيل: إن الآية نزلت في غير صلاة، وهو الأكثر. وكان أول صلاة إلى الكعبة العصر، والله أعلم.
وروى أن أول من صلى إلى الكعبة حين صرفت القبلة عن بيت المقدس أبو سعيد بن المعلى، وذلك أنه كان مجتازا على المسجد فسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب الناس بتحويل القبلة على المنبر وهو يقرأ هذه الآية: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ} حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنكون أول من صلى فتوارينا نعما فصليناهما، ثم نزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى بالناس الظهر يومئذ. قال أبو عمر: ليس لابي سعيد بن المعلى غير هذا الحديث، وحديث: «كنت أصلى» في فضل الفاتحة، خرجه البخاري، وقد تقدم.
الثالثة: واختلف في وقت تحويل القبلة بعد قدومه المدينة، فقيل: حولت بعد ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، كما في البخاري. وخرجه الدارقطني عن البراء أيضا، قال: صلينا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم الله هوى نبيه فنزلت: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ} الآية. ففي هذه الرواية ستة عشر شهرا من غير شك.
وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن تحويلها كان قبل غزوة بدر بشهرين. قال إبراهيم بن إسحاق: وذلك في رجب من سنة اثنتين.
وقال أبو حاتم البستي: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء، وذلك أن قدومه المدينة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة الثلاثاء للنصف من شعبان.
الرابعة: واختلف العلماء أيضا في كيفية استقباله بيت المقدس على ثلاثة أقوال، فقال الحسن: كان ذلك منه عن رأي واجتهاد، وقاله عكرمة وأبو العالية.
الثاني- أنه كان مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختار القدس طمعا في إيمان اليهود واستمالتهم، قاله الطبري.
وقال الزجاج: امتحانا للمشركين لأنهم ألفوا الكعبة.
الثالث- وهو الذي عليه الجمهور: ابن عباس وغيره، وجب عليه استقباله بأمر الله تعالى ووحيه لا محالة، ثم نسخ الله ذلك وأمره الله أن يستقبل بصلاته الكعبة، واستدلوا بقوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ} الآية.
الخامسة: واختلفوا أيضا حين فرضت عليه الصلاة أولا بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين، فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهرا، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة، قاله ابن عباس.
وقال آخرون: أول ما افترضت الصلاة عليه إلى الكعبة، ولم يزل يصلي إليها طول مقامه بمكة على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل، فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، على الخلاف، ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال أبو عمر: وهذا أصح القولين عندي. قال غيره: وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة أراد أن يستألف اليهود فتوجه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدعى لهم، فلما تبين عنادهم وأيس منهم أحب أن يحول إلى الكعبة فكان ينظر إلى السماء، وكانت محبته إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم، عن ابن عباس.
وقيل: لأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام، وقيل: مخالفة لليهود، عن مجاهد. وروي عن أبي العالية الرياحي أنه قال: كانت مسجد صالح عليه السلام وقبلته إلى الكعبة، قال: وكان موسى عليه السلام يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة، وهي قبلة الأنبياء كلهم، صلوات الله عليهم أجمعين.
السادسة: في هذه الآية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخا ومنسوخا، وأجمعت عليه الامة إلا من شذ، كما تقدم. وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأنها نسخت مرتين، على أحد القولين المذكورين في المسألة قبل.
السابعة: ودلت أيضا على جواز نسخ السنة بالقرآن، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة ثم نسخ ذلك بالقرآن، وعلى هذا يكون: {كُنْتَ عَلَيْها} بمعنى أنت عليها.
الثامنة: وفيها دليل على جواز القطع بخبر الواحد، وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعا به من الشريعة عندهم، ثم أن أهل قباء لما أتاهم الأتي وأخبرهم أن القبلة قد حولت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله واستداروا نحو الكعبة، فتركوا المتواتر بخبر الواحد وهو مظنون. وقد اختلف العلماء في جوازه عقلا ووقوعه، فقال أبو حاتم: والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبد الشرع به، ووقوعا في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل قصة قباء، وبدليل أنه كان عليه السلام ينفذ آحاد الولاة إلى الاطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا. ولكن ذلك ممنوع بعد وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف. احتج من منع ذلك بأنه يفضي إلى المحال وهو رفع المقطوع بالمظنون. وأما قصة أهل قباء وولاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمحمول على قرائن إفادة العلم إما نقلا وتحقيقا، وإما احتمالا وتقديرا. وتتميم هذا سؤالا وجوابا في أصول الفقه.
التاسعة: وفيها دليل على أن من لم يبلغه الناسخ إنه متعبد بالحكم الأول، خلافا لمن قال: إن الحكم الأول يرتفع بوجود الناسخ لا بالعلم به، والأول أصح، لأن أهل قباء لم يزالوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الأتي فأخبرهم بالناسخ فمالوا نحو الكعبة. فالناسخ إذا حصل في الوجود فهو رافع لا محالة لكن بشرط العلم به، لأن الناسخ خطاب، ولا يكون خطابا في حق من لم يبلغه. وفائدة هذا الخلاف في عبادات فعلت بعد النسخ وقبل البلاغ هل تعاد أم لا، وعليه تنبي مسألة الوكيل في تصرفه بعد عزل موكله أو موته وقبل علمه بذلك على قولين. وكذلك المقارض، والحاكم إذا مات من ولاه أو عزل. والصحيح أن ما فعله كل واحد من هؤلاء ينفذ فعله ولا يرد حكمه. قال القاضي عياض: ولم يختلف المذهب في أحكام من أعتق ولم يعلم بعتقه أنها أحكام حر فيما بينه وبين الناس، وأما بينه وبين الله تعالى فجائزة. ولم يختلفوا في المعتقة أنها لا تعيد ما صلت بعد عتقها وقبل علمها بغير ستر، وإنما اختلفوا فيمن يطرأ عليه موجب بغير حكم عبادته وهو فيها، قياسا على مسألة قباء، فمن صلى على حال ثم تغيرت به حاله تلك قبل أن يتم صلاته إنه يتمها ولا يقطعها ويجزيه ما مضى. وكذلك كمن صلى عريانا ثم وجد ثوبا في الصلاة، أو ابتدأ صلاته صحيحا فمرض، أو مريضا فصح، أو قاعدا ثم قدر على القيام، أو أمة عتقت وهي في الصلاة إنها تأخذ قناعها وتبني.
قلت: وكمن دخل في الصلاة بالتيمم فطرأ عليه الماء إنه لا يقطع، كما يقوله مالك والشافعي- رحمهما الله- وغيرهما.
وقيل: يقطع، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وسيأتي.
العاشرة: وفيها دليل على قبول خبر الواحد، وهو مجمع عليه من السلف معلوم بالتواتر من عادة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في توجيهه ولأنه ورسله آحادا للافاق، ليعلموا الناس دينهم فيبلغوهم سنة رسولهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأوامر والنواهي.
الحادية عشرة: وفيها دليل على أن القرآن كان ينزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا بعد شيء وفي حال بعد حال، على حسب الحاجة إليه، حتى أكمل الله دينه، كما قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أقامه حجة، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما، فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، وقد تقدم.
قوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الامة إلى قبلة إبراهيم، والله تعالى أعلم. والصراط. الطريق. والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه، وقد تقدم.

يتبع...........


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 5:15 pm
المشاركة رقم: #24
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا، أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم. والوسط: العدل، واصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها.
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال: «عدلا». قال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي التنزيل: {قالَ أَوْسَطُهُمْ} أي أعدلهم وخيرهم.
وقال زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم *** إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
آخر:
أنتم أوسط حي علموا *** بصغير الامر أو إحدى الكبر
وقال آخر:
لا تذهبن في الأمور فرطا *** لا تسألن إن سألت شططا
وكن من الناس جميعا وسطا ***
ووسط الوادي: خير موضع فيه وأكثره كلا وماء. ولما كان الوسط مجانبا للغلق والتقصير كان محمودا، أي هذه الامة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم.
وفي الحديث: «خير الأمور أوسطها». وفيه عن علي رضي الله عنه: عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل. وفلان من أوسط قومه، وإنه لواسطة قومه، ووسط قومه، أي من خيارهم وأهل الحسب منهم. وقد وسط وساطة وسطة، وليس من الوسط الذي بين شيئين في شي. والوسط بسكون السين الظرف، تقول: صليت وسط القوم. وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم. قال الجوهري: وكل موضع صلح فيه بين فهو وسط، وإن لم يصلح فيه بين فهو وسط بالتحريك، وربما يسكن وليس بالوجه.
الثانية: قوله تعالى: {لِتَكُونُوا} نصب بلام كي، أي لان تكونوا. {شُهَداءَ} خبر كان. {عَلَى النَّاسِ} أي في المحشر للأنبياء على أممهم، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يدعي نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لامته هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا فذلك قوله عز وجل: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً...}». وذكر هذا الحديث مطولا ابن المبارك بمعناه، وفيه: «فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب سبحانه كيف تشهدون على من لم تدركوا فيقولون ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك وقصصت علينا أنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب صدقوا فذلك قوله عز وجل: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}- والوسط العدل- لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا». قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد عليه السلام، إلا من كان في قلبه جنة على أخيه. وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال حين مرت به جنازة فأثنى عليها خير فقال: «وجبت وجبت وجبت». ثم مر عليه بأخرى فأثنى عليها شر فقال: «وجبت وجبت وجبت». فقال عمر: فدى لك أبي وأمي، مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت: «وجبت وجبت وجبت» ومر بجنازة فأثني عليها شر فقلت: «وجبت وجبت وجبت؟» فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض». أخرجه البخاري بمعناه.
وفي بعض طرقه في غير الصحيحين وتلا: {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}.
وروى أبان وليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبيا قال له ادعني أستجب لك وقال لهذه الامة ادعوني أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الامة وما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الامة شهداء على الناس». خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول.
الثالثة: قال علماؤنا: أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم العدالة وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولا مكانا وإن كنا آخرا زمانا، كما قال عليه السلام: «نحن الآخرون الأولون». وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا. وسيأتي بيان العدالة وحكمها في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
الرابعة: وفيه دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به، لأنهم إذا كانوا عدولا شهدوا على الناس. فكل عصر شهيد على من بعده، فقول الصحابة حجة وشاهد على التابعين، وقول التابعين على من بعدهم. وإذ جعلت الامة شهداء فقد وجب قبول قولهم. ولا معنى لقول من قال: أريد به جميع الامة، لأنه حينئذ لا يثبت مجمع عليه إلى قيام الساعة. وبيان هذا في كتب أصول الفقه.
قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} قيل: معناه بأعمالكم يوم القيامة.
وقيل: {عَلَيْكُمْ} بمعنى لكم، أي يشهد لكم بالايمان.
وقيل: أي يشهد عليكم بالتبليغ لكم.
قوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها} قيل: المراد بالقبلة هنا القبلة الأولى، لقوله: {كُنْتَ عَلَيْها}.
وقيل: الثانية، فتكون الكاف زائدة، أي أنت ألان عليها، كما تقدم، وكما قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي أنتم، في قول بعضهم، وسيأتي.
قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: معنى: {لِنَعْلَمَ} لنرى. والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} بمعنى ألم تعلم.
وقيل: المعنى إلا لتعلموا أننا نعلم، فإن المنافقين كانوا في شك من علم الله تعالى بالأشياء قبل كونها.
وقيل: المعنى لنميز أهل اليقين من أهل الشك، حكاه ابن فورك، وذكره الطبري عن ابن عباس.
وقيل: المعنى إلا ليعلم النبي وأتباعه، وأخبر تعالى بذلك عن نفسه، كما يقال: فعل الأمير كذا، وإنما فعله أتباعه، ذكره المهدوي وهو جيد.
وقيل: معناه ليعلم محمد، فأضاف علمه إلى نفسه تعالى تخصيصا وتفضيلا، كما كنى عن نفسه سبحانه في قوله: «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني» الحديث. والأول أظهر، وأن معناه علم المعاينة الذي يوجب الجزاء، وهو سبحانه عالم الغيب والشهادة، علم ما يكون قبل أن يكون، تختلف الأحوال على المعلومات وعلمه لا يختلف بل يتعلق بالكل تعلقا واحدا. وهكذا كل ما ورد في الكتاب من هذا المعنى من قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ}، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} وما أشبه. والآية جواب لقريش في قولهم: {ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها} وكانت قريش تألف الكعبة، فأراد الله عز وجل أن يمتحنهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه. وقرأ الزهري {إلا ليعلم} فـ {من} في موضع رفع على هذه القراءة، لأنها اسم ما لم يسم فاعله. وعلى قراءة الجماعة في موضع نصب على المفعول. {يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} يعني فيما أمر به من استقبال الكعبة. {مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ} يعني ممن يرتد عن دينه، لأن القبلة لما حولت ارتد من المسلمين قوم ونافق قوم. ولهذا قال: {وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً} أي تحويلها، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والتقدير في العربية: وإن كانت التحويلة.
قوله تعالى: {وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً} ذهب الفراء إلى أن {إن} واللام بمعنى ما وإلا، والبصريون يقولون: هي إن الثقيلة خففت.
وقال الأخفش: أي وإن كانت القبلة أو التحويلة أو التولية لكبيرة. {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي خلق الهدى الذي هو الايمان في قلوبهم، كما قال تعالى: {أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ}.
قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، كما ثبت في البخاري من حديث البراء بن عازب، على ما تقدم. وخرج الترمذي عن ابن عباس قال: لما وجه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} الآية، قال: هذا حديث حسن صحيح. فسمى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نية وقول وعمل.
وقال مالك: إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الايمان.
وقال محمد بن إسحاق: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} أي بالتوجه إلى القبلة وتصديقكم لنبيكم، وعلى هذا معظم المسلمين والأصوليين.
وروى ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب عن مالك {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} قال: صلاتكم.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} الرأفة أشد من الرحمة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: الرأفة أكثر من الرحمة، والمعنى متقارب. وقد أتينا على لغته وأشعاره ومعانيه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى فلينظر هناك. وقرأ الكوفيون وأبو عمرو {لرؤف} على وزن فعل، وهي لغة بني أسد، ومنه قول الوليد بن عقبة:
وشر الطالبين فلا تكنه *** يقاتل عمه الرءوف الرحيم
وحكى الكسائي أن لغة بني أسد {لرأف}، على فعل. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع {لرؤف} مثقلا بغير همز، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله تعالى، ساكنة كانت أو متحركة.

{قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}
قال العلماء: هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ}. ومعنى: {تَقَلُّبَ وَجْهِكَ}: تحول وجهك إلى السماء، قاله الطبري. الزجاج: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى متقارب. وخص السماء بالذكر إذ هي مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ويعود منها كالمطر والرحمة والوحي. ومعنى: {تَرْضاها} تحبها. قال السدي: كان إذا صلى نحو بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر به، وكان يحب أن يصلي إلى قبل الكعبة فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ}.
وروى أبو إسحاق عن البراء قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ}. وقد تقدم هذا المعنى والقول فيه، والحمد لله.
قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَوَلِّ} أمر {وَجْهَكَ شَطْرَ} أي ناحية {الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} يعني الكعبة، ولا خلاف في هذا. قيل: حيال البيت كله، عن ابن عباس.
وقال ابن عمر: حيال الميزاب من الكعبة، قاله ابن عطية. والميزاب: هو قبلة المدينة وأهل الشام، وهناك قبلة أهل الأندلس.
قلت: قد روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي».
الثانية: قوله تعالى: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} الشطر له محامل: يكون الناحية والجهة، كما في هذه الآية، وهو ظرف مكان، كما تقول: تلقاءه وجهته. وانتصب الظرف لأنه فضلة بمنزلة المفعول به، وأيضا فإن الفعل واقع فيه.
وقال داود بن أبي هند: إن في حرف ابن مسعود {فول وجهك تلقاء المسجد الحرام}.
وقال الشاعر:
أقول لأمّ زنباع أقيمي *** صدور العيس شطر بني تميم
وقال آخر:
وقد أظلكم من شطر ثغركم *** هول له ظلم يغشاكم قطعا
وقال آخر:
ألا من مبلغ عمرا رسولا *** وما تغني الرسالة شطر عمرو
وشطر الشيء: نصفه، ومنه الحديث: «الطهور شطر الايمان». ويكون من الأضداد، يقال: شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر عن كذا إذا أبعد منه وأعرض عنه. فأما الشاطر من الرجال فلانه قد أخذ في نحو غير الاستواء، وهو الذي أعيا أهله خبثا، وقد شطر وشطر بالضم شطارة فيهما. وسيل بعضهم عن الشاطر، فقال: هو من أخذ في البعد عما نهى الله عنه.
الثالثة: لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أفق، وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه استقبالها، وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلا صلاة له، وعليه إعادة كل ما صلى ذكره أبو عمر. وأجمعوا على أن كل من غاب عنها أن يستقبل ناحيتها وشطرها وتلقاءها، فإن خفيت عليه فعليه أن يستدل على ذلك بكل ما يمكنه من النجوم والرياح والجبال وغير ذلك مما يمكن أن يستدل به على ناحيتها. ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة وينظر إليها إيمانا واحتسابا، فإنه يروى أن النظر إلى الكعبة عبادة، قاله عطاء ومجاهد.
الرابعة: واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين أو الجهة، فمنهم من قال بالأول. قال ابن العربي: وهو ضعيف، لأنه تكليف لما لا يصل إليه. ومنهم من قال بالجهة، وهو الصحيح لثلاثة أوجه: الأول- أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف.
الثاني- أنه المأمور به في القرآن، لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ} يعني من الأرض من شرق أو غرب {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}.
الثالث- أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت.
الخامسة: في هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه في أن المصلي حكمه أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده.
وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي والحسن بن حي. يستحب أن يكون نظره إلى موضع سجوده.
وقال شريك القاضي: ينظر في القيام إلى موضع السجود، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى حجره. قال ابن العربي: إنما ينظر أمامه فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترض عليه في الرأس وهو أشرف الأعضاء، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك مشقة عظيمة وحرج. وما جعل علينا في الدين من حرج، أما إن ذلك أفضل لمن قدر عليه.
قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} يريد اليهود والنصارى {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} يعني تحويل القبلة من بيت المقدس. فإن قيل: كيف يعلمون ذلك وليس من دينهم ولا في كتابهم؟ قيل عنه جوابان: أحدهما- أنهم لما علموا من كتابهم أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي علموا أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا به.
الثاني- أنهم علموا من دينهم جواز النسخ وإن جحده بعضهم، فصاروا عالمين بجواز القبلة.
قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} تقدم معناه. وقراء ابن عامر وحمزة والكسائي {تعملون} بالتاء على مخاطبة أهل الكتاب أو أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعلى الوجهين فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد ولا يغفل عنها، ضمنه الوعيد. وقرأ الباقون بالياء من تحت.

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} لأنهم كفروا وقد تبين لهم الحق، وليس تنفعهم الآيات، أي العلامات. وجمع قبلة في التكسير: قبل.
وفي التسليم: قبلات. ويجوز أن تبدل من الكسرة فتحة، فتقول قبلات. ويجوز أن تحذف الكسرة وتسكن الباء فتقول قبلات. وأجيبت لئن بجواب لو وهي ضدها في أن لو تطلب في جوابها المضي والوقوع، ولئن تطلب الاستقبال، فقال الفراء والأخفش: أجيبت بجواب لو لان المعنى: ولو أتيت. وكذلك تجاب لو بجواب لئن، تقول: لو أحسنت أحسن إليك، ومثله قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} أي ولو أرسلنا ريحا. وخالفهما سيبويه فقال: إن معنى لئن مخالف لمعنى لو فلا يدخل واحد منهما على الأخر، فالمعنى: ولين أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك. قال سيبويه: ومعنى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} ليظلن.
قوله تعالى: {وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} لفظ خبر ويتضمن الامر، أي فلا تركن إلى شيء من ذلك. ثم أخبر تعالى أن اليهود ليست متبعة قبلة النصارى ولا النصارى متبعة قبلة اليهود، عن السدي وابن زيد. فهذا إعلام باختلافهم وتدابرهم وضلالهم.
وقال قوم: المعنى وما من اتبعك ممن أسلم منهم بمتبع قبلة من لم يسلم، ولا من لم يسلم قبلة من أسلم. والأول أظهر، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد أمته ممن يجوز أن يتبع هواه فيصير باتباعه ظالما، وليس يجوز أن يفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يكون به ظالما، فهو محمول على إرادة أمته لعصمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقطعنا أن ذلك لا يكون منه، وخوطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعظيما للأمر ولأنه المنزل عليه. والاهواء: جمع هوى، وقد تقدم، وكذا {مِنَ الْعِلْمِ} تقدم أيضا، فلا معنى للإعادة.


{الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ} {الَّذِينَ} في موضع رفع بالابتداء والخبر {يَعْرِفُونَهُ}. ويصح أن يكون في موضع خفض على الصفة ل {لظالمين}، و{يعرفون} في موضع الحال، أي يعرفون نبوته وصدق رسالته، والضمير عائد على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما.
وقيل: {يعرفون} تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة أنه حق، قاله ابن عباس وابن جريج والربيع وقتادة أيضا.
وخص الأبناء في المعرفة بالذكر دون الأنفس وإن كانت ألصق لان الإنسان يمر عليه من زمنه برهة لا يعرف فيها نفسه، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه. وروي أن عمر قال لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما تعرف ابنك؟ فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه.
قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله مجاهد وقتادة وخصيف.
وقيل: استقبال الكعبة، على ما ذكرنا آنفا.
قوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ظاهر في صحة الكفر عنادا، ومثله: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ} وقوله: {فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}.

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}
قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} يعني استقبال الكعبة، لا ما أخبرك به اليهود من قبلتهم. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قرأ {الحق} منصوبا ب {يَعْلَمُونَ} أي يعلمون الحق. ويصح نصبه على تقدير الزم الحق. والرفع على الابتداء أو على إضمار مبتدأ، والتقدير هو الحق، أو على إضمار فعل، أي جاءك الحق. قال النحاس: فأما الذي في الأنبياء {الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} فلا نعلم أحدا قرأه إلا منصوبا، والفرق بينهما أن الذي في سورة البقرة مبتدأ آية، والذي في الأنبياء ليس كذلك.
قوله تعالى: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي من الشاكين. والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته. يقال: امتري فلان في كذا إذا اعترضه اليقين مرة والشك أخرى فدافع إحداهما بالأخرى، ومنه المراء لان كل واحد منهما يشك في قول صاحبه. والامتراء في الشيء الشك فيه، وكذا التماري. وأنشد الطبري شاهدا على أن الممترين الشاكون قول الأعشى:
تدر على أسوق الممترين *** من ركضا إذا ما السراب ارجحن
قال ابن عطية: ووهم في هذا، لأن أبا عبيدة وغيره قال: الممترون في البيت هم الذين يمرون الخيل بأرجلهم همزا لتجري كأنهم يحتلبون الجري منها، وليس في البيت معنى الشك كما قال الطبري.
قلت: معنى الشك فيه موجود، لأنه يحتمل أن يختبر الفرس صاحبه هل هو على ما عهد من الجري أم لا، لئلا يكون أصابه شي، أو يكون هذا عند أول شرائه فيجريه ليعلم مقدار جريه. قال الجوهري: ومريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري بسوط أو غيره. والاسم المرية بالكسر وقد تضم. ومريت الناقة مريا: إذا مسحت ضرعها لتدر. وأمرت هي إذا در لبنها، والاسم المرية بالكسر، والضم غلط. والمرية: الشك، وقد تضم، وقرئ بهما.

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لِكُلٍّ وِجْهَةٌ} الوجهة وزنها فعلة من المواجهة. والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد، والمراد القبلة، أي إنهم لا يتبعون قبلتك وأنت لا تتبع قبلتهم، ولكل وجهة إما بحق وإما بهوى.
الثانية: قوله تعالى: {هُوَ مُوَلِّيها} {هو} عائد على لفظ كل لا على معناه، لأنه لو كان على المعنى لقال: هم مولوها وجوههم، فالهاء والألف مفعول أول والمفعول الثاني محذوف، أي هو موليها وجهه ونفسه. والمعنى: ولكل صاحب ملة قبلة، صاحب القبلة موليها وجهه، على لفظ كل، وهو قول الربيع وعطاء وابن عباس.
وقال علي بن سليمان: {وَلِّيها} أي متوليها. وقرأ ابن عباس وابن عامر {مولاها} على ما لم يسم فاعله. والضمير على هذه القراءة لواحد، أي ولكل واحد من الناس قبلة، الواحد مولاها أي مصروف إليها، قاله الزجاج. ويحتمل أن يكون على قراءة الجماعة {هو} ضمير اسم الله عز وجل وإن لم يجر له ذكر، إذ معلوم أن الله عز وجل فاعل ذلك، والمعنى: لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه.
وحكى الطبري: أن قوما قرءوا {ولكل وجهة} بإضافة كل إلى وجهة. قال ابن عطية: وخطأها الطبري، وهي متجهة، أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع. وقدم قوله: {لِكُلٍّ وِجْهَةٌ} على الامر في قوله: {اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ} للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول، وذكر أبو عمرو الداني هذه القراءة عن ابن عباس رضي الله عنهما. وسلمت الواو في: {وجْهَةٌ} للفرق بين عدة وزنة، لأن جهة ظرف، وتلك مصادر.
وقال أبو علي: ذهب قوم إلى أنه مصدر شذ عن القياس فسلم. وذهب قوم إلى أنه اسم وليس بمصدر.
وقال غير أبي علي: وإذا أردت المصدر قلت جهة، وقد يقال الجهة في الظرف.
الثالثة: قوله تعالى: {اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ} أي إلى الخيرات، فحذف الحرف، أي بادروا ما أمركم الله عز وجل من استقبال البيت الحرام، وإن كان يتضمن الحث على المبادرة والاستعجال إلى جميع الطاعات بالعموم، فالمراد ما ذكر من الاستقبال لسياق الآي. والمعنى المراد المبادرة بالصلاة أول وقتها، والله تعالى أعلم. روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنما مثل المهجر إلى الصلاة كمثل الذي يهدي البدنة ثم الذي على أثره كالذي يهدي البقرة ثم الذي على أثره كالذي يهدي الكبش ثم الذي على أثره كالذي يهدي الدجاجة ثم الذي على أثره كالذي يهدي البيضة».
وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أحدكم ليصلي الصلاة لوقتها وقد ترك من الوقت الأول ما هو خير له من أهله وماله». وأخرجه مالك عن يحيى بن سعيد قوله.
وروى الدارقطني أيضا عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير الأعمال الصلاة في أول وقتها».
وفي حديث ابن مسعود: «أول وقتها» بإسقاط في. وروي أيضا عن إبراهيم بن عبد الملك عن أبي محذورة عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أول الوقت رضوان الله ووسط الوقت رحمة الله وآخر الوقت عفو الله». زاد ابن العربي: فقال أبو بكر: رضوان الله أحب إلينا من عفوه، فإن رضوانه عن المحسنين وعفوه عن المقصرين، وهذا اختيار الشافعي.
وقال أبو حنيفة: آخر الوقت أفضل، لأنه وقت الوجوب. وأما مالك ففصل القول، فأما الصبح والمغرب فأول الوقت فيهما أفضل، أما الصبح فلحديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس- في رواية: متلففات.
وأما المغرب فلحديث سلمة بن الأكوع أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب، أخرجهما مسلم. وأما العشاء فتأخيرها أفضل لمن قدر عليه. روى ابن عمر قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك، فقال حين خرج: «إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة».
وفي البخاري عن أنس قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى...، وذكر الحديث.
وقال أبو برزة: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحب تأخيرها. وأما الظهر فإنها تأتي الناس على غفلة فيستحب تأخيرها قليلا حتى يتأهبوا ويجتمعوا. قال أبو الفرج قال مالك: أول الوقت أفضل في كل صلاة إلا للظهر في شدة الحر.
وقال ابن أبي أويس: وكان مالك يكره أن يصلي الظهر عند الزوال ولكن بعد ذلك، ويقول: تلك صلاة الخوارج.
وفي صحيح البخاري وصحيح الترمذي عن أبي ذر الغفاري قال: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أبرد» ثم أراد أن يؤذن فقال له: «أبرد» حتى رأينا في التلول، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة».
وفي صحيح مسلم عن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس. والذي يجمع بين الحديثين ما رواه أنس أنه إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل.
قال أبو عيسى الترمذي: وقد اختار قوم من أهل العلم تأخير صلاة الظهر في شدة الحر، وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق. قال الشافعي: إنما الإبراد بصلاة الظهر إذا كان مسجدا ينتاب أهله من البعد، فأما المصلي وحده والذي يصلي في مسجد قومه فالذي أحب له ألا يؤخر الصلاة في شدة الحر. قال أبو عيسى: ومعنى من ذهب إلى تأخير الظهر في شدة الحر هو أولى وأشبه بالاتباع، وأما ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله أن الرخصة لمن ينتاب من البعد وللمشقة على الناس، فإن في حديث أبي ذر رضي الله عنه ما يدل على خلاف ما قال الشافعي. قال أبو ذر: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فأذن بلال بصلاة الظهر، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا بلال أبرد ثم أبرد». فلو كان الامر على ما ذهب إليه الشافعي لم يكن للابراد في ذلك الوقت معنى، لاجتماعهم في السفر وكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا من البعد. وأما العصر فتقديمها أفضل. ولا خلاف في مذهبنا أن تأخير الصلاة رجاء الجماعة أفضل من تقديمها، فإن فضل الجماعة معلوم، وفضل أول الوقت مجهول وتحصيل المعلوم أولى، قاله ابن العربي.
الرابعة: قوله تعالى: {أَيْنَما تَكُونُوا} شرط، وجوابه: {يأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} يعني يوم القيامة. ثم وصف نفسه تعالى بالقدرة على كل شيء لتناسب الصفة مع ما ذكر من الإعادة بعد الموت والبلى.

يتبع ...


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






تفسير السورة   (البقرة) I_icon_minitimeالإثنين يناير 09, 2012 5:17 pm
المشاركة رقم: #25
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مؤسس المنتدى
الرتبه:
مؤسس المنتدى
الصورة الرمزية

وليدالرمحى


البيانات
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5756
تاريخ التسجيل : 05/07/2011
الموقع : https://alseham.yoo7.com

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://alseham.yoo7.com


مُساهمةموضوع: رد: تفسير السورة (البقرة)



تفسير السورة (البقرة)



{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}
قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} قيل: هذا تأكيد للأمر باستقبال الكعبة واهتمام بها، لأن موقع التحويل كان صعبا في نفوسهم جدا، فأكد الامر ليرى الناس الاهتمام به فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه.
وقيل: أراد بالأول: ول وجهك شطر الكعبة، أي عاينها إذا صليت تلقاءها. ثم قال: {وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ} معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. ثم قال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} يعني وجوب الاستقبال في الاسفار، فكان هذا أمرا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواضع من نواحي الأرض.
قلت: هذا القول أحسن من الأول، لأن فيه حمل كل آية على فائدة. وقد روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان في سفر فأراد أن يصلي على راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به. أخرجه أبو داود أيضا، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور. وذهب مالك إلى أنه لا يلزمه الاستقبال، لحديث ابن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته. قال: وفيه نزل {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقد تقدم.
قلت: ولا تعارض بين الحديثين، لأن هذا من باب المطلق والمقيد، فقول الشافعي أولى، وحديث أنس في ذلك حديث صحيح. ويروى أن جعفر بن محمد سئل ما معنى تكرير القصص في القرآن؟ فقال: علم الله أن كل الناس لا يحفظ القرآن، فلو لم تكن القصة مكررة لجاز أن تكون عند بعض الناس ولا تكون عند بعض، فكررت لتكون عند من حفظ البعض.
قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قال مجاهد: هم مشركو العرب. وحجتهم قولهم: راجعت قبلتنا، وقد أجيبوا عن هذا بقوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}.
وقيل: معنى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} لئلا يقولوا لكم: قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها، فلما قال عز وجل: {وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} زال هذا.
وقال أبو عبيدة: إن إلا هاهنا بمعنى الواو، أي والذين ظلموا، فهو استثناء بمعنى الواو، ومنه قول الشاعر:
ما بالمدينة دار غير واحدة *** دار الخليفة إلا دار مروانا
كأنه قال: إلا دار الخليفة ودار مروان، وكذا قيل في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي الذين آمنوا. وأبطل الزجاج هذا القول وقال: هذا خطأ عند الحذاق من النحويين، وفيه بطلان المعاني، وتكون إلا وما بعدها مستغني عن ذكرهما. والقول عندهم أن هذا استثناء ليس من الأول، أي لكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجون. قال أبو إسحاق الزجاج: أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله: {لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها} {ولِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: مالك على حجة إلا الظلم أو إلا أن تظلمني، أي مالك حجة البتة ولكنك تظلمني، فسمى ظلمه حجة لان المحتج به سماه حجة وإن كانت داحضة.
وقال قطرب: يجوز أن يكون المعنى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا، فالذين بدل من الكاف والميم في: {عَلَيْكُمْ}. وقالت فرقة: {إِلَّا الَّذِينَ} استثناء متصل، روي معناه عن ابن عباس وغيره، واختاره الطبري وقال: نفى الله أن يكون لاحد حجة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في استقبالهم الكعبة. والمعنى: لا حجة لاحد عليكم إلا الحجة الداحضة. حيث قالوا: ما ولاهم، وتحير محمد في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو يهودي أو منافق. والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة. وسماها الله حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظلمة.
وقال ابن عطية: وقيل إن الاستثناء منقطع، وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود، ثم استثنى كفار العرب، كأنه قال: لكن الذين ظلموا يحاجونكم، وقوله: {مِنْهُمْ} يرد هذا التأويل. والمعنى لكن الذين ظلموا، يعني كفار قريش في قولهم: رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله. ويدخل في ذلك كل من تكلم في النازلة من غير اليهود. وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد {ألا الذين ظلموا} بفتح الهمزة وتخفيف اللام على معنى استفتاح الكلام، فيكون {الَّذِينَ ظَلَمُوا} ابتداء، أو على معنى الإغراء، فيكون {الذين} منصوبا بفعل مقدر.
قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ} يريد الناس {وَاخْشَوْنِي} الخشية أصلها طمأنينة في القلب تبعث على التوقي. والخوف: فزع القلب تخف له الأعضاء، ولخفة الأعضاء به سمي خوفا. ومعنى الآية التحقير لكل من سوى الله تعالى، والامر باطراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} معطوف على {لِئَلَّا يَكُونَ} أي ولان أتم، قاله الأخفش.
وقيل: مقطوع في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، التقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي، قاله الزجاج. وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة، وقيل: دخول الجنة. قال سعيد بن جبير: ولم تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة. و{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} تقدم.

{كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}
قوله تعالى: {كَما أَرْسَلْنا} الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف، المعنى: ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثل ما أرسلنا، قاله الفراء. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال، أي ولأتم نعمتي عليكم في بيان سنة إبراهيم عليه السلام مثل ما أرسلنا.
وقيل: المعنى ولعلكم تهتدون اهتداء مثل ما أرسلنا.
وقيل: هي في موضع نصب على الحال، والمعنى: ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال. والتشبيه واقع على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة، وأن الذكر المأمور به في عظمه كعظم النعمة.
وقيل: معنى الكلام على التقديم والتأخير، أي فاذكروني كما أرسلنا روي عن علي رضي الله عنه واختاره الزجاج. أي كما أرسلنا فيكم رسولا تعرفونه بالصدق فاذكروني بالتوحيد والتصديق به. والوقف على {تَهْتَدُونَ} على هذا القول جائز.
قلت: وهذا اختيار الترمذي الحكيم في كتابه، أي كما فعلت بكم هذا من المنن التي عددتها عليكم فاذكروني بالشكر أذكركم بالمزيد، لأن في ذكركم ذلك شكرا لي، وقد وعدتكم بالمزيد على الشكر، وهو قوله: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، فالكاف في قوله: {كَما} هنا، وفي الأنفال {كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} وفي آخر الحجر {كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} متعلقة بما بعده، على ما يأتي بيانه.

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}
قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} أمر وجوابه، وفيه معنى المجازاة فلذلك جزم. واصل الذكر التنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له. وسمي الذكر باللسان ذكرا لأنه دلالة على الذكر القلبي، غير أنه لما كثر إطلاق الذكر على القول اللساني صار هو السابق للفهم. ومعنى الآية: اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة، قاله سعيد بن جبير.
وقال أيضا: الذكر طاعة الله، فمن لم يطعه لم يذكره وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن، وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أطاع الله فقد ذكر الله وإن أقل صلاته وصومه وصنيعه للخير ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثر صلاته وصومه وصنيعه للخير»، ذكره أبو عبد الله محمد بن خويز منداد في أحكام القرآن له.
وقال أبو عثمان النهدي: إني لأعلم الساعة التي يذكرنا الله فيها، قيل له: ومن أين تعلمها؟ قال يقول الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}.
وقال السدي: ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله عز وجل، لا يذكره مؤمن إلا ذكره الله برحمته، ولا يذكره كافر إلا ذكره الله بعذاب. وسيل أبو عثمان فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة؟ فقال: احمدوا الله تعالى على أن زين جارحة من جواركم بطاعته.
وقال ذو النون المصري رحمه الله: من ذكر الله تعالى ذكرا على الحقيقة نسي في جنب ذكرهو كل شي، وحفظ الله عليه كل شي، وكان له عوضا من كل شي.
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله. والأحاديث في فضل الذكر وثوابه كثيرة خرجها الأئمة. روى ابن ماجه عن عبد الله بن بسر أن أعرابيا قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به، قال: «لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل». وخرج عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله عز وجل يقول أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه». وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان عند قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} وأن المراد ذكر القلب الذي يجب استدامته في عموم الحالات.
قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} قال الفراء يقال: شكرتك وشكرت لك، ونصحتك ونصحت لك، والفصيح الأول. والشكر معرفة الإحسان والتحدث به، وأصله في اللغة الظهور، وقد تقدم. فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه، وشكر الحق سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له، إلا أن شكر العبد نطق باللسان وإقرار بالقلب بإنعام الرب مع الطاعات.
قوله تعالى: {وَلا تَكْفُرُونِ} نهي، ولذلك حذفت منه نون الجماعة، وهذه نون المتكلم. وحذفت الياء لأنها رأس آية، وإثباتها أحسن في غير القرآن، أي لا تكفروا نعمتي وأيادي. فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب. وقد مضى القول في الكفر لغة، مضى القول في معنى الاستعانة بالصبر والصلاة، فلا معنى للإعادة.


{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)}
هذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، وهناك يأتي الكلام في الشهداء وأحكامهم، إن شاء الله تعالى. وإذا كان الله تعالى يحييهم بعد الموت ليرزقهم- على ما يأتي- فيجوز أن يحيي الكفار ليعذبهم، ويكون فيه دليل على عذاب القبر. والشهداء أحياء كما قال الله تعالى، وليس معناه أنهم سيحيون، إذ لو كان كذلك لم يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرق إذ كل أحد سيحيا. ويدل على هذا قوله تعالى: {وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ} والمؤمنون يشعرون أنهم سيحيون. وارتفع {أَمْواتٌ} على إضمار مبتدأ، وكذلك {بَلْ أَحْياءٌ} أي هم أموات وهم أحياء، ولا يصح إعمال القول فيه لأنه ليس بينه وبينه تناسب، كما يصح في قولك: قلت كلاما وحجة.

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}
قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} هذه الواو مفتوحة عند سيبويه لالتقاء الساكنين.
وقال غيره: لما ضمت إلى النون الثقيلة بني الفعل فصار بمنزلة خمسة عشر. والبلاء يكون حسنا ويكون سيئا. وأصله المحنة، وقد تقدم. والمعنى لنمتحننكم لنعلم المجاهد والصابر علم معاينة حتى يقع عليه الجزاء، كما تقدم.
وقيل: إنما ابتلوا بهذا ليكون آية لمن بعدهم فيعلموا أنهم إنما صبروا على هذا حين وضح لهم الحق.
وقيل: أعلمهم بهذا ليكونوا على يقين منه أنه يصيبهم، فيوطنوا أنفسهم عليه فيكونوا أبعد لهم من الجزع، وفيه تعجيل ثواب الله تعالى على العزم وتوطين النفس.
قوله تعالى: {بِشَيْ ءٍ} لفظ مفرد ومعناه الجمع. وقرأ الضحاك {بأشياء} على الجمع وقرأ الجمهور بالتوحيد، أي بشيء من هذا وشئ من هذا، فاكتفى بالأول إيجازا {مِنَ الْخَوْفِ} أي خوف العدو والفزع في القتال، قاله ابن عباس.
وقال الشافعي: هو خوف الله عز وجل. {وَالْجُوعِ} يعني المجاعة بالجدب والقحط، في قول ابن عباس.
وقال الشافعي: هو الجوع في شهر رمضان {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ} بسبب الاشتغال بقتال الكفار.
وقيل: الجوائح المتلفة.
وقال الشافعي: بالزكاة المفروضة. {وَالْأَنْفُسِ} قال ابن عباس: بالقتل ولموت في الجهاد.
وقال الشافعي: يعني بالأمراض. {وَالثَّمَراتِ} قال الشافعي: المراد موت الأولاد، وولد الرجل ثمرة قلبه، كما جاء في الخبر، على ما يأتي.
وقال ابن عباس: المراد قلة النبات وانقطاع البركات.
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي بالثواب على الصبر. والصبر أصله الحبس، وثوابه غير مقدر، وقد تقدم. لكن لا يكون ذلك إلا بالصبر عند الصدمة الأولى، كما روى البخاري عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى». وأخرجه مسلم أتم منه، أي إنما الصبر الشاق على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها، فإنه يدل على قوة القلب وتثبته في مقام الصبر، وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحد يصبر إذ ذاك، ولذلك قيل: يجب على كل عاقل أن يلتزم عند المصيبة ما لا بد للأحمق منه بعد ثلاث.
وقال سهل بن عبد الله التستري: لما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} صار الصبر عيشا. والصبر صبران: صبر عن معصية الله، فهذا مجاهد، وصبر على طاعة الله، فهذا عابد. فإذا صبر عن معصية الله وصبر على طاعة الله أورثه الله الرضا بقضائه، وعلامة الرضا سكون القلب بما ورد على النفس من المكروهات والمحبوبات.
وقال الخواص: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة.
وقال رويم: الصبر ترك الشكوى.
وقال ذو النون المصري: الصبر هو الاستعانة بالله تعالى.
وقال الأستاذ أبو علي: الصبر حده ألا تعترض على التقدير، فأما إظهار البلوى على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر، قال الله تعالى في قصة أيوب: {إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ} مع ما أخبر عنه أنه قال: {مَسَّنِيَ الضُّرّ}.

{الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {مُصِيبَةٌ} المصيبة: كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه، يقال: أصابه إصابة ومصابة ومصابا. والمصيبة واحدة المصائب. والمصوبة بضم الصاد مثل المصيبة. وأجمعت العرب على همز المصائب، وأصله الواو، كأنهم شبهوا الأصلي بالزائد، ويجمع على مصاوب، وهو الأصل. والمصاب الإصابة، قال الشاعر:
أسليم إن مصابكم رجلا *** أهدى السلام تحية ظلم
وصاب السهم القرطاس يصيب صبيا، لغة في أصابه. والمصيبة: النكبة ينكبها الإنسان وإن صغرت، وتستعمل في الشر، روى عكرمة أن مصباح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انطفأ ذات ليلة فقال: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» فقيل: أمصيبة هي يا رسول الله؟ قال: «نعم كل ما آذى المؤمن فهو مصيبة».
قلت: هذا ثابت معناه في الصحيح، خرج مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته».
الثانية: خرج ابن ماجه في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن هشام بن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب».
الثالثة: من أعظم المصائب المصيبة في الدين، ذكر أبو عمر عن الفريابي قال حدثنا فطر بن خليفة حدثنا عطاء بن أبي رباح قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها من أعظم المصائب». أخرجه السمرقندي أبو محمد في مسنده، أخبرنا أبو نعيم قال: أنبأنا فطر...، فذكر مثله سواء. وأسند مثله عن مكحول مرسلا. قال أبو عمر: وصدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي وماتت النبوة. وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه. قال أبو سعيد: ما نفضنا أيدينا من التراب من قبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أنكرنا قلوبنا. ولقد أحسن أبو العتاهية في نظمه معنى هذا الحديث حيث يقول:
اصبر لكل مصيبة وتجلد *** واعلم بأن المرء غير مخلد
أوما ترى أن المصائب جمة *** وترى المنية للعباد بمرصد
من لم يصب ممن ترى بمصيبة *** هذا سبيل لست فيه بأوحد
فإذا ذكرت محمدا ومصابه *** فاذكر مصابك بالنبي محمد
الرابعة: قوله تعالى: {قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين: لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله: {إِنَّا لِلَّهِ} توحيد وإقرار بالعبودية والملك. وقوله: {وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} إقرار بالهلك، على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الامر كله إليه كما هو له. قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب لما قال: يا أسفي على يوسف.
الخامسة: قال أبو سنان: دفنت ابني سنانا، وأبو طلحة الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأنشطني وقال: ألا أبشرك يا أبا سنان، حدثني الضحاك عن أبي موسى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته أقبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول أقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول فماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد».
وروى مسلم عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها». فهذا تنبيه على قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} إما بالخلف كما أخلف الله لام سلمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه تزوجها لما مات أبو سلمة زوجها. وإما بالثواب الجزيل، كما في حديث أبي موسى، وقد يكون بهما.
السادسة: قوله تعالى: {أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} هذه نعم من الله عز وجل على الصابرين المسترجعين. وصلاة الله على عبده: عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة.
وقال الزجاج: الصلاة من الله عز وجل الغفران والثناء الحسن. ومن هذا الصلاة على الميت إنما هو الثناء عليه والدعاء له، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا وإشباعا للمعنى، كما قال: {مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى}، وقوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ}.
وقال الشاعر:
صلى على يحيى وأشياعه *** رب كريم وشفيع مطاع
وقيل: أراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة.
وفي البخاري وقال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان ونعم العلاوة: {الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. أراد بالعدلين الصلاة والرحمة، وبالعلاوة الاهتداء. قيل: إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر، وقيل: إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن.


{إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}
فيه تسع مسائل:
الأولى: روى البخاري عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما}. وخرج الترمذي عن عروة قال: قلت لعائشة ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا، وما أبالي ألا أطوف بينهما. فقالت: بئس ما قلت يا ابن أختي! طاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطاف المسلمون، وإنما كان من أهل لمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} ولو كانت كما تقول لكانت: {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما}. قال الزهري: فذكرت ذلك لابي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك وقال: إن هذا لعلم، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية.
وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر به بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء. قال: هذا حديث حسن صحيح. أخرجه البخاري بمعناه، وفيه بعد قوله فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ}: قالت عائشة وقد سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطواف بينهما، فليس لاحد أن يترك الطواف بينهما، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس- إلا من ذكرت عائشة- ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} الآية. قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما: في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت.
وروى الترمذي عن عاصم بن سليمان الأحول قال: سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال: كانا من شعائر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} قال: هما تطوع، وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ. قال: هذا حديث حسن صحيح. خرجه البخاري أيضا. وعن ابن عباس قال: كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل كله بين الصفا والمروة وكان بينهما آلهة، فلما ظهر الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله، لا نطوف بين الصفا والمروة فإنهما شرك، فنزلت.
وقال الشعبي: كان على الصفا في الجاهلية صنم يسمى إسافا وعلى المروة صنم يسمى نائلة فكانوا يمسحونهما إذا طافوا، فامتنع المسلمون من الطواف بينهما من أجل ذلك، فنزلت الآية.
الثانية: أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس، وهو هنا جبل بمكة معروف، وكذلك المروة جبل أيضا، ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف. وذكر الصفا لان آدم المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقف عليه فسمي به، ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة، فأنث لذلك، والله أعلم.
وقال الشعبي: كان على الصفا صنم يسمى إسافا وعلى المروة صنم يدعى نائلة فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر، وهذا حسن، لأن الأحاديث المذكورة تدل على هذا المعنى. وما كان كراهة من كره الطواف بينهما إلا من أجل هذا، حتى رفع الله الحرج في ذلك. وزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين فوضعهما على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله، والله تعالى أعلم. والصفا مقصور: جمع صفاة، وهى الحجارة الملس.
وقيل: الصفا اسم مفرد، وجمعه صفى بضم الصاد وأصفاء على مثل أرحاء. قال الراجز:
كأن متنيه من النفي *** مواقع الطير على الصفي
وقيل: من شروط الصفا البياض والصلابة، واشتقاقه من صفا يصفو، أي خلص من التراب والطين. والمروة واحدة المرو وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقد قيل إنها الصلاب. والصحيح أن المرو الحجارة صليبها ورخوها الذي يتشظى وترق حاشيته، وفي هذا يقال: المرو أكثر ويقال في الصليب. قال الشاعر:
وتولى الأرض خفا ذابلا *** فإذا ما صادف المرو رضخ
وقال أبو ذؤيب:
حتى كأني للحوادث مروة *** بصفا المشقر كل يوم تقرع
وقد قيل: إنها الحجارة السود.
وقيل: حجارة بيض براقة تكون فيها النار.
الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} أي من معالمه ومواضع عباداته، وهى جمع شعيرة. والشعائر: المتعبدات التي أشعرها الله تعالى، أي جعلها أعلاما للناس، من الموقف والسعى والنحر. والشعار: العلامة، يقال: أشعر الهدي أعلمه بغرز حديدة في سنامه، من قولك: أشعرت أي أعلمت، وقال الكميت:
نقتلهم جيلا فجيلا تراهم *** شعائر قربان بهم يتقرب
الرابعة: قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} أي قصد. واصل الحج القصد، قال الشاعر:
فأشهد من عوف حلولا كثيرة *** يحجون سب الزبرقان المزعفرا
السب: لفظ مشترك. قال أبو عبيدة: السب بالكسر الكثير السباب. وسبك أيضا الذي يسابك، قال الشاعر:
لا تسبنني فلست بسبي *** إن سبى من الرجال الكريم
والسب أيضا الخمار، وكذلك العمامة، قال المخبل السعدي:
يحجون سب الزبرقان المزعفرا ***
والسب أيضا الحبل في لغة هذيل، قال أبو ذؤيب:
تدلى عليها بين سب وخيطه *** بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها
والسبوب: الحبال. والسب: شقة كتان رقيقة، والسبيبة مثله، والجمع السبوب والسبائب، قاله الجوهري. وحج الطبيب الشجة إذا سبرها بالميل، قال الشاعر:
يحج مأمومة في قعرها لجف ***
اللجف: الخسف. تلجفت البئر: انخسف أسفلها. ثم اختص هذا الاسم بالقصد إلى البيت الحرام لأفعال مخصوصة.
الخامسة: قوله تعالى: {أَوِ اعْتَمَرَ} أي زار. والعمرة: الزيارة، قال الشاعر:
لقد سما ابن معمر حين اعتمر *** مغزى بعيدا من بعيد وضبر
السادسة: قوله تعالى: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِ} أي لا إثم. وأصله من الجنوح وهو الميل، ومنه الجوانح للأعضاء لاعوجاجها. وقد تقدم تأويل عائشة لهذه الآية. قال ابن العربي وتحقيق القول فيه أن قول القائل: لا جناح عليك أن تفعل، إباحة الفعل. وقوله: لا جناح عليك ألا تفعل، إباحة لترك الفعل، فلما سمع عروة قول الله تعالى: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} قال: هذا دليل على أن ترك الطواف جائز، ثم رأى الشريعة مطبقة على أن الطواف لا رخصة في تركه فطلب الجمع بين هذين المتعارضين. فقالت له عائشة: ليس قوله: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} دليلا على ترك الطواف، إنما كان يكون دليلا على تركه لو كان {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما} فلم يأت هذا اللفظ لاباحة ترك الطواف، ولا فيه دليل عليه، وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرج منه في الجاهلية، أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه، فأعلمهم الله سبحانه أن الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصدا باطلا. فإن قيل: فقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ {فلا جناح عليه ألا يطوف بهما} وهى قراءة ابن مسعود، ويروى أنها في مصحف أبى كذلك، ويروى عن أنس مثل هذا. والجواب أن ذلك خلاف ما في المصحف، ولا يترك ما قد ثبت في المصحف إلى قراءة لا يدرى أصحت أم لا، وكان عطاء يكثر الإرسال عن ابن عباس من غير سماع. والرواية في هذا عن أنس قد قيل إنها ليست بالمضبوطة، أو تكون لا زائدة للتوكيد، كما قال:
وما ألوم البيض ألا تسخرا *** لما رأين الشمط القفندرا
السابعة: روى الترمذي عن جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم مكة فطاف بالبيت سبعا فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} وصلي خلف المقام، ثم أتى الحجر فاستلمه ثم قال: «نبدأ بما بدأ الله به» فبدأ بالصفا وقال: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ}
قال: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يبدأ بالصفا قبل المروة، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يجزه ويبدأ بالصفا.
الثامنة: واختلف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة، فقال الشافعي وابن حنبل: هو ركن، وهو المشهور من مذهب مالك، لقوله عليه السلام: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي». خرجه الدارقطني. وكتب بمعنى أوجب، لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ}، وقوله عليه السلام: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد». وخرج ابن ماجه عن أم ولد لشيبة قالت: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول: «لا يقطع الأبطح إلا شدا» فمن تركه أو شوطا منه ناسيا أو عامدا رجع من بلده أو من حيث ذكر إلى مكة، فيطوف ويسعى، لأن السعي لا يكون إلا متصلا بالطواف. وسواء عند مالك كان ذلك في حج أو عمرة وإن لم يكن في العمرة فرضا، فإن كان قد أصاب النساء فعليه عمرة وهدي عند مالك مع تمام مناسكه.
وقال الشافعي: عليه هدى، ولا معنى للعمرة إذا رجع وطاف وسعي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشعبي: ليس بواجب، فإن تركه أحد من الحاج حتى يرجع إلى بلاده جبره بالدم، لأنه سنة من سنن الحج. وهو قول مالك في العتبية. وروي عن ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين أنه تطوع، لقوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً}. وقرأ حمزة والكسائي {يطوع} مضارع مجزوم، وكذلك {فمن تطوع خيرا فهو خير له} الباقون {تَطَوَّعَ} ماض، وهو ما يأتيه المؤمن من قبل نفسه فمن أتى بشيء من النوافل فإن الله يشكره. وشكر الله للعبد إثابته على الطاعة. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى لما ذكرنا، وقوله عليه السلام: «خذوا عني مناسككم» فصار بيانا لمجمل الحج، فالواجب أن يكون فرضا، كبيانه لعدد الركعات، وما كان مثل ذلك إذا لم يتفق على أنه سنة أو تطوع.
وقال طليب: رأى ابن عباس قوما يطوفون بين الصفا والمروة فقال: هذا ما أورثتكم أمكم أم إسماعيل.
قلت: وهذا ثابت في صحيح البخاري، على ما يأتي بيانه في سورة إبراهيم.
التاسعة: ولا يجوز أن يطوف أحد بالبيت ولا بين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر، فإن طاف معذورا فعليه دم، وإن طاف غير معذور أعاد إن كان بحضرة البيت، وإن غاب عنه أهدى. إنما قلنا ذلك لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف بنفسه وقال: «خذوا عني مناسككم». وإنما جوزنا ذلك من العذر، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف على بعيره واستلم الركن بمحجنه، وقال لعائشة وقد قالت له: إني أشتكى، فقال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة». وفرق أصحابنا بين أن يطوف على بعير أو يطوف على ظهر إنسان، فإن طاف على ظهر إنسان لم يجزه، لأنه حينئذ لا يكون طائفا، وإنما الطائف الحامل. وإذا طاف على بعير يكون هو الطائف. قال ابن خويز منداد: وهذه تفرقة اختيار، وأما الاجزاء فيجزئ، ألا ترى أنه لو أغمي عليه فطيف به محمولا، أو وقف به بعرفات محمولا كان مجزئا عنه.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى ملعون. واختلفوا من المراد بذلك، فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كتم اليهود أمر الرجم.
وقيل: المراد كل من كتم الحق، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار». رواه أبو هريرة وعمرو بن العاص، أخرجه ابن ماجة. ويعارضه قول عبد الله بن مسعود: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
وقال عليه السلام: «حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله». وهذا محمول على بعض العلوم، كعلم الكلام أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام، فحكم العالم أن يحدث بما يفهم عنه، وينزل كل إنسان منزلته، والله تعالى أعلم.
الثانية: هذه الآية هي التي أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله: لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثا. وبها استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق، وتبيان العلم على الجملة، دون أخذ الأجرة عليه، إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام. وقد مضى القول في هذا. وتحقيق الآية هو: أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث. أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات ونحو ذلك. يروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها». وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير»، يريد تعليم الفقه من ليس من أهله. وقد قال سحنون: إن حديث أبى هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة. قال ابن العربي: والصحيح خلافه، لأن في الحديث: «من سئل عن علم» ولم يقل عن شهادة، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله، والله أعلم.
الثالثة: لى وجوب العمل بقول الواحد، لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله، وقال: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} فحكم بوقوع البيان بخبرهم.
فإن قيل: إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر. قلنا: هذا غلط، لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجبا للعلم، والله تعالى أعلم.
الرابعة: لما قال: {مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى} دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه، لا سيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان. وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: حفظت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الأخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم. أخرجه البخاري. قال أبو عبد الله: البلعوم مجرى الطعام. قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين، ونحو هذا مما لا يتعلق بالبينات والهدى، والله تعالى أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ} الكناية في: {بَيَّنَّاهُ} ترجع إلى ما أنزل من البينات والهدى. والكتاب: اسم جنس، فالمراد جميع الكتب المنزلة.
السادسة: قوله تعالى: {أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} أي يتبرأ منهم ويبعد هم من ثوابه ويقول لهم: عليكم لعنتي، كما قال للعين: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي}. واصل اللعن في اللغة الابعاد والطرد، وقد تقدم.
السابعة: قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} قال قتادة والربيع: المراد بـ {اللَّاعِنُونَ} الملائكة والمؤمنون. قال ابن عطية: وهذا واضح جار على مقتضى الكلام.
وقال مجاهد وعكرمة: هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم. قال الزجاج: والصواب قول من قال: {اللَّاعِنُونَ} الملائكة والمؤمنون، فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازم ولم نجد من ذينك شيئا.
قلت: قد جاء بذلك خبر رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} قال: «دواب الأرض». أخرجه ابن ماجه عن محمد بن الصباح أنبأنا عمار بن محمد عن ليث عن أبي المنهال عن زاذان عن البراء، إسناد حسن. فإن قيل: كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل؟. قيل: لأنه أسند إليهم فعل من يعقل، كما قال: {رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} ولم يقل ساجدات، وقد قال: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا}، وقال: {وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ}، ومثله كثير، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وقال البراء بن عازب وابن عباس: {اللَّاعِنُونَ} كل المخلوقات ما عدا الثقلين: الجن والانس، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الكافر إذا ضرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثقلين ولعنه كل سامع».
وقال ابن مسعود والسدي: هو الرجل يلعن صاحبه فترتفع اللعنة إلى السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت فيه أهلا لذلك، فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده أهلا فتنطلق فتقع على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تعالى، فهو قوله: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} فمن مات منهم ارتفعت اللعنة عنه فكانت فيمن بقي من اليهود.

{إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}
قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا} استثنى تعالى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم. ولا يكفى في التوبة عند علمائنا قول القائل: قد تبت، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح، وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه. وسيأتي بيان التوبة وأحكامها في النساء إن شاء الله تعالى.
وقال بعض العلماء في قوله: {وَبَيَّنُوا} أي بكسر الخمر وإراقتها.
وقيل: {بَيَّنُوا} يعني ما في التوراة من نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووجوب اتباعه. والعموم أولى على ما بيناه، أي بينوا خلاف ما كانوا عليه، والله تعالى أعلم. {فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} تقدم والحمد لله.


يتبع...


الموضوع الأصلي : تفسير السورة (البقرة) // المصدر : منتديات السهام الروحانية // الكاتب: وليدالرمحى
توقيع : وليدالرمحى






صفحات الموضوعانتقل الى الصفحة : 1, 2, 3  الصفحة التالية


الإشارات المرجعية



التعليق على الموضوع بواسطة الفيس بوك

الــرد الســـريـع
..




الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 20 ( الأعضاء 3 والزوار 17)





تفسير السورة   (البقرة) Collapse_theadتعليمات المشاركة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


تفسير السورة   (البقرة) KEok?bg=99CCFF&fg=444444&anim=0&label=listeners

xml atom feed Rss  1 2  3  4 5 6  7  8  9 10  11  12  13  14  15 16  17 18  19 20  21  22  23  24  25 26  27  28  29 30  31  32  33  34  35  36  37 38  39 40  41  42  43 44  45 46  47  48  49  50  51 52  53  54  55 56  57  58  59  60  61 62  63 64  65  66 67 68  69 70  71  72  73 74  75  76  77 78  79 80  81 82  83  84  85  86  87  88  89 90  91 92  93 94  95  96  97  98  99  100  101  102  103  104  105 106  107  108  109 110  111 112  113 114  115 116  117 118  119  120  121 122  123 124  125  126  127 128  129 130  131 132  133  134  135  136  137  138  139  140  141  142  143 144  145  146  147 148  149 150  

منتديات السهام الاسلاميه

↑ Grab this Headline Animator

Bookmark and Share

RSSRSS 2.0XMLfeedHTML

RSS - XML- HTML  - sitemap

 


Preview on Feedage: %D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%87%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%AD%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%87Add to My Yahoo! السهام الاسلاميهAdd to Google! السهام الاسلاميهAdd to AOL! السهام الاسلاميهAdd to MSN السهام الاسلاميهSubscribe in NewsGator Online السهام الاسلاميه
Add to Netvibes السهام الاسلاميهSubscribe in Pakeflakes السهام الاسلاميهSubscribe in Bloglines السهام الاسلاميهAdd to Alesti RSS Reader السهام الاسلاميهAdd to Feedage.com Groups السهام الاسلاميهAdd to Windows Live السهام الاسلاميه
iPing-it السهام الاسلاميهAdd to Feedage RSS Alerts السهام الاسلاميهAdd To Fwicki السهام الاسلاميه
Loading...

Powered by vBulletin®, Copyright ©2011 - 2015

Jelsoft Enterprises Ltd. a7la-7ekayaJ

تفسير السورة   (البقرة) Forumجميع الحقوق محفوظه لمنتدى السهام الاسلامية


 - الاتصال بناالأرشيفتحويل و برمجة الطائر الحر فريق احلى حكاية لخدمات الدعم الفنى و التطويرلعرض معلومات الموقع في أليكساالأعلى